دبي - خالد الخميسي - بوابة الشروق
الخميس 16 مايو 2024 8:28 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

دبي

نشر فى : السبت 7 مارس 2009 - 8:55 م | آخر تحديث : السبت 7 مارس 2009 - 8:55 م

 كأنك تسير فى إحدى لوحات سلفادور دالى وأنت تستمع لأشعار أندريه بريتون، أبراج هائمة فى بحر لا نهائى من الصحراء، وسط غشاء بللورى رمادى اللون. الجو حار ولكنك لا ترى الشمس. تسير نهارا ولا ترى السحاب. فى بلد عربى ولا ترى أناسا يتحدثون لغة الضاد إلا فيما ندر. أرض وشعب وحكومة ولكن بلا نهر، إنما خور يقسم دبى إلى «ديرة» و«بر دبى». الخضرة لامعة براقة لكنها مطبوعة على ورق مصقول وسط شعارات لغوية متفردة تحيط بشوارع تشق سراب الرمال. اللا معقول يخاطب العالم السحرى لدنيا إعلانات الغرب السعيد.

إمارة أم مؤسسة مالية عملاقة؟ لا يهم، فقد أضحت دبى عاصمة من عواصم المال فى العالم تنافس بقوة هونج كونج وسنغافورة، كل واحدة منها بحجم عقلة الأصبع ولكن تدار بعقلية الكبار. نظام عام محكم ومحترم من الجميع لضخ مزيد من الاستثمارات. تبدو أحيانا المسائل خارج السيطرة أو السياق أو المنطق ولكن على العكس فالمسائل تدور فى فلك منظومة شديدة الدقة.

أمست دبى ليس فقط محط أنظار رجال المال والأعمال ولكن أيضا قبلة للسائحين، يسافر لها من بعيد الأزواج الجدد لقضاء شهر العسل رغم أن درجة حرارة مياه الخليج العربى فى دبى تكاد أن تكون صالحة لسلق الديوك الرومى. أما فى المحيط الإقليمى العربى فهى العاصمة المالية بلا منازع، فالمكاتب الممثلة لمعظم الشركات العالمية فى الشرق الأوسط مقرها ليس القاهرة أو جدة أو الكويت أو دمشق أو الدار البيضاء ولكن دبى. نجاح باهر لا شك فيه. ولكن هل تهتم إمارة دبى بثقلها الإقليمى؟ لا أظن. فعيونها متجهة فقط نحو الشمال الغربى البعيد.

والأمثلة كثيرة: دعيت منذ أسبوع إلى مهرجان أدبى ناجح فى إدارته وكان معظم الأدباء فيه من العالم الغربى وقلة قليلة من أدباء العرب. فى الافتتاح التاريخى لفندق أطلانطس فى 20 نوفمبر الماضى كتبت الـ«بى.بى.سى» عن حضور ألفى شخص من المشاهير، كان فى مقدمتهم الإعلامية اللامعة أوبرا وينفرى والممثل روبرت دى نيرو والرياضى مايكل جوردون، وقامت بالغناء نجمة البوب الأسترالية كايلى مينوج. كان معظم الضيوف والفنانين من العالم الغربى، وفقد النجوم المصريون ثقلهم التاريخى فى تلك المناسبات بعد أن خف وزن دولتهم حتى انتقلت فى دورة الألعاب الأوليمبية إلى مسابقة وزن الريشة.

حتى فى مجال الدعارة سيطرت فاتنات شرق أوروبا، واكتسحوا الجو المفعم بالدراهم، وما تزال داعرات مصر ولبنان والمغرب يسعين للمنافسة بشق الأنفس. تلك المسحة الشقراء فى أجواء دبى جعلت الثقافة العامة أكثر ليبرالية وأكثر تفتحا. روى لى صديق مصرى عن قرار حكومة دبى بتغيير الواجهة الزجاجية الصماء المضادة للرصاص فى مبنى إدارة الجنسية والإقامة، والمصمم على غرار النمط الأمريكى بتكاليف باهظة بواجهات مفتوحة تسمح بلقاءات إنسانية بين الموظف الحكومى والمتعامل.

حكى لى آخر أن حكومة دبى استطاعت خلال العقد الماضى تغيير الثقافة السائدة وهذا أكبر إنجاز. سهولة الإجراءات وسيولة المعاملات وسرعة الإنجاز واحترام القوانين هى شعارات الثقافة الجديدة. ولكن تلك الليبرالية وهذا الانفتاح رفع الشارة خضراء للدعارة كى تترعرع، ورفع الشارة حمراء للمخدرات بكل أنواعها باعتبارها أكبر جرائم البشرية. بدا الأمر غريبا. فالحشيش كما قال الفيلسوف نور الشريف فى فيلم العار «إن كانت حلال أدينا بنشربها وإن كانت حرام أدينا بنحرقها» ولكن الدعارة ليس لها وجهان.

سألت أحد المصريين المقيمين هناك لأستنير بتحليله. قال لى: «الأمر فى منتهى البساطة، فلا يمكن لدبى التساهل فى قضية الإتجار فى المخدرات حيث إن أرباحها هائلة، وفى إمارة صغيرة كهذه من الممكن تصور أن يصبح لهؤلاء بسرعة الكلمة العليا فى جماعات عالم المال، بحيث يتفوقون على قطاعات التشييد والاتصالات والمصارف، ويكون لذلك أوخم العواقب. أما الدعارة فعلى العكس، يمكن السيطرة عليها بل واستغلالها، فأولا وجود الداعرات على أرض الوطن يمَكّن الدولة من التأكد من حالتهن الصحية بكشف دورى يتم بالفعل كل ستة أشهر بحيث لا يصاب الشعب بأمراض والعياذ بالله من جراء مغامرات خارجية، وأيضا ينشط عالم السياحة باعتبار أن الجنس أحد مقومات السياحة الرئيسية، والأهم فهؤلاء يعملن كمرشدات للشرطة، كحصن للملايين أقصد للآلاف ضد أى جريمة محتملة أو إبلاغ عن وجود مخدرات، فهن يدخلن المنازل ويعلمن عن بواطن الأمور ما لا يمكن معرفته دونهن. وفى النهاية يعطى وجودهن فى كل مكان تلك المسحة الشقراء المحببة بنكهة ثقافة الآخر».

تلك الثقافة حملتها دبى وجرت بها جرى الوحوش، ولكنها لم تحسب حساب الأزمة الاقتصادية. ضربت الأزمة العالم بقبضتها فانكشف المستور عن فراغ يحدق فى فراغ. حسبناها مياها ولكنها كانت سرابا. وظهرت مديونية دبى كحقيقة مفزعة. وحول الكساد حكى لى مصرى يعمل فى شركة توكيل سيارات يابانية أن المبيعات خلال الثلاثة شهور الماضية انخفضت بنسبة 80% عن مثيلاتها فى العام الماضى، وأنه شخصيا كان يبيع على مدار الأعوام السابقة حوالى التسعين سيارة شهريا، وهو الآن يعجز عن تحقيق مبيعات تتعدى أصابع اليد الواحدة. وأن الشركة قامت بفصل ثلاثة آلاف عامل فى نهاية يناير الماضى.

وحكى لى آخر أنه يعرف العديد من العائلات تركوا منازلهم وسياراتهم بأقساطها المصرفية المتبقية، وعادوا إلى بلادهم بعد أن فشلوا فى العثور على عمل جديد. وقد شاهدت بعينى العمل متوقفا فى عشرات الأبراج، أما المطار الذى شاهدته قبلا خلية نحل وجدته هذه المرة خاليا من الضجيج. أما الاقتصاديون فيتوقعون إلغاء أو تجميد مشروعات فى دبى بمئات المليارات من الدولارات واستغناء الشركات عن آلاف العاملين. وأمام الأزمة عادت الثقافة، بحمد الله، إلى عروبتها، ونفى المسئولون دخول دبى فى حالة كساد وأن الحال عال العال وأطلق الجميع شعارات متفائلة بينما جحافل البشر الأجنبية تعود إلى بلادها.

خالد الخميسي  كاتب مصري