د.محمد سمير الخطيب يكتب فى وداع مخرج مسرحي: أبوالسعود.. المغرد خارج السرب

آخر تحديث: السبت 9 فبراير 2019 - 12:45 م بتوقيت القاهرة

رحل عن عالمنا فى الأيام القليلة الماضية المخرج المسرحي محمد أبوالسعود، مؤسس فرقة «الشظية والاقتراب». وسبب رحيله المفاجئ صدمة مؤلمة فى الوسط المسرحى خاصة أنه يمتلك مشروعا مسرحيا مميزا عانى بسببه الكثير من المعوقات لكى يظهر إلى النور. يعد المخرج الراحل محمد أبوالسعود حالة مسرحية فريدة من نوعها فإذا كان معروفا لدى الكثيرين بكونه مخرجا مسرحيا، إلا انه مارس التأليف وحصل على جائزة أفضل نص مسرحى فى مسابقة ساويرس الثقافية فى عام 2014 عن مسرحيته «أفريقيا أمى»، بالإضافة إلى أنه كان دراماتورجيا ومصمم سينوغرافيا لكافة عروضه المسرحية التى أخرجها وعروض للآخرين مثل سينوغرافيا عرض الزومبى للمخرج طارق الدويرى فى 2016.
ينتمى الراحل محمد أبوالسعود لجيل التسعينيات فى المسرح المصرى الذى تأثر بالمتغيرات العالمية والإقليمية والتى انسحبت على الواقع الثقافى بصفة عامة والواقع المسرحى بصفة خاصة، فاستجاب لهذه المتغيرات وأثر ذلك على فنه وجمالياته، فكانت عروضه المسرحية المختلفة التى وصلت إلى ما يقرب من عشرين عرضا مسرحيا، بداية «دير جبل الطير» و«العميان» ومرورا «ببريسكا2» و«لير» لأدوارد بوند و«الأيام الخوالى» لهارولد بنتر، نهاية بالقدم اليسرى لليل وانتيجونا افريقيا أمى. كل هذه العروض تنفتح على الشأن الإنسانى وترصد الشروط التى تعوق حضوره ككائن حر له الحق فى أن يرغب ويفعل.
أسس أبو السعود فرقة الشظية والاقتراب فى بداية التسعينيات، ومن اسمها الذى يحمل مركبين هما الشظية والاقتراب دلالة الانفجار التى تتناثر فى وجه العالم وتصيب ما تقابله، لكنها تقترب من السلطات المختلفة سواء كانت سلطة ثقافية أو فنية. لكن الإصابة الفنية التى يقصدها أبو السعود تفجر ما يكبل الواقع وخطابه وجمالياته السائدة، وبوصف المسرح إحدى الوسائل المقاومة لهذه السلطات المختلفة، لم تكن مقاومة أبوالسعود تنطلق من المضمون ونقد الأفكار فيقع فى شرك الأيديولوجيا، بل كانت مقاومة من نوع جديد يمكن أن نسميها مقاومة استراتيجية تعتمد على التمرد على القوالب الفنية المعتادة والاصطدام بحساسية المتلقى التقليدية.
شملت تفجيرات أبو السعود المسرحية النموذج المسرحى المعتاد لدينا، فكان دراماتورجيا لمعظم عروضه بداية من بريسكا2 والخروج من الموت نهارا الذى تناول فيها حكاية الكهف والتى جاءت بعد ذلك فى القرآن الكريم، وتجلت مسرحيا من خلال مسرحية توفيق الحكيم «أهل الكهف»، تعامل أبو السعود مع المصادر المختلفة التى استقى منها مسرحيته وخلخل بنيتها المعتادة ليجعلنا نعيد النظر فيها ونكتشفها من جديد عبر إضافة نصوص أخرى فى متن مسرحيته لكى تتحاور معها مثل قصائد شعرية «يوتوبيا المقابر» أحمد اليمانى، واحلم أنى المسيح ماهر صبرى، والكنيسة الباردة محمد متولى، وهى نصوص تتعلق بالبحث عن الحقيقة والحلم، كما أضاف ابو السعود بريسكا الجدة والتى لم تكن موجودة فى نص الحكيم ليضفى سمة عصرية للأسطورة لتكشف عن مأساة الإنسان فى العصر الحالى.
