سنوات الملاح المحترف ضد التيار فى بحر الظلمات - عبد العظيم حماد - بوابة الشروق
السبت 27 أبريل 2024 12:51 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

سنوات الملاح المحترف ضد التيار فى بحر الظلمات

نشر فى : الثلاثاء 2 فبراير 2021 - 8:30 م | آخر تحديث : الثلاثاء 2 فبراير 2021 - 8:30 م

بصفتى مواطنا مصريا عربيا، أحسست من السطور الأولى لهذا الكتاب، وحتى سطره الأخير أننى أحد ركاب سفينة ضخمة تقادم طرازها، ولكنها لاتزال قادرة على الإبحار، يقودها ملاح محترف لديه ما يكفى من الحنكة والاستبصار لتجديد محركاتها وأطقم بحارتها، ليصل بها إلى مرافئ آمنة، وبركابها كافة إلى محطة السلامة، أو إلى أقرب ما يمكن منها، ولكن هؤلاء الركاب الذين من بينهم ملاك السفينة متنافسون ومتنافرون، تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى، فنسوا أو تجاهلوا أن سفينتهم تمخر بهم عباب بحر لجى يغشاه موج، من فوقه موج، من فوقه سحاب، كأن مصطلح بحر الظلمات صك خصيصا لوصف الحياة العربية منذ بداية القرن الحالى، وحتى يومنا هذا.
شغلت سنوات عمرو موسى فى منصب ودور الأمين العام لجامعة الدول العربية العقد الأول من هذه الحقبة، واصطدمت فى بدايتها بفاجعة الضربات الإرهابية الشهيرة بأحداث ١١سبتمبر عام ٢٠٠١ غير المسبوقة لمدينتى نيويورك وواشنطن الأمريكيتين، والتصاق مسئولية الجريمة بالعرب والمسلمين، ومن ثم انقضاض القوة الأمريكية بتفوقها الكاسح عسكريا ودبلوماسيا وإعلاميا (بل ودعائيا) على منطقتنا وتخومها، انتقاما وتطويعا ووقاية… وإذلالا فى بعض الأحيان، ثم اصطدمت فى نهايتها بثورات الربيع العربى، التى تراوحت أو ترنحت ما بين الرجاء واليأس، وما بين الفوضى والقمع، وما بين انتهازية التدخلات الإقليمية وبين تربص القوى الدولية.
شخصيا كنت من المشفقين على الرجل من هذه المهمة الجديدة، فقبل أيام من مغادرته منصب وزير الخارجية المصرية قيل لى من مسئول مصرى كبير (على فنجان شاى صباحى بمقهى عائم على صفحة نهر الماين لدى اختراقه مدينة فرانكفورت الألمانية) إن موسى كان قد أصبح عبئا على مؤسسة الرئاسة، وعلى العلاقات المصرية الأمريكية والعلاقات المصرية الإسرائيلية، وإنه ينسى فى كثير من تصريحاته ومبادراته أن مصر دولة من العالم الثالث، وبالتالى فإن الذى يصنع سياستها الخارجية بالكامل هو الرئيس، وليس وزير الخارجية الذى يجب أن ينحصر دوره فى تنفيذ ومتابعة ما يكلف به فقط، وكان ذلك يعنى أن ترشيحه للجامعة العربية هو فى حقيقته إبعاد يترتب عليه تحجيم دوره وحضوره ومبادراته، فى ضوء النفوذ المصرى الكبير المعترف به فى عمل الجامعة العربية، والتفاهم القوى بين مصر والسعودية صاحبة النفوذ القوى بدورها فى كل جوانب الشأن العربى، والدولة الشهيرة بإدمان الدبلوماسية المتحفظة، فضلا بالطبع عما أصبح معلوما بالضرورة عن أن مشروع توريث الحكم فى مصر لنجل الرئيس كان أحد الأسباب القوية لذلك الإبعاد لمنافس قوى محتمل.
لم تكن الحسابات المصرية الرسمية غير المواتية للرجل وراء ترشيحه لأمانة الجامعة العربية هى وحدها سبب الإشفاق الذى تحدثت عنه، ولكن كانت هناك أيضا شعبيته القوية لدى المصريين، والجارفة بين المواطنين العرب، ومن ثم ثورة التوقعات منه لدى عموم الرأى العام العربى، التى قد تمثل قوة ضغط هائلة عليه تسبب له الحرج فى ظرف إقليمى ودولى ومحلى فى أغلب الدول العربية تبرق فيه نذر الصواعق، وتتجمع فيه إرهاصات الأعاصير، وقصفات الرعود من كل جانب، سواء من جورج بوش الابن ومحافظيه الجدد فى واشنطن، أو من صعود أريل شارون إلى موقع رئاسة الحكومة الإسرائيلية، أو الحصار الخانق على العراق، أو الوجود العسكرى السورى الباطش فى لبنان، أو الحروب الأهلية المزمنة فى السودان والصومال... إلى آخر الأزمات المتوطنة فيما بين الدول العربية بعضها البعض، وفِى داخل كثير من الدول، وهى الأزمات التى فاقمتها مخططات التوريث فى مصر واليمن وليبيا.
كما سيتبين قارئ سيرة موسى فى «سنوات الجامعة العربية» فإن الرجل ينتمى إلى مدرسة الواقعية السياسية، وليس إلى أى من المدارس الإيديولوجية أو الديماجوجية القديمة أو الجديدة، على أن يفهم أن واقعيته لا تعنى أن ليس فى الإمكان أبدع مما كان، ولكنها تعنى الحساب الدقيق للإمكانات والمعوقات لرؤية الفرصة واغتنامها، لتطوير الواقع بأفضل ما يمكن، والى أقصى حد ممكن، فهى إذن الواقعية الطموحة الديناميكية، وليست الواقعية البليدة المبالغة فى الحذر، ويبقى النجاح والفشل فى مثل هذه الحالة مرتبطين بمواقف وحسابات بقية الأطراف، ففى نهاية المطاف ليس مطلوبا من عمرو موسى ولا أى أمين عام للجامعة العربية أن يحل محل هذا الحاكم العربى أو ذاك فى اتخاذ القرار المطلوب أو الصحيح، ولنقارن مثلا بين تعنت صدام حسين فى مقترحات المصالحة مع الكويت ومطاولته فى تبديد الوقت، ورغبته فى التظاهر بعدم التنازل فى مسألة عودة المفتشين الدوليين استجابة لمبادرات الأمين العام للجامعة العربية بالتنسيق مع الأمين العام للأمم المتحدة، وبين تعاون واستجابة الفرقاء العراقيين بعد الغزو لمبادرات الرجل لصيانة الهوية العربية للعراق، بخطوات متتابعة، حتى وإن بدأت بشغل مجلس الحكم الانتقالى (المعين بقرار أمريكى) لمقعد العراق فى الجامعة، تمهيدا لحوار ناجح بين كل أولئك الفرقاء فى مقر الجامعة، وتحت علمها، وذلك بعد حصول موسى شخصيا على مساندة حاسمة من المرجع الشيعى الأعلى السيد على السيستانى لانتماء العراق العربى، حين صرف السيستانى كل الحضور ليقول له: «لا تتركوا العراق لإيران»، فمن هذه المقارنة يتبين أن الدبلوماسية كان عليها أن تسعى بكل الجد والإخلاص والذكاء، ولكن ليس عليها وحدها ادراك النجاح، الذى يتطلب أيضا تفهم وتجاوب أصحاب القرار السياسى.
مثال آخر على صحة هذه المعادلة تحذيرات ونصائح موسى للحكام العرب فى قمة شرم الشيخ فى يناير عام ٢٠١١، والتى عقدت فى زخم نجاح الثورة التونسية فى الإطاحة بالرئيس زين العابدين بن على، ففى بيانه الذى كان الأخير له كأمين عام أمام قمة عربية قال إن ماحدث فى تونس ليس بعيدا عن هذه القاعة والمتواجدين فيها..
