المغول - محمد المخزنجي - بوابة الشروق
الأربعاء 1 مايو 2024 10:42 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

المغول

نشر فى : الأربعاء 5 أغسطس 2009 - 11:19 م | آخر تحديث : الأربعاء 5 أغسطس 2009 - 11:19 م

 عادا يطلان علينا عبر شاشات التليفزيون بوجهيهما اللحيمين، أولهما تافه الفرح برجوعه الصادم للناس، والثانى متهافت الغباوة فى جريمة أذهلت الناس. كيانان طافحان بعافية الترف المنهوب، أوحيا لى بطابع مغولى فيهما، وفى رهط أمثالهما الذين طفوا على سطح حياتنا طوال سنوات البلطجة الثقيلة، طابع ينتمى إلى تلك السلالة التى خرجت على الدنيا كإعصار مسعور منذ ثمانية قرون.. قبائل متوحشة من القفار الرملية فى شمال آسيا توحدت تحت إمرة « جنكيز خان» أى «الملك الذى لا يلين» وراحوا يكتسحون الأمم كمنجل دموى، ولم يكونوا يمتازون بشىء إلا قسوتهم البالغة، واتباعهم تكتيكا قتاليا أسموه «النيرج»، استلهموه من طقوس الصيد الوحشى وهم على ظهور الخيل، حيث كان كل من عداهم من البشر مجرد فرائس ينبغى حصارها بلا رحمة وقتلها دون تردد.

ولعل «النيرج» هو نفسه أسلوب المغول المصريين، الذين خرجوا علينا من تصحُّر الأرواح وتبلُّد النفوس، وكان تكتيكهم هو الصيد الجائر من لحم الأمة، صيد الأرباح الجنونية بكل الوسائل غيرالمشروعة، وغير المعقولة، وأشهرها نهب أراضى الدولة وأموال البنوك وجراب الخصخصة، وكأنها ممالك تطويها سنابك خيل الغزاة تحت الراية المرفرفة بسيفين أحدهما للفساد والثانى للنفوذ؟

كانت راية المغول الأصليين تحمل سيفين متوازيين أيضا، إشارة للجنسين المتوحشين اللذين وحدهما جنكيز خان لاجتياح العالم، لكن الترف البالغ الذى فاضت به البلدان المفتوحة على هؤلاء المغول الأصليين ألانت الكثير من طباعهم المتوحشة، وأكسبتهم حساسية جديدة من جميل فنون وتقاليد وعقائد ومناخات الأمم المغزوَّة، وترجموا هذه الحساسية إلى اعتناق أديان جديدة، وميل للترف والجمال، لكنهم استبقوا من حوشيتهم الأولى نزوعا جنونيا للولوغ فى اللحم، حتى ليقال إن قبلاى خان الذى حكم الصين كانت له مائة زوجة دفنوهنَّ معه أحياء عندما وافته المنية، وكانت مَنيَّته إيذانا بتحلل إمبراطورية الرعب المغولى التى لم تُكمل قرنا واحدا من عمرالزمان. وياله من عمر قصير، مرير!

بعد ثلاثة قرون من تلاشى إمبراطورية الرعب المغولية الكبرى، نجح حفيد مسلم من سلالة جنكيز خان فى فتح شمال الهند واتخاذ أجرا عاصمة لدولته، وفى أجرا توالى حكم السلالة التى ألانت القرون قسوتها، وأكسبت ملوكها أبعادا روحية وجمالية مستجدة، فكانت حصونهم وقلاعهم وقصورهم مترعة بالحدائق التى ترقص فيها النوافير وتنساب القنوات، وخرجت من مطابخهم أشهى الأطباق التى يطيب لزائر الهند تذوقها، لكنهم لم ينسوا غواية الولوغ فى اللحم، فخلّفوا أطرف كتاب جنسى فاحش، وهو الكاماسوترا، الذى تقطع لوحاته دقيقة النمنمة وبهيجة الألوان بأنه قفز من فوق أسوار حصونهم ليفشى أسرار عربدتهم الجامحة. فهل غلب على مغولنا شىء من هذا الطبع؟


ربما، ولكن بتشوه سوقى ورعونة عجيبة، فهوس الولوغ فى اللحم تحول إلى جرائم قتل وتسجيلات فضائحية ومطاردات صبيانية للغوانى تُسفح فيها الملايين. أما ولع امتلاك القصور والتجارة فى القصور، فشتان بين بهاء وشموخ تاج محل والقلعة الحمراء وحدائق سرينجار وبحيراتها والقنوات، وبين هذه العمارة المسخ التى نشرها مغولنا حيثما امتدت أياديهم الناهبة، والتى لم تسلم منها مياه النيل!

فإذا جاز لأباطرة مغول الهند، بلد الأنهار والأمطار الموسمية الغامرة، أن يسرفوا فى شق القنوات وإطلاق النوافير وإفساح البحيرات، فإنه لايجوز أبدا لمغولنا، فى مصر التى يزداد فقرها المائى جيلا بعد جيل، أن يبرطعوا بحمامات السباحة والبحيرات الصناعية والقنوات وبرك الجولف، فيما يستثمرون من معمار غشيم.

والأخطر من ذلك، أن مغولنا هؤلاء، فى هوجة الأرباح الطائلة من لعبة نهب أراضى الدولة وأموال البنوك والخصخصة السفيهة، أشاعوا مناخا من الالتهاء بالاغتراف من يغمة الداخل، استدرج حتى بعض من كانوا جيدين، فغابت عن الأذهان كارثة تترصدنا من الخارج، وتستهدف شريان حياة مصر. ولم يُصغ أحد لأصوات قليلة عالمة، كصوت الدكتور رشدى سعيد الذى بُحَّ تحذيرا وتنويرا، وهو ينبه لما يحاك لنا عند منابع النيل، خاصة فى الهضبة الأثيوبية.

أدرنا ظهرنا لظهيرنا الأفريقى، فتسلل جيش خبراء الشر العالميين، ومقاولى الجرائم الدولية، ومخططى حروب الماء، وأبدى البنك الدولى المريب استعداده السخى لتمويل مشاريع مائية مكلفة وغير مجدية فى الهضبة الأثيوبية شديدة الانحدار، الصخرية وغير الصالحة للزراعة، حيث منابع النيل الأزرق الذى تأتينا منه معظم مواردنا من مياه النهر.

مصر فى مأزق حقيقى، وفتح ملف تقاسم مياه النيل لا يستهدف إلا تقليص حصة المياه التى نعيش عليها، وهى بالكاد تكفينا، ولن تكفينا فى المستقبل، فالتقليص يعنى ترنُّح مستقبلنا، وإسرائيل لن تأمن أبدا إلا برؤية مصر عطشى منهكة، فقيرة وضعيفة ومتخلفة، وهى لا تكتفى فى سعيها إلى ذلك باللعب من وراء ظهرنا، بل أمام عيوننا، بينما اللامعقول المصرى يغدق عليها صفقات الغاز التى يرفضها الشعب المصرى ويأباها كل عقل وذوق وطنى. وها هى لحظة تضعنا نحن المصريين جميعا فى قارب واحد مهدد بالانغراز فى قاع طينى لنهر يهدده العطش، كلنا، الشعب، والحكم، وحتى هؤلاء المغول المصريين أنفسهم. فماذا نفعل؟