كما قدم أبوالسعود مسرحية العميان وفيه عقد حوار مع لوحة بيتر بروجيل من رسامى القرن ال17 ومع نص مسرحى كتبه ميشيل دى جليد رود عن ذات اللوحة، وانشغل أبو السعود بالأساطير والحكايات الإغريقية، لكنه قدم مسرحية الأيام الخوالى لـ«هارولد بنتر» التى جاءت تعبيرا عن قلقه على الناس المهمشين الذين عاشوا حلما، وحدثت لهم كبوة، فعانوا من التهميش أكثر. فالكل من وجهة نظر ــ أبو السعود ــ معرَّض لخطر العنف فى أى لحظة وانعكاسه على أجسادنا وأرواحنا. لقد تناولت معظم العروض المسرحية للراحل محمد أبوالسعود الشأن الإنسانى المعاصر، وبالتالى لا يمكن إرجاعها إلى زمان ومكان محددين، فكانت معظم اعماله التى تستمد من الأساطير أو مسرحيات معاصرة قراءة للأوضاع الإنسانية، فمسرحية لير تتناول وطأة الأوضاع السياسية الفاسدة التى تنشر العنف من أجل تثبيت مصالحها، وتنشره فى جميع ارجاء المجتمع.
امتازت العروض المسرحية للمخرج الراحل محمد أبوالسعود ببعد تشكيلى، وخرجت مسرحياته من مدارات أن النص المسرحى بمثابة نص أدبى، هذا ما جعل كتابته أقرب إلى كتابة من أجل خشبة المسرح، فاستبدل بالشعرية التى تستمد من الكلمة فى النص المسرحى التقليدى إلى شعرية يصنعها الفضاء المسرحى فى حالة تركيبية مستمدة ابجدياتها من اللون والإضاءة والظلال ليخلق مجموعة من العوالم تعبر عن الحلم والخيال والتى تعبرعن التيمات الموجودة فى نصوصه التى تتناول التأمل والقلق والغياب. إن التركيبة الفنية التى لجأ إليها أبوالسعود ترمى إلى المقاومة الاستراتيجية للواقع الذى نعيشه، فطالما أن الخطاب السائد وسلطة مفاهيمه تسكن وعى الإنسان المعاصر فما علينا إلا تحريره من خلال استفزاز مكوناته اللا شعورية وإيقاظه عبر الحلم.
يعتبر محمد أبو السعود أحد مؤسسى تيار مسرح الصورة فى السياق المسرحى المصرى، لذا، اعتمدت عروض أبو السعود على الشعر والفن التشكيلى والسينما ويتوسل بالصورة سبيلا لصناعة عرضه ليمزج بينها وبين الكلمة فى مجموعة من اللوحات تحتوى على الرقص والموسيقى والصور فى نسيج مركب. ولعل المنحى الذى اشتغل عليه أبو السعود جعله يعمل على تقطيع العرض المسرحى كما أن الصورة الغرائبية التى تحمل ابعادا رمزية وسيريالية التى توجد فى معظم عروضه تضع المتفرج فى حيرة لأنها لا تراعى الوحدة العضوية التى تعد إحدى أهم سمات العرض المسرحى التقليدى.
إن طبيعة العروض المسرحية الذى صنعها المخرج الراحل أبوالسعود، أسست له موقعا مختلفا فى المسرح المصرى، كما أنها تحتاج إلى متلقٍ يمتلك الجسارة فى مراجعة معارفه وليس متفرجا مستكينا خانعا لما يعرض أمامه، وتجبره أن يدخل فى اشتباك معرفى معها ليفك شفرات الإيقاع الصورى المتدفق الذى تحمله عروضه ليفسر شظايا العرض ويقترب أكثر من الواقع ويعيد مساءلته.

* مدرس بقسم الدراما بجامعة عين شمس

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved