ثورة «البؤساء».. هل تسمع غناء الشعب؟

آخر تحديث: الثلاثاء 7 مايو 2013 - 12:10 م بتوقيت القاهرة
خالد محمود

عندما درست رواية البؤساء فى الجامعة أدركت لماذا قامت ثورة فى فرنسا ولماذا بقيت عظيمة.

 

وعندما شاهدت فيلم «البؤساء» ادركت أننا لم نقم بثورة كاملة.. بل شبه ثورة، مع أن لدينا المئات من جان فالجان، ذلك الرجل الذى اختلس رغيف عيش واحد من أجل إطعام طفلة وإنقاذها من الجوع فكان جزاؤه الحبس 19 عاما.. ولدينا أيضا آلاف من الشباب الذين ولدوا ليؤمنوا بقيمة الحرية لبلدهم.

 

العمل السينمائى كان بحق دراما إنسانية مبهرة، كان الأسلوب الغنائى الذى اتخذه مخرجه توم هوبر كحوار له ملهما كبيرا لأن تدخل أشد مفردات الحياة قسوة إلى قلبك وعقلك علك تنتفض أو حتى تفكر. كشف الحوار على مدار مراحله بين السجين جان فالجان والمفتش جافرت عن ظلم السلطة للشعب، وكيف يمكن للحرية يوما أن تنتصر على قهر.. رأينا كيف يعترف رجل سلطة بخطئه فى حق مواطن بعيش وحرية وعدالة اجتماعية، كان حقا مشهد النهاية مؤثرا وقويا فى شكله الدرامى عندما أيقن المفتش أنه قد ظلم، ولمح فى عيون جان فالجان نظرة شفقة حتى وهو ينقذه من قبل من أيدى شباب الثوار.

 

رغم أن قصة البؤساء دارت فى القرن الـ 19 إلا أنها مازالت تشكل منهلا أساسيا للعديد من الأعمال السينمائية، وهنا يأتى المخرج العبقرى توم هوبر ليقدمها فى ملحمة موسيقية، وخلق معها أجواء مختلفة وبحرفية شديدة، وتبدو امامك وكأنك تشاهد أبطالا فى ساحة مسرحية يجسدون واقعا أليما، وحلما عظيما، وليس أمام شاشة عرض سينمائية.

 

الواقع تمثل فى أكثر من مشهد، منها الأم الشابة التى اضطرت للعمل بالدعارة وتحلق شعرها من أجل إحضار الدواء لطفلتها، وكيف اغتصبها مجتمع بأكمله، لتوصى فالجان برعاية ابنتها قبل أن تموت، ونضال شباب فرنسا ضد السلطة الغاشمة وهم يشعرون أنهم قلة، وينادون على الناس لأن ترسل لهم أثاث المنازل ليضعوه كمتاريس فى مواجهة الشرطة بأسلحتها المتطورة، وانتظارهم فى مشهد آخر بأن باريس يجب أن تخرج وراءهم عن بكرة أبيها، لكن ذلك لم يحدث إلا مع مشهد النهاية العظيم، ومشهد الصبى الصغير الذى ظل يكافح مع شباب الثوار حتى استشهد وهو يؤمن بقضية لا يعرف كل مداركها.. إنه إحساسه الطفولى بقيمة الحرية، مشهد جان فالجان وهو ينقذ الشاب الثائر من الموت وهو لا يدرى أنه حبيب الفتاة التى تبناها ورباها وهى ابنة المرأة التى توفيت، ليتزوج الشاب من الفتاة التى يولد معها عالم جديد.

 

البراعة الأهم للمخرج تكمن فى دفع ممثلين للغناء مباشرة أمام الكاميرا، وكانت أصواتهم تشعرك بالحزن والشجن والغضب لما يتعرضون له من ظلم وقسوة، وتشعر أيضا بأنك تشارك فى انتفاضتهم وثورتهم التى جاءت عبر سيناريو شديد الذكاء وعبر تصاعد درامى رائع الحبكة، حتى تشعر أنك واحد منهم تغنى معهم لحظات اليأس والأمل.