فماذا حدث؟
بكلماته هو نفسه وهو يفسر عناد معمر القذافى مع مطالب الشعب الليبى فإن القذافى كان يظن نفسه أذكى من زين العابدين بن على ومن حسنى مبارك، ولن يحدث له ما حدث لهما، ثم عقب قائلا: «ليس القذافى وحده هذا الرجل» وأنا أتفق مع هذه المقولة مائة فى المائة، وأحسب أن الجميع يتفقون معنا.
من المفهوم أن مقالا كهذا لن يستوفى محتويات الكتاب عن مجريات عقد كامل من الأزمات والمبادرات والسياسات العربية والإقليمية والدولية سواء فى العراق والخليج ولبنان وسوريا وفلسطين وليبيا والسودان والمغرب العربى والقرن الإفريقى، ومشروع رابطة الجوار العربى والتحفظات على استثناء إسرائيل من معاهدة حظر الانتشار النووى ومشروع حوار الحضارات والانفتاح على إفريقيا والقوقاز وأمريكا اللاتينية والمشروعات الاقتصادية والثقافية والاجتماعية، ولكنى أتفق مع صاحب هذه السيرة الذاتية فى قوله إنه لو كان قدر لجامعة الدول العربية ودولها أن تستثمر المبادرات التى انطلقت من فوق منابرها، والأفكار التى تم تداولها بين أروقتها، ونقد الذات الذى بدأنا ممارسته والفهم السليم للتطورات الدولية والإقليمية من حولنا لحققنا طفرة معتبرة فى نظامنا العربى وتحركنا القومى.
كما أنوه بقوله فى مقدمة المقدمة حول الدول العربية المقبلة على أو (المضطرة) إلى التطبيع مع إسرائيل أن تدرس وتعمل على ألا يكون التطبيع هدية مجانية تعبر عن مبالغة فى التقرب من أولياء الأمور فى العالم، وإنما عليهم احتراما لأنفسهم وهويتهم وتاريخهم أن يحصلوا على مقابل يفيد القضية الفلسطينية بحل منصف يقبله الجميع، آخذين فى الاعتبار أن العالم الآن تتغير أوضاعه وزعاماته بسرعة قد تسقط تعهداته، بما فيها تعهدات الحماية.
ربما لا يجدر بى اختتام هذه السطور دون التنويه إلى سخف وسوء نية أو تقدير الذين يحملون عمرو موسى مسئولية تجاوز أمريكا وأوروبا للتفويض الدولى والعربى بإنشاء منطقة حظر طيران فوق ليبيا لحماية المدنيين من مذابح القذافى، وكأنه كان يستطيع أن يفعل بشخصه ما لا تستطيع الدول فعله.
كذلك يجدر التنويه بل توجيه الشكر والثناء لزميلنا الموهوب خالد أبوبكر على جهده فى تحرير الكتاب، وعلى مقدمته النظرية الحاذقة فى تأصيل أنواع الكتابة الذاتية والتمييز بينها، وبالطبع فالتحية والشكر واجبان بكل استحقاق لدار الشروق وللمهندس ابراهيم المعلم لتبنى هذا المشروع المهم لتزويد القارئ المصرى والعربى بهذه الشهادة وهذا التوثيق لحقبة حرجة وخصبة فى آن واحد من تاريخ سفينتنا العربية الجانحة حاليا، ولكن التى لاتزال قادرة على الابحار، ومن جهود ربانها فى وقت قيادته لها، وما قد نستخلصه جميعا منها لعبور الظلمات والأعاصير بأمان نحو نور كريم نتوق إليه ونستحقه.

عبد العظيم حماد رئيس تحرير جريدة الشروق السابق. كاتب صحفي مصري بارز ، وشغل عدة مناصب صحفية مرموقة على مدار تاريخه المهني.ولد عام 1950 ، وحصل على بكالوريوس العلوم السياسية ، وعمل كمحرر ومعلق سياسي منذ عام 1973 ، سواء في الإذاعة والتليفزيون أو في مجلة أكتوبر أو في جريدة الأهرام ، وكان مديرا لتحرير الأهرام الدولي في أوروبا ، وكبيرا لمراسلي الأهرام في منطقة وسط أوروبا ، وله مؤلفات وأبحاث وكتابان مترجمان ودراسات دولية متنوعة.