ياســر عمر أميـن يكتب : لوحة “الراهبة” أُنْشُودَةٌ بين واقعِ الترحَال وأمنية الاستقرار

آخر تحديث: الخميس 2 أكتوبر 2014 - 11:50 ص بتوقيت القاهرة

تتردد كلمة "سوق" في اللغة ويكون معناها التجمع، أما حينما تَقْتَرن تلك الكلمة بكلمة "الفن" فما يكون من الذاكرة إلا أن تتجه فاقدةَ الإرادةِ إلى سوقِ الفنِ الدولي وقضاياهُ المثيرةِ، تلك السوق التي باتت أمرًا معقدًا، بعد أن غُلِّفت بإطارٍ اقتصادي، فأصبحت قطاعًا كاملًا قائمًا بذاته، الأمر الذي لا يمكن أن يُتخيِّل معه أن تبقى اليوم بمعزلٍ عن القانون؛ إذ لا تكُف عن تفاعلها المستمر مع هذا الأخير، سواء في مرحلة ولادة العمل الفني، أو في مرحلة تطوره ونموه وتوثيقه.

وما أن تتأمل ما فيها من أحداثٍ وقضايا حتى لتجد بعض الظواهر التي يتراجع فيها القانون أو ما عُرِف باسم ظاهرة "اللا قانون"، حينئذ تمتلكك الدهشة لتأتي من خلفك، فتصيبك على رأسك لتطرحك أرضًا لهَوْل ما تسمع لها من حكاياتٍ يَشِيْبُ لها الشباب، فإذا أردتَ أن تقتصر من الحكايات على حكاية فلن تجد أعجب من لوحةٍ لرائد فن البورتريه في مصر الفنان العظيم أحمد صبري (1889-1955) تلك اللوحة التي أطلق عليها مبدعها اسم "تأملات"، في حين شاعت بين النقاد بمسمى "الراهبة"، تلك اللوحة المثيرة والمحيرة في ذات الوقت التي نال عنها ميدالية الشرف من صالون باريس الدولي عام 1929.

لك أن تتبع مسار تلك اللوحة التي خرجت من متحف الفن المصري الحديث للعرض في الخارج ولم تعد منذ الستينات، لتشْعُر وكأن العَفَارِيْت قد وُكِلت بها، فسرعان ما تظْهَر في مكانٍ، ثم سرعان ما تختفي أيضًا، ثم تنتقل من مكانٍ إلى مكان، لتختفي مرة ثانية وثالثة، وهكذا ظل حَالُها وكأن قد كُتِب على مدار عمرها السفر والتَرْحَال، وكأن مبدعها قد خاصَمَهُ الاسْتِقْرارُ، وجَفَاهُ الاطمئنانُ.

فهلا يأتي اليوم الذي يمكننا أن تسْتَحْوِذ الأحلام على قلوبنا قبل رؤوسنا لنجدها قد استقرت في مكانٍ، واطمأن لها الجميع فيقبلون عليها في مكانها، ليستمتعوا بفنها ؟ أم أن ما قد وُكِل بها من عَفَارِيتٍ سوف يحرموننا منها لتظلَّ تلك اللوحة هاتفٌ يهْتِف على عقولنا، أو شبحٌ يمر أمام أعيننا، أو طيفٌ جميلٌ نتمنى لو أنه ثبتَ ورسخَ واستقرَ.

أما أنا فقد اعترتني هِزَّة فكرية لينتفض عقلي بفكرة شبه جهنمية أشعر لو أنه قد أُخذ بها، لتمكنا من أن نحدد مسارها، وتختفي من حياتنا عبارة "اللوحات المختفية" ألا وهو عمل كتالوج يُوثِّق الأعمال الفنية الكاملة للفنان المصري أحمد صبري، ذلك الذي طوَّف بفكرهِ فنه، فكان في سرعتهِ أسرع من الريحِ، وفي ثباتهِ أثبتُ من الأرضِ، وفي تأثيرهِ أجملُ من القمرِ، وفي إحساسهِ أشدُ من دفءِ الشمسِ، فما أجدرنا إلى تلك الكتالوجات التي مرارًا وتكرارًا ما دعوتُ إلى أهميتها كونها المفر والملاذ والمخرج من كل الأزمات التي تتعرض لها اللوحات سواء المخْتفية منها أو الـمُقلَّدة.

