فرح مجروح - محمد المخزنجي - بوابة الشروق
الإثنين 29 أبريل 2024 7:36 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

فرح مجروح

نشر فى : الخميس 1 ديسمبر 2011 - 9:35 ص | آخر تحديث : الخميس 1 ديسمبر 2011 - 9:35 ص

يقع مسكنى على مقربة أمتار من العمارة التى كان يسكن فى شقة صغيرة ببدرومها الدكتور جمال حمدان، وكنت كلما مررت بمكانه أشعر بالأسى والأسف، ليس فقط للطريقة التى عاملته بها الدولة من جحود وهو أحد أكثر أبناء مصر إخلاصا لها وأصدق عبقرياتها نقاء فى حبها، ولكن أيضا، وبالأساس، لما كان يحدث فى مصر من تآكل بشع ومتسارع للهرم الأعظم فى تكوينها، الذى جدد اكتشافه وأرخ له وبشر به جمال حمدان.. هرم الوسطية والاعتدال فى الشخصية المصرية، بشرا وبيئة وأعماقا تاريخية.. دينا ودنيا.

 

وفى يومى الاثنين والثلاثاء الماضيين، حيث تجلت ملحمة خروج ملايين المصريين للإدلاء بأصواتهم فى الانتخابات الأخيرة، تعمدت أن أمر وأتوقف أمام المكان الذى كان يسكنه جمال حمدان، وأمكث فى وقفتى الصامتة لحظات، كأننى أنقل إليه فى صمت التخاطر بُشرى عودة ظهور اكتشافه الذى كادت تطمره رداءة العقود الأخيرة وعواديها، بل الذى كدنا نحن أنفسنا نحسبه قد اندثر فينا أو انكسر، وأننا بصدد تحول تاريخى للشخصية المصرية أقرب إلى التشوه التدميرى. وكنت وأنا أخاطره بهذه البشارة التى استقرأتها فى طوابير طوفان الناخبين المصريين فى هذين اليومين الرائعين، يخالط فرحى حزن قريب، فكأن صورتين للحزن والفرح تراكبتا معا، لتشوش كل منهما الأخرى.

 

صورة الحزن مبعثها تلك المجزرة القريبة التى راح ضحيتها فى ميدان التحرير وما حوله 43 شهيدا من أنقى وأعز أبناء مصر، ثلاثة وأربعون شابا وشابة بينهم طبيب غض وطبيبة فى عز صباها، قُتلوا رميا بالرصاص وخنقا بالغاز ودهسا لم أر أبشع منه لشاب فى التاسعة عشر سَحق الدهس حوضه فانفجر لحم وجلد قاع الحوض وانشق عن نافورة من دم امتزج بماء وملح المثانة، وصنع ظاهرة مزلزلة لكل من كان له قلب، فدم الشاب الذى تدفق من هذا الجرح الفاغر لم يتخثر ولم يسود ولا اغمق، وظل على احمراره القانى، فكأنه صرخة مشتعلة تتواصل لتدل على جريمة فى حق الدم المهدور والمغدور والمسفوح غيلة.. تطالب بالقصاص.

 

أمَّا ذلك الصبى الجميل الموهوب ابن الخامسة عشرة، طالب الصف الأول بمدرسة ثانوية فى الاسماعيلية، والذى كأنما كان ينعى نفسه ويدين وحشية قاتليه بأغنية عديد نبوئى مسجلة قبل مقتله، فقد كانت بكائيتة مُحرِقة، لا على مقتله هو وحده، بل على مقتل العشرات مثله، كما على إطفاء النور فى عشرات العيون الشابة التى فقأتها عمدا طلقات الحقارة والانحطاط النفسى. وفى قسم العيون بمستشفى قصر العينى ثمة عنبر كامل مملوء بهؤلاء الشباب الذين أُطلقت النيران عمدا على عيونهم، هذا غير كثيرين مثلهم تشردوا فى ظلمات القاهرة بحثا عمن يوقف نزيف عيونهم هنا أو هناك؟

 

 على صورة الألم والحزن تلك، جاءت صورة طوابير ملايين المصريات والمصريين الذين هبوا لنداء الانتخابات الأخيرة، وكانت صورة تحمل بشارة أمل لا شك فيها، لكنها لم تستطع إلا أن تتراكب على صورة الحزن الذى لم يغادر، ولا ينبغى أن يغادر، حتى ينقضى العزاء ويحل الجزاء، فى قصاص بت أوقن فى قدومه مع الوقت، ومن خلال ما استقرأته فى صورة طوابير ملايين الناخبين الذين لم يتوقع فيضانهم الجياش أحد، لا أنا ولا غيرى، ولا حتى من وضعوا الانتخابات نصب أعينهم أولا وأخيرا وفوق كل شىء حتى جثامين الشهداء ودم الجرحى وضياء العيون.

 

 هؤلاء الملايين من الناخبين المصريين فى غالبيتهم العظمى لم يخرجوا لاختيار هذا الحزب أو ذاك، ولا هذا الاتجاه أو ذاك، وأيا ما ستكون النتائج المرتقبة وأيا ما ستكون ادعاءات البعض، فقد خرجوا مدفوعين بأشواقهم الحارقة للأمان فى بلدهم والاطمئنان على أبنائهم، وهى ظاهرة لا يمكن تفسيرها بعيدا عن غريزة الدفاع عن النفس فى مواجهة خطر لم يعد بعيدا ولم يعد خافيا على أحد، ومن ثم فهى ظاهرة مرتبطة شعوريا ولا شعوريا بجرس الخطر الذى قرعته يد المذبحة، وما كان ممكنا أن تكون بهذا الزخم الطوفانى إلا بانطوائها على أقصى الاستشعار بهول الفاجعة، وهو استشعار يدل على فزْعة نهوض لسمة مصرية أصيلة فى شعبنا.

 

فى تلك الهبة المصرية الملايينية المذهلة، لم يكن عسيرا أبدا أن أتبين تهافت نسبة الخارجين عن الوسطية الذين ملأوا حياتنا تهديدا ووعيدا فى هوجة الشهور الأخيرة، حتى بتنا ننتظر من سيفرض علينا نمطه من الثياب والمظهر وطريقة العيش، ويسوقنا للتعبد على طريقته ولو بالتقريع والمقارع وكأن مصر كافرة وفى حاجة إلى دين جديد. لكن هذا الجئير وذلك الحشد سرعان ما تبديا على حقيقتهما كمحض هبة من غبار زوبعت فوق نهر الوسطية المصرية الكبير وهو كامن، وعندما فاض ذلك النهر تساقط الغبار على صفحته الجارية فتبدد، دون أن يفقد النهر عذوبته وصفوه.

 

 هذا لا يعنى أبدا أن نتيجة الانتخابات الحالية ستخذل مقارع ومقالع الناشزين عن الوسطية المصرية، فهذه الوسطية نفسها ونتيجة لفضيلة الطيبة والدماثة الراسخة فى طبعها، يُمكن نشل إرادتها بسيف الحياء أو مزالق المجاملة أو التساهل فى تمرير الأمور، خاصة وفترة «الصمت الانتخابى» القانونية والأخلاقية قد كسرها الخارجون عن الوسطية بجئير زاعق، ودون رادع من قانون أو مؤاخذة.

 

علينا ألا نندفع كثيرا وراء وهم نقاء النتائج المُنتظره، لكن علينا فى الوقت نفسه أن نستبشر بصعود القلعة البشرية المصرية الحية، قلعة الوسطية المصرية الحميدة الحامية لبلادنا من هبوب رياح سَموم لم يكف عن قذفنا بها قيظ وعماء رمال الصحراء، ويناظرها لسعات بردٍ أنانية جاحدة لم يكف عن تسريبها إلينا خبث الشمال.