 

كان اداء النجمين هيوجاكمان (جان فالجان) وراسل كرو (المفتش جافرت) قويا ورسما بحق المطاردة بين الحق والباطل وبين العدل والظلم.. كما استطاعت الممثلة أنا هاثاواى بنجاحها فى تقديم شخصية فانتين رغم صغر الدور تجسيد صورة مبهرة للأم وتضحيتها الكبرى، وجاءت جرأتها على قص شعرها بهذا الشكل لتمنح الشخصية واقعيتها الشديدة لتمثيل سيناريو آلان بوليل غياب حرية الانسان والقهر والظلم الذى يتعرض له والأوضاع الاجتماعية السيئة.

 

عناصر النجاح أيضا ساهم فيها بقوة تصوير دانى كوهين، واختيار الأغانى المؤثرة دراميا، كان لها فضل كبير مثل (Look Down) و(One Day More)، وكانت أغنية الافتتاح مؤثرة وممهدة للحدث، وأيضا أغنية الختام التى لم أستطع منع دموعى معها، ووضعت خارطة طريق الخلاص للمستقبل، غنى الممثلون فى صورة سينمائية إنسانية متقنة «فى مكان ما خلف المتاريس عالم تشتاقون لرؤيته.. هل تسمع غناء الشعب.. قل إنك تسمع الطبول البعيدة.. هذا هو المستقبل الذى سنجلبه حينما يأتى الغد.. هل ستنضمون إلى حملتنا.. من سيكون قويا ويقف معى.. يأتى الغد.

 

فى خلف المتاريس هو الذى يصنع المستقبل.. الرغبة فى التغيير هو ما يصنع المستقبل.

 

هل تسمع غناء الناس التائهين فى وادى الضياء.. إنها موسيقى الناس الذين يتسلقون إلى النور.. فى بؤس الأرض يوجد لهب لا ينطفئ حتى أحلك الليالى ستنتهى والشمس ستشرق.. السلسلة ستكسر والرجال سيحظون بجوائزهم.. هل ستنضمون إلى حملتنا.. من سيكون قويا وينضم إلى.. فى مكان ما خلف المتاريس عالم تشتاقون لرؤيته.. هل تسمع غناء الشعب.. قل إنك تسمع الطبول البعيدة.. هذا هو المستقبل تأذى سنجلبه حينما يأتى الغد.. هل ستنضمون إلى حملتنا.. من سيكون قويا ويقف معى.. يأتى الغد».

 

إن هذه الملحمة السينمائية ستبقى فى مقدمة أعظم أعمال تاريخ السينما، فهى بجانب حالتها الفنية العظيمة، يوصى أيضا بدروس عصرية، وربما تلقى بظلالها على واقع مصرى عليه أن ينفض غباره، فالفيلم يكشف يمكن لشباب شعب أن يتجاوز شقاقاته الأهلية، وحاجة الوطن لمن يوحد صفه ويلم شمله، وهنا أيضا تحذير صريح للساسة نتيجة للمعادلة البائسة التى تتكرر فى كل زمان.

 

فقد رأينا شعبا فقيرا وبائسا وسلطة قاهرة يحركها حاكم لا يأبه لمطالب شعبه، وثورة قد تقوم ولا تتوقف حتى وإن احترق الوطن لفترة، والشعلة تجىء من قصة سجين حكم عليه بخمس سنوات ثم تضاعفت المدة إلى 19 عاما لمحاولاته المتكررة للهروب.. ليخرج من قسوة المفتش جافرت، وينجح عن طريق مساعدة قس نبيل، وتتابع الأحداث عبر السرد الموسيقى الرائع، ونرى قيام الثورة الفرنسية وتضحيات جيل شاب دفع عمره لترى أجيال أخرى بلاده ــ كما هى الآن ــ قلعة للحرية والعدل والمساواة.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved