الرياضة والقرنبيط - محمد المخزنجي - بوابة الشروق
السبت 4 مايو 2024 11:34 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الرياضة والقرنبيط

نشر فى : الأربعاء 1 يوليه 2009 - 9:31 م | آخر تحديث : الأربعاء 1 يوليه 2009 - 9:31 م

 لست من المولعين بكرة القدم لأسباب عديدة، بينها سأمى من ظاهرة الاختزال التى تنفى تعدد الاختيارات، فهى تكاد تكون الرياضة المصرية الوحيدة الآن، شأنها شأن «وحايد» كثيرة فى حياتنا السياسية والاجتماعية والاقتصادية وطريقة التفكير السائدة لدى معظمنا.

وبرغم ذلك وجدت نفسى، وأنا خارج مصر، أتابع باهتمام مباريات فريقنا القومى فى كأس العالم للقارات بجوهانسبرج، بدافع الحنين قطعا، هذا الذى يجعلنا بمجرد أن نبتعد عن مصر تصفو فى عيوننا صورتها وتصبح أم الدنيا ونسيم قلوبنا ومهجة الأرواح. لكن هذا الحنين لم يجعلنى أصدم أبدا بهزيمتنا أمام الفريق الأمريكى، والسبب «نظرية القرنبيط»!

ونظرية القرنبيط هذه، مجرد تسمية إيضاحية لأحد التطبيقات العلمية الشهيرة لعلم جديد يسمى «الهندسة الكسورية» Fractal Geometry، اكتشفه عالم الرياضيات الفرنسى العبقرى «بينوى ماندلبروت».

ففى أواخر الخمسينيات بدأ «ماندلبروت» فى دراسة مجموعة منوعة من الظواهر الطبيعية غير منتظمة الشكل، مثل الغيوم والأنهار وتفرعات البرق وتشابك أغصان الشجر، ولاحظ أن الهندسة العادية لا تستطيع أن تصف هذه الأشكال ولو فى حدود تقريبية، مثلما نصف القمر المكتمل بأنه مدور، وجذع الشجرة بأنه أسطوانى. وخرج هذا العالم من دراسته التى استمرت عشرين عاما، بإبداع نظرية تؤسس لهندسة جديدة وصفها بأنها «لغة لوصف الغيوم»، وتهدف لرسم وتحليل الأشكال غير المنتظمة فى العالم من حولنا وداخلنا، وكانت أهم اكتشافات هذه الهندسة خاصية فى جوهر التكوينات غير المنتظمة تُسمّى «التشابه الذاتى»، ولم يجد العالِم الفرنسى شكلا يوضح هذه الخاصية ببساطة مثل القرنبيط!

فبانتزاع قطعة من القرنبيط نلاحظ أن هذه القطعة بذاتها تبدو تماما كقرنبيطة صغيرة، وبتقسيم هذه القطعة إلى قطع أخرى، تبدو القطع الأصغر كقرنبيطات أصغر، وهكذا يبدو كل جزء منها مهما صغر مشابها للقرنبيطة الكبيرة، وتبدو كل الأجزاء الصغيرة مشابهة لبعضها بعضا. وبهذا الاكتشاف البسيط الفذ، بات ممكنا وضع نماذج هندسية لمنظومات كان مستحيلا محاكاتها فى السابق، مثل تفرع الأوعية الدموية، وتعدد أشكال بلورات الثلج، واختلاف تكوينات السحب. وهذه ليست ألعابا علمية للتسلية، بل هى اكتشافات مذهلة لفهم الحياة، ومقدمات لابتكار تقنيات متقدمة فى التصميمات الهندسية، والتنبؤ بالظواهر الطبيعية، والتشخيص والعلاج الطبى.

هذا «التشابه الذاتى» بين قطع القرنبيط الصغيرة مع مجمل القرنبيطة، لاح لى بقوة وأنا أتابع مزادات الكلام الإعلامية التى انتشرت كالنار فى الهشيم بعد هزيمتنا الكروية أمام أمريكا. والغريب أن كثيرين من رواد هذه المزادات، الذين انقلبوا باللوم والثبور وعظائم الأمور على لاعبينا، هم أنفسهم الذين استثمروا أداء هؤلاء اللاعبين الرائع أمام البرازيل وإيطاليا فى النفاق السياسى السخيف، وكأن هؤلاء الأبطال يلعبون فقط لمجد السلطة السياسية. ولنعد إلى نظرية القرنبيط.