لقد بدا أن فتح ملف إعادة توزيع مياه النيل هو مجرد ورقة ضغط سياسية، لعبتها أمريكا فى ستينيات القرن العشرين فأوفدت إلى أثيوبيا بعثة كبيرة من خبرائها لدراسة منابع النيل واقتراح بناء سدود عليها لاستغلال مياهها قبل أن تصل إلى مصر ! وفى سبعينيات القرن نفسه، بعدما انقلب الحال وصرنا فى الركب الأمريكى بينما أثيوبيا فى الركاب السوفييتى، قام منجستو هيلا ماريام باستجلاب خبراء من الاتحاد السوفييتى لدراسة ما كان يلوِّح بدراسته الأمريكان، فاستعر الخلاف بين مصر وأثيوبيا، وهدد الرئيس السادات بأن مصر ستدخل الحرب وتهدم أى سد تقيمه أثيوبيا على منابع النهر. فهل لذلك الآن معنى؟

لا لم يعد له معنى، فقد كان الكلام موزونا على إيقاع الحرب الباردة. أما الآن، فمن يهدد بضرب منشآت خارج أرضه، لا ينبغى أن ينسى أن له منشآت يمكن ضربها، ولم تعد هناك دول ضعيفة ودول قوية ما دامت الصواريخ متوسطة المدى يمكن تهريبها، وينسق تهريبها فى هذه الحالة شيطان عالمى له وكيل رسمى فى منطقتنا اسمه إسرائيل وأحد عناوينه وزير خارجيتها أفيجدور ليبرمان الذى تفوه من قبل بضرب السد العالى بقنابل نووية حال النزاع مع مصر. ثم إن رفع شعار اللجوء للتحكيم الدولى مسألة كالرجم بالغيب. فماذا بالله نفعل؟

تحملنى حيرة السؤال إلى حصن لمغول الهند اسمه «فاتح بورصكرى»، أى مدينة الفاتح المنتصر، مساحته عشرة كيلومترات مربعة، ويقع على بعد أربعين كيلومترا من تاج محل. وقد أنشأه الإمبراطور «أكبر» على هضبة مرتفعة عام 1569 ليكون مجمعا إمبراطوريا يضم قصورا وقاعات ومكاتب وحقولا وبساتين ونوافير وقنوات، مكان شامل من الحجر الأحمر الهندى الخلاب لإدارة شئون البلاد والعباد والمتعة المغولية بالطبع. لكن الماء هزم هذا الحصن وأجبر ساكنيه على هجره عندما امتنع عن الصعود إليه. صار حصن الفاتح المنتصر بيتا للأشباح ومأوى للجرذان والخفافيش. وبرغم روعة عمارته، وبهاء النقوش المحفورة فى أحجاره الحُمر، إلا أن الشعور بالجفاف فى القنوات المملوءة بالتراب، والنوافير اليابسة، والشجر الذى مات، كل هذا لم يعد يوحى إلا بوجود مقبرة باذخة شاسعة. فهل آن لمصر، الدولة قبل الناس، وقد صارت فى مرمى التهديد بالعطش والجفاف أن تقول لنُسالة أشباه المغول كفى؟

كفى بلادة وسفاهة واستهبالا واهتبالا، فالأمر مرعب بحق، ولم يعد يحتمل تهييسا ولا توريثا ولا تخبيصا ولا تخنيسا ولا تدليسا. فمصر فى مفترق خطر تاريخى حقيقى، يتطلب شحذ أذكى عقولها، وأنصع ضمائرها، وأشرف الإرادات، وحشدها فيما يشبه وزارة إجماع وطنى موازية، طارئة مصغرة، سيادية وشفافة، لإنقاذ نصيبنا من مياه النيل، وضمان استراتيجية هذا الإنقاذ، وإحسان التصرف فيما نُنقذ، وفتح صفحة جديدة جادة مع ظهيرنا الأفريقى الذى تناسيناه بجهالة وفظاظة، طوال عصر المغول!

محمد المخزنجي كاتب مصري كبير ، وطبيب أمراض نفسية ، ولد في المنصورة ، وعمل في مجلة العربي الكويتية ثم تفرغ ككاتب حر ، يُعتبر من أبرز كتاب القصة في العالم العربي ، وله إسهامات متفردة في الكتابة العلمية وأدب الرحلات والمقال الصحفي .