باب النهار - خالد الخميسي - بوابة الشروق
الخميس 16 مايو 2024 12:26 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

باب النهار

نشر فى : الأحد 6 يونيو 2010 - 1:39 م | آخر تحديث : الأحد 6 يونيو 2010 - 1:39 م

 ذكرى قديمة بقيت جرحا داخل روحى وأنبتت سؤالا ظل بلا جواب. كنت تلميذا فى المرحلة الثانوية متوجها إلى حلوان بالقطار الذى كان يتحرك من باب اللوق. كانت عربة القطار مزدحمة. وقف إلى جانبى جندى شاب تبادل معى كلمتين ثم سرعان ما استغرق فى النوم فى الوضع واقفا رغم الضجيج وحركة القطار. لا شك أنه كان فى حالة شديدة من الإنهاك. ظللت أتأمله. كانت ملامحه تشى بأصوله الشمالية.

من البحيرة أو الدقهلية أو من بورسعيد. قصيرا. رفيعا كعود القصب. فاتح البشرة. أشقر الشعر. كانت المرة الأولى التى أرى فيها شخصا فى سبات عميق وهو واقف على قدميه. بعد محطتين دخل ضابط وبدون أى داع صفع الجندى على قفاه بكل قوة صارخا فى وجهه أن على الجندى أن يكون دائم التيقظ.

ثم صفعه مرة أخرى على وجهه قائلا: «اصحى». تخيلت أن الجندى سوف يعترض أو يتذمر أو تبدو على محياه أى علامات امتعاض أو حتى اعتراض. ولكن لا شىء. فتح الجندى عينيه الخضراوين وانتظر أن يبتعد الضابط قليلا ثم أكمل نومه وكأن شيئا لم يحدث. وكان سؤالى متى يتبلد إحساس إنسان بحيث لا يبدو عليه أنه شعر بأية إهانة عندما يضرب مرتين دون أى سبب؟ ما الذى اختبره لكى يصل بجسده إلى هذا التبلد؟

فتاة يتم اغتصابها فى الشارع من أقرانها وأهلها منذ كانت فى الحادية عشرة من العمر، ثم استمرت عملية اغتصابها من رجال لا تعرفهم على مدار ثلاثين عاما بصورة شبه يومية. ألن يشعر جسدها بأية إهانة عندما يتم اغتصابها مجددا؟ هل هتك روحها لن يجلب إليها أى شرخ أو جرح؟ ومتى بالضبط سوف تبدأ مرحلة التبلد فى إحساسها بحيث يكون اغتصابها كاللعب معها لعبة طريفة؟

يتوقف شعورنا بالألم عندما نقتل مراكز شعورنا. أتذكر انبهارى وأنا طفل صغير وأنا أشاهد أفلام الكاراتيه فى دور العرض السينمائية الصيفية عندما يدفن البطل يديه داخل الرمل الملتهب لإماتة أعصاب كفيه قبل معركته النهائية مع الشرير.

ولكن أتموت حقا مراكز الإحساس فى أرواحنا؟ أعرف أننى عندما أحضر مضطرا أحد الأفراح أننى أشعر بعد فترة وجيزة بالصمم من شدة الصراخ. ولكن سرعان ما أسترجع قدرتى على السمع بعد خروجى من الهول. ويبقى سؤالى لو استمر الفرح عقودا من الزمن أسيكون صممى نهائيا؟

متى تفقد الكلمات معناها؟ قرأت فى قصيدة منشورة على الإنترنت تقول: «فى غيابك تتوقف الكلمات.. فى غيابك لا شىء يكتب...عندما تغيب تلحق بك كل حروف اللغة.. وتتبعك كل الكلمات». أيتحدث الشاعر هنا عن فكرة الحرية؟ أم فكرة العدالة؟ لا أعرف يقينا.

ولكن ما أنا موقن منه أنه فى لحظة بعينها تنسل الحروف من بين ثقوب العقل، تهرب منا الكلمات وما يبقى فى إصرار يضج برجع أجوف لا معنى له. غنى عبدالحليم حافظ يوما: «سكت الكلام والبندقية اتكلمت.. يا شعب يا واقف على باب النهار...قربت بصمودك طريق الانتصار.. وزرعت من تانى الأمل فى كل دار.. واتجمعت كل الأيادى من كل بيت طلعت تنادى على الطريق وتقول بلادى». كان واضحا للشاعر أن الكلام أصبح لا معنى له. ولكنه أخطأ عندما قال إننا كنا نقف على باب النهار. فيبدو أن الطريق المؤدى لهذا الباب تحديدا ما زال أمامنا الكثير لكى نصل إليه.

عندما ضللنا الطريق المؤدى إلى باب النهار فقدت الكلمات معناها. تحولت إلى ضجيج لا يؤدى إلى طحين. أستمع مساء وأنا جالس وحدى فى صالون منزلى إلى زعماء الحزب الحاكم وهم يقولون: دعوهم يتكلمون أكثر وأكثر. وكلما كثر الكلام كلما كثر الزعيق كثرت الفوضى. شعارهم: نعم لزيادة القنوات الفضائية والبرامج الحوارية والمقالات الصحفية وعباقرة التحليل السياسى. حروف وكلمات وجمل.. كلام ثم كلام ثم كلام. بأصوات عالية وصراخ. حالة فوضى كلامية لن تؤدى إلا إلى مزيد من الفوضى العامة مع حالة استقرار لوضع الحزب الحاكم.

تبلدت أسماعنا وجفت أرواحنا. أما مراكز إحساسنا فقد أصابها العطب. أصبحنا كبطل الكاراتيه بعد أن أمات أعصاب جسده ولكننا على عكسه لم نعرف بعد الشرير الذى يجب أن نواجهه فى معركة الفيلم الأخيرة.

خالد الخميسي  كاتب مصري