من هم هؤلاء اللاعبون وغيرهم من رياضيينا؟ إنهم فى النهاية منا، يشبهوننا بنفس القدر الذى نشبه فيه مجمل الأمة. وبرغم أى استثناءات يحصلون عليها، يظلون يتنفسون الهواء الفاسد الذى نتنفسه، ويأكلون ولو شيئا من الطعام المريب الذى نعيش عليه، يشربون المياه نفسها، ويتوترون فى الاختناقات المرورية ذاتها. يعانون إحباطا لاشعوريا كالذى نعانيه جميعا عندما نتطلع إلى مستقبل أولادنا، ويدفنون فى أعماق صدورهم ضيقا من تفشى اللاعدل الذى يصفعنا جميعا، حتى وإن كانوا يفلتون منه بحيثياتهم الرياضية أو بالتناسى.

لهذا كله لم أجد تفسيرا صادقا ومقنعا وحقيقيا لهزيمتنا الكروية أمام الفريق الأمريكى، إلا ماقاله الكابتن «أحمد حسن»، للكابتن السابق «شو.. بير»، فأكد أن لاعبينا أدوا المباراة وهم فى شدة الإرهاق، وأن اللعب فى مباريات كبيرة كل ثلاثة أيام شيء صعب. وهنا كان طبيعيا أن يسأل : ولماذا هو صعب علينا، وليس صعبا على غيرنا؟ وهو سؤال تأتينى إجابته من خاصية «المشابهة الذاتية»، فى القرنبيط.

فالتكوين البدنى لمجمل المصريين، مؤكد، أصابه خلل كبير خلال العقود الأخيرة، بسبب التلوث الجسيم للبيئة الذى هو نتاج تلوث أشمل سئمنا من التلميح والتصريح به، تلوث حقيقى ينعكس حتى على أداء المستورين بل الميسورين منا، بل على أداء بعض صناع التلوث أنفسهم، ماداموا مضطرين للعيش معنا، والدلائل عديدة، ابتداء من عجز معظمنا عن النهوض بمهام يوم عمل كامل بكفاءة كما فى بلاد الدنيا البعيدة، إلى التألق العابر الذى يصاحب بداياتنا فى كل شىء، وينقلب إلى انطفاء أليم عند النهايات.

والرياضة المصرية فى السنوات الأخيرة مليئة بنماذج واضحة على ذلك، مصارع مصرى يتوَّج كأفضل مصارع فى العالم، لكنه سرعان ما يبدأ التدهور، وبطلة رفع أثقال عالمية منذورة للذهب، تخرج بلا ميدالية حتى من صفيح. وبطل عالم فى الجمباز نسمع عن مجده لأسبوع واحد، ثم يتلاشى!

إنها ظاهرة عامة تبدأ بهبوط الجسد وترتبط بحبوط النفس، وهى واضحة الأسباب بدنيا، فمن المؤكد أن كريات دمائنا الحمراء فى مناخ التلوث الذى نتلاطم فيه صارت تحمل أوكسيجينا أقل مما يحمله غيرنا فى البيئات النظيفة، ومؤكد أن مولدات الطاقة فى خلايانا وأنسجتنا باتت أضعف من غيرها لدى من يأكلون ويشربون غير ما نأكل وما نشرب. ومؤكد أن رياضيينا يحملون فى أجسادهم مثل ما نحمل، لهذا تمثل ومضات الأداء المتفوق لديهم معجزة مصرية بحق، معجزة أرواح تجاهد فى الملاعب أكثر من كونها أعجوبة أجسام تزخر باللياقة. وظالم كل من يحملهم أكثر مما يحتملونه، ويفصل أحوالهم عن مجمل أحوال الوطن.

وبناء عليه، وحتى تكون محاسبة أبطالنا الرياضيين عادلة، أقترح أن يعيشوا فى شرم الشيخ، فهناك دلائل قوية على نقائها البيئى، إلى درجة أن من يعيش هناك يستطيع أن يعمر بلياقة تكفى لدفننا جميعا. هذا إلى أن ننجح فى تنظيف بيئتنا، بوسائل حقيقية غير لعبة تاكسى القاهرة والألاعيب المماثلة التى لا يكف الحواة الكبار، رعاة التلوث الحقيقيين، عن إخراجها من جراباتهم المشئومة.

وعلى أية حال، سنظل نحلم بالبطولات، وسنظل نطير فرحا بكل فوز جميل، لكن بعيدا عن الأحلام والطيران، لا استقرار لمناخ رياضى حقيقى فى مصر، ولا ثبات لأى فوز، إلا بإزاحة التلوث، كل أنواع التلوث. واسألوا القرنبيط!

محمد المخزنجي كاتب مصري كبير ، وطبيب أمراض نفسية ، ولد في المنصورة ، وعمل في مجلة العربي الكويتية ثم تفرغ ككاتب حر ، يُعتبر من أبرز كتاب القصة في العالم العربي ، وله إسهامات متفردة في الكتابة العلمية وأدب الرحلات والمقال الصحفي .