مواجهة النفس - خالد الخميسي - بوابة الشروق
الخميس 16 مايو 2024 2:12 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

مواجهة النفس

نشر فى : الأحد 6 ديسمبر 2009 - 9:35 ص | آخر تحديث : الأحد 6 ديسمبر 2009 - 9:35 ص

 هناك دائما قشة، نقطة تحول، لحظة كاشفة تدفع الإنسان لمواجهة ذاته وإعادة تقييم حياته وإعادة تقييم الأدوار التى يلعبها، غصبا عنه فى أحيان كثيرة. كانت هذه اللحظة بالنسبة إليها يوم أحالت أنجب تلاميذها إلى التحقيق.

لم يمر على هذا اليوم غير أسبوع واحد، وها هى تجد نفسها حائرة أمام مرآة الحقيقة ولا تعرف ما العمل؟ تم تعيينها عميدة كلية فى إحدى الجامعات المصرية منذ خمسة أعوام. وكان هذا الترقى الوظيفى الذى جاء بعد سنوات وعقود من البحث العلمى والعمل الجاد المتصل بمثابة شرارة ألهبت حماسها وانطلقت تعمل بلا توقف وهى على يقين أن باستطاعتها إضاءة طريق ولو جانبى فى نهضة وتنمية الوطن.

وفى نفس العام تم تعيين أحد ألمع الطلبة الذين قامت بتدريسهم معيدا فى الكلية. كان تعيينه نتيجة طبيعية لتفوقه العلمى والإنسانى، الطالب المثالى عن حق. كانت سعادتها كبيرة أن الكلية سوف تحظى بمثل هذه الموهبة. الفرد يصنع التاريخ. العلم الذى يقود مستقبل البشرية يصنعه أفراد مثل هذا الشاب. هو وغيره سوف يصنعون بلا شك شيئا مختلفا.

لم تتصور أبدا أنها سوف تضطر يوما إلى إحالته إلى التحقيق. قبل أن تفعل استدعته فى مكتبها وتناقشت معه بالحجة. قالت له إنها حذرته أكثر من مرة أنه لا يلتزم بمواعيد التدريس. يسير على سطر ويقفز فوق السطر التالى. سألته أين التزامه الذى كان مضربا للأمثال؟ كان رده تقليديا فلم يقنعها البتة. هو مسئول عن والدته وعن أخته الصغيرة، وزوجته حامل، والدخل غير كاف. عليه أن يعمل فى أكثر من مكان لكى يستطيع تحمل تكلفة حياة أصبحت ترفع شعار «للصوص فقط».

لا يستطيع التفرغ للكلية فما تدفعه له لا يكمل مصروفات الأسبوع الأول من الشهر.

صرخت فى وجهه قائلة إنه ينظر تحت أقدامه. عليه ألا ينسى الدور الذى يجب أن يلعبه إزاء المجتمع. فكما تم تعليمه من أساتذة متفرغين يجب عليه أن يكمل المسيرة ويقوم بتدريس ما تعلمه للأجيال القادمة. عليه أن يسلم الشعلة الذى كان أول من تلقفها بكل عشق إلى الجيل التالى وإلا فكيف يمكن للحياة أن تستمر؟ كيف سوف يتعلم أبناؤه هو شخصيا إن لم نلقن العلم والمعرفة إلى الذين سوف يقومون بتدريس العلوم لهم.

شرح لها أنه يفعل ما يفعل للسبب ذاته، للحياة التى تتحدث عنها. هو يسعى أن يستمر وعائلته فى هذه الحياة. وقفت ودارت حول مكتبها الكبير لتواجه طالبها المثالى وقالت له بصوت هادئ: «عليك أن تنظر إلى الأشياء فى مجملها، أن تنظر من أعلى. هل يمكن أن تقول لى كيف يمكن للشركة الاستثمارية التى تعمل بها أن تستمر فى العمل دون أن تجد الموظفين الأكفاء الذين يصنعون المجد المالى لصاحبها؟ هذه الشركة التى تعمل بها سوف تغلق أبوابها بعد سنوات قليلة لو لم تصنع أنت أجيالا جديدة من الأكفاء للالتحاق بها، وسوف تغلق جميع الشركات الأخرى أبوابها. هى تعيش بك وبأمثالك ودون وجود العمالة المتعلمة قل على الدنيا والوطن السلام».

لم يرد عليها واكتفى بالنظر بعيدا نحو الأشجار السامقة خلف النافذة. صاحت فيه: «قدِّم إذن استقالتك، فصاحب بالين كداب وصاحب تلاتة منافق». فأجاب أنه يحتاج أيضا لراتب الجامعة ولا يستطيع أن يرحل وإلا سوف ينهار التوازن الهش لميزانية عائلته، وعلى أية حال فالمنافق أفضل من الفاسد ومن القاتل ومن اللص ومن الديكتاتور.

اضطرت أن تحيله إلى التحقيق لعدم التزامه بمواعيد محاضراته. بكت فى تلك الليلة بحرقة وكأنها تبكى فقدان أم لابنها. كيف لا يرى جريمته فى حق الطلبة؟ بل فى حق نفسه ومستقبله. كيف تحول حلمها فى أن ترى عبقرية تتفتح وتفيض على الجميع بوهج ألقها إلى شيخ لا يقوى على الفعل ويكتفى أن يكون مفعولا به من سهم إشارات السوق المصرفية المصرية.

نامت والكوابيس تلاحقها واستيقظت فى اليوم التالى وقد تفجر فى عقلها السؤال الأكبر: ما الذى يبقيها هى فى منصبها إذا لم تكن قادرة على دفع تلاميذها نحو الإنجاز العلمى، نحو الاستمرار فى حمل الشعلة؟ ما الذى يبقيها فى كلية لم تستطع أن تمنح الاستقرار أو الأمان لأنجب أبنائها؟

ما فائدة العلم والتعليم إذا كان العباقرة يضطرون إلى العمل مهرجين داخل نظام كامل من المهرجين. هل كان يجب عليها أن تقدم استقالتها ــ بدلا من أن تطلب منه أن يقدم هذه الاستقالة ــ من مؤسسة جامعية لم يشكل ما تقبضه شهريا منها غير مصروفها فى أيام قليلة وتتكفل عائلتها بباقى مصروفاتها؟ وجدت نفسها أمام أسئلة بلا نهاية. ذهبت إلى الكلية صباحا والظلام يكفن دنياها وهى لا تعرف ما العمل؟

خالد الخميسي  كاتب مصري