 

فى «شخصية مصر» كتب جمال حمدان: «ليس من قبيل التطرف أو التبسيط، ولا هو من باب الوهم أو التسطيح، أن سمة الاعتدال من أبرز السمات العامة الأساسية للشخصية المصرية، فالوسطية والتوازن سمات رئيسية عريضة فى كل جوانب الوجود المصرى تقريبا، الأرض والناس، الحضارة والقوة، الأخذ والعطاء». كما كتب: «كان أمرا محتوما أن تكتسب الشخصية المصرية صفات الاعتدال والاتزان والوسطية، وأن تتفاهم مع الدين بهذه المفاهيم العميقة، وأى فهم للدين خارج نطاق هذه الحدود إنما يمثل انكسارا فى الشخصية المصرية، وهو على أبسط الفروض، حالة مَرضية تحتاج إلى علاج وصبر حتى تعود الشخصية المصرية إلى طبيعتها». وأضاف: «انصبَّت الديانات السماوية جميعا فى مصر على التوالى، ولعبت مصر فى مراحل الدعوة إلى ثلاثتها دورا أو آخر، فكانت لموسى قاعدة ومنطلقا، ولعيسى ملجأ وملاذا، بينما كانت مع النبى محمد هدية ومودَّة».

 

نعم، لقد مرَّت على المصريين عقود عصيبة من القسوة المحلية والترحال والتسخير فى الغربة، وتشويه تراثها القيمى بجائحة من جراد بشرى حكم وتحكم وطغى وتكبر وتوحش وتفحش فى السنين الأخيرة، حتى حقَّت حكمة التحذير من غضب الحليم، ومصر الوسطية المتسامحة المتدينة الحلوة الطيبة الضاحكة الساخرة الصبور غضبت، بل تمرست بالغضب من فرط فجاجة دفعها إلى الغضب، وهى إن لم تفرض حسم وسطيتها العفية الذكية فى هذه الجولة، فإن فى القادمات متسعا أكيدا، شرط أن نذود جميعا عن بديهية «تداول السلطة»، أيا ما سيكون البرلمان القادم والحكومة المرتَقبة والرئيس المُنتظر.

 

ويبقى لى فى هذا الفرح المجروح بالحزن، أن أقول مخلصا لإخوتنا المعتصمين فى ميدان التحرير: إن الدرب طويل وملىء بعواقب ومُجاهدات لابد أن نضعها فى الحسبان، وهذا مما أود أن يدركه نقاؤهم، فيعرفون أن البراءة صيد سهل فى حومة لؤم مزمن ومتمرِّس ولا يتورع عن تزييف مشاعره وشعاراته.

 

لهذا أطالب شرفاء الميدان بالتقاط أنفاسهم وأخذ هدنة حتى الخامس والعشرين من يناير القادم، فليخلوا الميدان شرط أن يحصلوا على وعد بعدم ملاحقتهم وتعهد بمحاسبة المجرمين فى حق إخوتهم من مصابين وشهداء وتعويض وعلاج من يستحق التعويض والعلاج.

 

 هدنة شهرين تُختَبر فيها النوايا التى نتمنى أن تصدق بعد هذه الانفراجة وهذا القبس من التفاؤل، وأن تمتلك الإراداة على المضى قدما على درب مطالب الثورة الواضحة البكر «حرية، كرامة إنسانية، عدالة اجتماعية». أرجوكم فكروا فى الأمر، فلا إخلاص لمن يترككم تُهزَمون بينما الحصار حولكم يُحكم متاريسه.

 

وبآخر ما تبقى من حسن الظن بمن يمسكون بمقاليد الأمور فى مصر الآن، أردد على مسامع ضمائرهم الوطنية ما قاله جمال حمدان «أمام مصر خياران لا ثالث لهما. الانحدار التاريخى أو الثورة التاريخية»، فاغتنموا فرصة التاريخ، لأن مصر تستعيد روحها بالفعل.

 

رحم الله جمال حمدان.

 

(ملحوظة: بعد إنهاء هذا المقال فى العاشرة من مساء الثلاثاء جاءت الأخبار الصادمة عن «باعة جائلين» يهاجمون شباب المصابين والمعتصمين بالتحرير بالحجارة والأسلحة البيضاء وزجاجات المولوتوف وبنادق الرش!! أى لؤم. وأى حزن؟ أكرر اقتراح الهدنة والإخلاء الطوعى للميدان حتى 25 يناير، لنحتفل بسنوية الثورة، أو نستعيدها).

محمد المخزنجي كاتب مصري كبير ، وطبيب أمراض نفسية ، ولد في المنصورة ، وعمل في مجلة العربي الكويتية ثم تفرغ ككاتب حر ، يُعتبر من أبرز كتاب القصة في العالم العربي ، وله إسهامات متفردة في الكتابة العلمية وأدب الرحلات والمقال الصحفي .