اقتصاد الكلام - عمرو خفاجى - بوابة الشروق
الجمعة 17 مايو 2024 10:20 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

اقتصاد الكلام

نشر فى : الأحد 5 مايو 2013 - 8:00 ص | آخر تحديث : الأحد 5 مايو 2013 - 8:00 ص

منذ أكثر من ثلاثين عاماً، كان لنا فى أستاذ علم الاجتماع الدكتور سيد عويس ملاذ آمن لفهم ما يستجد من ظواهر ووقائع، وكنا لا نستطيع الكتابة أحياناً إلا بعد الرجوع إليه، وكأن ما نكتبه لا يكتمل إلا بوجهة نظر الدكتور عويس، والذى كان يبرع فى استقبالنا فى كل مرة ويمنحنا من وقته الكثير، لكنه فى كل المرات كان يؤكد أن المصرى ـ أيـًا كانت ثقافته أو طبقته الاجتماعية ـ له ما يرغب فى قوله فى أى حدث أو واقعة أو حتى مشكلة لا تعنيه أو يعانى منها، وأن هذه الأقوال ـ فى الكثير من الأحيان ـ تتحول إلى « ثرثرة » إن لم تضر فهى لا يمكن أن تفيد المجال العام بأى حال من الأحوال. 

 

 وأذكر ذات مرة، أن أصدرت وزارة الداخلية قراراً بمنع لصق الشعارات على السيارات، بعدما انتشرت بشكل لافت على غالبية السيارات فى الشوارع.  وفى مقدمة هذه الشعارات كانت الشعارات الدينية،  والتى اعتبرتها الداخلية فى ذلك الوقت قد تثير الفتن بين طوائف الشعب،  وعندما ذهبت كالعادة للدكتور سيد عويس لتحليل الظاهرة ومحاولة وضعها فى السياق الاجتماعى، قال لى « إنها الثرثرة يا ولدى»،  ثم أضاف ضاحكاً : إن كل شىء يثرثر فى هذا البلد حتى السيارات،  وأن الشعارات الدينية موجة عابرة لا تعكس بواطن الأفكار و المشاعر الحقيقية،  بل إن ثرثرة السيارات التى يجب أن نلتفت إليها تلك التى يكتبها السائقون ويكشفون فيها عن مخاوفهم من الموت والرغبة فى العودة سالمين، وأن الداخلية كان عليها الاهتمام بشكاوى البسطاء الحقيقية ومحاولة إصلاح الطرق وضبط المرور، قبل أن تشغل بالها بما اعتبره « ثرثرة » من سيارات العاصمة البليدة. 

 

وربما ما قاله سيد عويس منذ عقود، مازال صالحاً حتى الآن، فهناك فارق كبير بين كلام يطلقه الناس، علينا أن نلتفت إليه ونعتبره شكاوى نحقق فيها ومشكلات يجب حلها، وبين كلام لا يجوز وصفه إلا بالثرثرة، لا يستحق منا حتى عناء قراءته والالتفات إليه، بل يجب إهماله ووأده مبكراً حتى لا يتشجع المجتمع على إنتاج المزيد من الثرثرة، والتى نراها الآن هى المهيمنة والمسيطرة على المشهد العام، رغبات محمومة لا تتوقف فى الكلام و التعليق على أى شىء وبأى شىء، حتى لو كان أكل الفسيخ حراما،  وتلوين البيض معصية. 

 

وإذا أضفنا فكرة الثرثرة البليدة الضارة التى أشار إليها عالم الاجتماع، إلى فكرة « فائض الكلام » التى يطرحها الدكتور سيف عبد الفتاح أستاذ العلوم السياسية، سنكون أمام مشهد لا يعترف مطلقاً باقتصاد الكلام، خاصة ممن يحسب كلامهم على تيارات بأكملها أو بأحزاب غالبة أو جماعات ينتمى إليها الحكم بشكل أو بآخر،  فالكلام محسوب على من فى الحكم،  بل ويحاسبون عليه، ويسبب لهم الكثير من المشكلات، وأعتقد أن عليهم جميعاً رئاسة وحزبا وجماعة ومجلس شورى، الاقتصاد فى الكلام،

 

والتوقف عن الثرثرة الممجوجة التى لا يتوقفون عن مزاولتها بلا أية دواع حقيقية، بل إن عليهم أيضاً عدم الرد أو الاستجابة لثرثرات معارضيهم، لأن من فى الحكم ويملك إصدار القرار، عليه أن يتحدث وينتج كلاماً يستقيم مع قدراته فى الأفعال و الإنجاز،  وهو ما يغيب تماماً عن أرباب الحكم الأربعة. 

 

ومنذ أكثر من ثلاثين عاماً أيضاً، كان الشيخ إمام مطرب الشباب الثائر فى تلك الأيام يغنى بمقر حزب التجمع مجموعة من أغانيه الوطنية الشهيرة، ووسط تحيات الحضور له وقف أحد الشباب متحمساً محيياً مطربه المفضل هاتفاً : « قول يا عم الشيخ إمام ده الوطن محتاج كلام » ..ومازلنا جميعاً نعمل بنصيحة هذا الشاب، الذى يمارس الآن الصمت فى قريته بالقرب من القاهرة حزيناً مكتئباً من  « كتر الكلام ».. 

عمرو خفاجى  كاتب صحفي وإعلامي بارز
التعليقات