فماذا لو كان هناك كتالوجٌ بالمعنى الحرفي للفنان أحمد صبري. تُرى ماذا سيكون مصيرُ لوحة "الراهبة" ؟ بالتأكيد سيكون مختلفًا كثيرًا.

إذ أن ما يؤكد قيمة الكتالوج في مجالى تاريخ الفن والقانون هو تأثيره الرادع لكل من تُسوِّل له نفسه الاتجار في مجال تزييف اللوحات الفنية أو إخفائها، بحسبانه خط الدفاع الحيوي لحماية أعمال الفنانين. فالكتالوج يتتبع – فيما يتتبع – مسار العمل الفني في مجموعه وبتفصيلٍ أدق، واصفًا ومحللًا كل لوحةٍ أو منحوتةٍ أو غيرها من الأعمال الفنية الواردة، وصفًا وتحليلًا دقيقًا. ليس هذا فحسب، إنما مُحدِّدًا أيضًا هوية بصمتها، فالمتأمل المدرك لقيمة الكتالوج وأهميته لابد أن يستدعي في الذاكرة تحليل الـــ DNA لإثبات الهوية فهو يُوثِّق رحلة انتقال ملكية الأعمال الواردة فيه، سواء انتقلت عن طريق المزادات العلنية، أو البيوع الخاصة، أو بطريق الميراث، أو حتى الهبة منذ إبداع العمل الفني، ناهيك عن توقيع الفنان ونُسخ كل عمل وأخيرًا عدد الأعمال المنسوبة للفنان أو المفقود منها أو المزيفة.

وإذا كانت وزارة الثقافة قد تجافت عن جانبها المنوط بها في الحفاظ على الأعمال الفنية، فما المانع من أن تستعين بأحد السحرة الذين يُذْهِبون تلك العفاريت، إن لم تستطع أن تشكَّل مؤسسة أو جمعية أو حتى هيئة من الخبراء أو ورثة الفنانين في إطار اللجان الفنية، يكون شغلها الشاغل العمل على توثيق الأعمال الفنية لمختلف الروَّاد من خلال كتالوج يكون بمثابة المرجعٍ الذي يُرجع إليه حال الفصل.

إنني لفي أشد الحزن والألم أن أرى تُراثَنا يسرق من بين أيدينا، ثم تغمض عيوننا بداعي أننا مفقودي الإرادة والهوية، وأنني لأتمنى من وزارة الثقافة أن تعود إلى رشدها، وتتبنى ما كلفت به من الحفاظ على ثقافتنا تلك التي قلما أن تجود بها مواهب كمواهب أبناء مصر العظام.

أهذا جزاءُ الفنان الذي عُرِضت عليه، إبَّان عرض لوحة الراهبة بباريس، أموالًا طائلة لشرائها، فما كان منه بدافع الحس الوطني أن قال قولةً شهيرةً جرت مجرى الحكمة أن لوحاتي من وحى مصر، فلن تكون إلا لمصر، وهكذا لم يتوانَ الرجل لحظةً بدافع من حبه لبلده ألا يبخل بها على مُتحَف الفن الحديث حينما شاء الـمُتحَف اقتناءها.

وفي النهاية لا أملك صادقًا من القلبِ إلا أن يُلْهِم الله تلك اللوحة الصواب، وأن يعطيها الاسْتِقْرار، ويبعد عنها شَرَّ ما وُكِل بها ليجعلها غريبةً في بلاد عجيبةٍ، فتُجَرَّد من لقب "أشهر اللوحات المختفية" الذي تحمله كما عبرت عن ذلك الأستاذة الفنانة سوزي شكري في مقالٍ لها.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved