نحن وتاتا ونانو - محمد المخزنجي - بوابة الشروق
السبت 27 أبريل 2024 12:59 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

نحن وتاتا ونانو

نشر فى : الخميس 7 يناير 2010 - 9:15 ص | آخر تحديث : الخميس 7 يناير 2010 - 2:17 م

 فى مدينة أجرا الهندية رأيت هذا المنظر: دراجة تريسكل يقودها شاب أسمر نحيل وفى مقدمتها صندوق خشبى كبير مكدس بأطفال فى زى مدرسى غريب وبديع باللونين الأحمر النبيذى الصارخ والبنفسجى الدافئ العميق، وهم سمر ونحاف وعيونهم السوداء الواسعة ملفتة الجمال.

عددت فى الصندوق عشرة أولاد وبنات فى عمر الروضة، فكأنهم زحمة كتاكيت ملونة فى علبة كرتون. لقد كانوا عائدين من المدرسة، وكانت هذه وسيلة انتقالهم، واقشعر بدنى تحنانا وخوفا عليهم أن يقعوا من هذا الصندوق المتمايل على دراجة،

ولعل هذا المشهد نفسه هو الذى فجّر فكرة «نانو» فى عقل «تاتا»، لكنه بالقطع ليس السبب الذى جعلنا ندخل فى هذه الحِسبة تبعا للخبر الذى بثته وكالات الأنباء على لسان سفير مصر فى الهند.

أما «تاتا»، فهو «راتان تاتا»، سليل عائلة تاتا الزرادشتية الهندية الصناعية العريقة، ورئيس التكتل الاقتصادى الهندى العملاق الذى يحمل اسم هذه العائلة، ويُنتِج بين ما يُنتِج أجيالا من السيارات التى تحمل الاسم نفسه، وتُعتبر منافسا عالميا فى سوق صناعة وتطوير السيارات الآن، وليس مجرد تجميعها كما لدينا.

كان راتان تاتا قد أعلن فى معرض السيارات فى جنيف، بأن السيارة التى وعد الهنود بالحصول عليها لقاء ألفى دولار فقط، وهى بذلك أرخص سيارة فى العالم، ستكون فى شوارع المدن الهندية فى أقرب وقت، وقد حدث ما وعد به وأطلقت مجموعة «تاتا موتورز» سيارتها الموعودة منذ وقت قريب هذا العام، وهى تحمل اسم «نانو».

وعن هذه النانو قال تاتا: «لقد لاحظت عائلات هندية تركب دراجات نارية، الأب يقود وابنه أمامه، بينما زوجته تجلس وراءه حاملة رضيعا، وتساءلت كيف يمكن أن نبتكر وسيلة نقل لهذه العائلة، تكون آمنة وغير مكلفة، ومناسبة لجميع الأحوال الجوية».

كان كل ما قاله تاتا عن نانو صحيحا، لكنه نصف الحقيقة، فالنصف الآخر هو أن الأزمة المالية العالمية ضربت صناعة السيارات فى العالم وقلصت مبيعاتها، وفى الهند تراجعت مبيعات السيارات بنسبة 20% بعد سنوات من النمو فاق العشرة فى المائة، كما أن الطلب على السيارات الهندية خارج الهند كان قد تراجع أيضا، فكانت فكرة تاتا المُمثَّلة بنانو سهما رأسماليا عبقريا يصيب هدفين فى وقت واحد، أحدهما اجتماعى حسن النية على ما يبدو، والآخر يتعلق بالربح، ثم الربح.

فالسيارة نانو بزغت لتجذب إلى سوق السيارات عشرات الملايين من الأسر الهندية المصنفة بين الطبقات الوسطى القادرة على دفع ألفى دولار لاقتناء سيارة، وهذه سوق جديدة والرهان عليها مضمون، لكن تاتا كان يطمح لما هو أكثر من ذلك، فنانو الظريفة اللطيفة بالفعل سيتم تجهيزها بمعدات تتطابق مع معايير السلامة ومكافحة التلوث الأوروبية لتباع فى أوروبا عام 2011 لقاء خمسة آلاف يورو!

وللعلم فإن الهند أزاحت اليابان الآن عن قمة منتجى السيارات الصغيرة فى العالم، ومن المُرجَّح أن تظل شاغلة لهذا المركز الأول لسنوات مقبلة، حيث تتكالب عليها شركات كبرى مثل فورد ونيسان وجنرال موتورز وفولكس فاجن وحتى شنجهاى أوتوموتيف الصينية، وتضخ هذه الشركات مليارات الدولارات لإنتاج السيارات الصغيرة الرخيصة فى الهند، مما يعنى مصانع أكثر، وفرص تشغيل أوفر، ودخولا هائلة للهند المخطط لها أن تكون قاعدة تصدير عالمية لهذه السيارات الصغيرة، مع التركيز على أفريقيا والشرق الأوسط كما جاء فى أحد التقارير التى أطلقتها من الهند صيحة «تاتا نانو»!

ونانو فى الهند ليست هى نانو التى ستكون فى أوروبا كما هو واضح، فهى فى الهند تكاد تكون «توك توك» جديد جميل بأربع عجلات ومحرك صغير سعته 624 سنتيمترا مكعبا، أى ما يوازى محرك دراجة نارية بسيطة، وستفتقر إلى التكييف والنوافذ الأوتوماتيكية والمقود الهيدروليكى، وهذا كله قد يكون أرحم من صناديق التريسيكلات هناك، فما شأننا نحن بهذا كله؟
إهيييه!

وهل كان فم تاتا أو حطاطا المصرى الواسع والمفتوح دائما يسمح بإفلات هذه اللقمة السُخنة؟ طبعا لا، لكن الجديد هنا أن الخارجية المصرية أقحمت نفسها فى هذا الشأن أو تم إقحامها فيه، فقد نشرت جريدة «منت» الهندية فى مومباى خبرا نقلته عنها وكالة رويترز، وجاء فيه أن «مصر دعت شركة تاتا موتورز الهندية لإنشاء مصنع لإنتاج السيارة نانو أرخص سيارة فى العالم لبيعها فى السوق المصرية وأسواق أخرى»!

ونقلت رويترز عن الصحيفة الهندية عن محمد حجازى سفير مصر فى الهند قوله «إن مصر تسعى للحصول على موافقة تاتا لإنتاج السيارة نانو ذات عجلة القيادة اليسرى فى مصر حيث توجد سوق ضخمة متوقعة ليس محليا فقط وإنما على مستوى سوق السيارات ذات عجلة القيادة اليسرى فى الشرق الأوسط وأوروبا»، وهكذا لم تتطلع الخارجية المصرية إلى تاتا ونانو إلا من زاوية السوق، فاختلطت الدبلوماسية بالتجارة، وضاعت البيئة وما حولها فى هذه الخلطة!
لا أعرف إن كان سعادة السفير المصرى فى الهند يعرف أن هناك اعتراضات هندية معتبرة لا ترحب بهذه النانو تاتا أم لا؟

فهذه السيارة الرخيصة أثارت حفيظة كثيرين من دعاة البيئة هناك، ومنهم «راجيندرا باشورا» رئيس مجموعة الخبراء الدوليين فى التغير المناخى وحائز جائزة نوبل للسلام عام 2007 والذى علّق على هذه السيارة بقوله: «إن وسيلة النقل هذه لا يمكن أن تدوم فى الهند ثالث بلد ملوَّث فى العالم». فماذا عن مصر التى تتسنم عاصمتها قمة المدن الملوثة على كوكب الأرض؟

أُرجِّح بقوة الذكريات التاريخية عن عراقة الخارجية المصرية أن السفير المصرى فى الهند ليس صاحب مصلحة فى هذه السبُّوبة، لكنه على الأقل افتقد رحابة النظر إلى هذه النانو تحت وطأة مطالبات من خارج الخارجية لا تنظر إلى أى شىء إلا من زاوية القنص، قنص آخر أهيف فى جيوب المصريين من الطبقة الوسطى المنهوكة، وهم يندفعون لاقتناء هذه السيارة المناسبة لتحويشة أعمارهم الضنينة، لعلها تكون نعيما متواضعا يحمى أسرهم من جحيم ما يُلاقونه فى تنقلاتهم بالمواصلات العامة المُتهالِكة والمُهلكة.

وبعيدا عن الشئون الخارجية، واتجاها للهموم الداخلية، فإن سيناريو النانو فى مصر سيكون على الوجه التالى (إذا سمح تاتا وصرّح بتجميع النانو فى مصر): لن يتجاوز سعر السيارة بعد إضافة الذى منه 15 أو 20 ألف جنيه على الأكثر، وتبعا لسياسة بيع السيارات بالتقسيط بمقدم أو بدون، ستهجم البنوك لتمويل هذه السويقة الهائلة والتى من المتوقع أن يُقبِِل عليها مئات الآلاف من شبه المستورين المعذبين فى وسائل المواصلات العامة والمكويين ببنديرة تاكسى العداد التى لا تتوقف مهما طالت اختناقات المرور الخانق على الدوام.

وهكذا ستظهر فى زحمة شوارعنا زحمة إضافية من آلاف النانوهات، والتى ستكون من الطرازات الهندية طبعا، لا الأوروبية النِمَكية فى اشتراطات السلامة والحفاظ على البيئة!

ستكون كارثة مرورية وجائحة بيئية تجعل السحابة السوداء أشد سوادا، فلماذا هذا العمى كله؟ لأن لدينا متنفذين قصار النظر، يبصرون ما تحت أقدامهم ولا يتطلعون ولو خطوات قليلة إلى الأمام وأبعد من مرمى التسكين والترقيع وتمشية الحال، برغم أن هذه التمشية قصيرة العمر ووخيمة العواقب.

وهذا كله يستصرخنا ليس فقط للتحذير من جائحة النانو، بل التحذير من استمرار ما نحن عليه، فنحن فى حاجة حقيقية لتفكير جديد، ليس هو قطعا تفكير «الشلة» إياها التى يرى قلب هجومها أن زيادة مبيعات السيارات مؤشر دال على النمو، بل تفكير بعيد النظر ومسئول الضمير عن الحاضر والمستقبل،

يفكر فى حل المشكلة جذريا كما ينبغى: مواصلات عامة وفيرة وجيدة وميسورة، وسيارات تعمل بالطاقات غير الملوِّثة للبيئة، وتخصيص مسارات للدراجات الهوائية وشوارع للمشاة ولو فى المدن والضواحى الجديدة كما فى قلب القاهرة المُتعَب القديم، وغير ذلك كثير، كثير مما تتوخاه عقول الدنيا البصيرة النبيهة، لا شراهة حيتاننا العمياء.. السفيهة!


محمد المخزنجي كاتب مصري كبير ، وطبيب أمراض نفسية ، ولد في المنصورة ، وعمل في مجلة العربي الكويتية ثم تفرغ ككاتب حر ، يُعتبر من أبرز كتاب القصة في العالم العربي ، وله إسهامات متفردة في الكتابة العلمية وأدب الرحلات والمقال الصحفي .