مصر ليست تركيا.. وأردوغان ليس تركيا أيضا! - في أوروبا والدول المتخلفة - المعصرة - بوابة الشروق
في أوروبا والدول المتخلفة
مصر ليست تركيا.. وأردوغان ليس تركيا أيضا! أخر تحديث: الأربعاء 12 يونيو 2013 - 11:33 ص
مصر ليست تركيا.. وأردوغان ليس تركيا أيضا!

"القرعة الإخوانية تتباهى بحجاب بنت أختها التركية والقرعة الليبرالية تتباهى بشعر بنت أختها التركية أيضا".


هكذا قلت ساخرا شاخرا وأنا أسمع وأقرأ كلاما كثيرا تم تقديمه خلال الأيام الماضية بوصفه تحليلا سياسيا عميقا للأزمة التركية التي لا زالت وستظل لفترة طويلة في طور التفاعل والإختمار، مع أنه لا يصلح حتى لأن يكون نكتة مضحكة من فرط سخافته، ينطبق ذلك على كثير مما كتبه وردده عدد من الموالين لجماعة الإخوان من باب الدفاع العمياني عن رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان.

 

كأن تجربته السياسية تخصهم من قريب أو من بعيد، وكأن لهم علاقة تستوجب دفاعهم عنه، لمجرد أنهم يرسلون خيرت الشاطر في رحلات تسول منتظمة إلى تركيا، وينطبق أيضا على ما يكتبه كثير من الكارهين لتجربة أردوغان والذين لحسوا فجأة كلامهم الذي كانوا يقولونه حتى وقت قصير عن علمانية أردوغان التي صفع بها الإخوان حين زيارته لمصر، ليتحول أردوغان فجأة لديهم إلى الرجل الذي انتفض شعبه ضده رافضا أسلمة تركيا.

 

 

مع أن أردوغان لا يملك أن يتراجع عن أفكاره التي سبق أن أعلنها حول إلتزامه بعلمانية تركيا، ولو بذل هؤلاء مجهودا لقراءة ما تم إدخاله من تقنين لإستخدام الخمور، لأدركوا أنه يماثل كثيرا مما هو معمول به في العديد من الدول المتقدمة التي لا علاقة بها بالأسلمة من قريب أو من بعيد، وأن ما حدث من مصادمات في محطة مترو أنقرة بسبب قيام بعض الشباب بتبادل القبلات في المترو ليس أمرا مرتبطا بإجراءات حكومية بقدر ما هو مرتبط بتعقيدات اجتماعية متعلقة بالبيئة الأناضولية الأكثر محافظة التي تقع فيها أنقرة والمختلفة تماما عن مدن أكثر انفتاحا مثل اسطنبول وإزمير وأنطاليا، لو أكل فيها الشباب شفايف بعضهم من البوس لما استوقف ذلك إنتباه أحد.

 

شاهدت كاتبا كبير السن من الذين يبيتون في ستديوهات التلفزيون متحدثين عن كل شيئ وأي شيئ، وهو يتقمص دور الخبير الأناضولي متحدثا عن أن الفقراء الذين ينتخبون أدروغان كفروا به ولم تعد تنطلي عليهم ألاعيبه، بالمناسبة ليس عندي مشكلة أن تتحدث عن عيوب أردوغان من هنا لبكره طالما كانت مستندة على معلومات واضحة وموقف متماسك، فتتحدث مثلا عن طموحه السياسي المتعاظم الذي أصبح عبئا عليه وعلى حزبه وعلى بلاده.

 

وعن ثقته الزائدة بالنفس التي جعلته يقع في خطأ قاتل بمساندة القمع الوحشي الغبي الذي قام به البوليس في اسطنبول وأنقرة ضد متظاهرين سلميين اعترضوا على محاولة قطع أشجار حديقة "جيزي بارك" في قلب ميدان تقسيم، لكن لا تقل لي من فضلك أن الفقراء في الأرياف هم الذين ينتخبونه جهلا وتغريرا بشعاراته الدينية، لأن أردوغان ليس مسموحا له أصلا أن يرفع شعارات دينية، كما أن نجاح الرجل السياسي أصلا جاء بسبب إرتكازه على طبقة صغار التجار وصغار رجال الأعمال التي قامت سياساته بتدعيمها وجعلها قوة إنتخابية مؤثرة.

 

أعلم أن كراهية الكثيرين لغباء الإخوان فاقت كل حد، لكن مقاومة هذا الغباء لن تكون بممارسة غباء مضاد يجعل هؤلاء يروجون لوجود أي شبه من قريب أو من بعيد بين تجربة الإسلام السياسي في مصر وتونس والسودان، وبين تجربة أردوغان التي استندت على أساس من المراجعات الفكرية التي جعلته يختار طريقا مختلفا تماما عن طريق أستاذه نجم الدين أربكان والذي يسير إخوان مصر على طريقه الذي لم يفض به إلا إلى صدام عبثي مع الدولة العميقة والمجتمع الرافض للتدخل في حرياته، يمكن أن أحيلك إلى ما سبق أن كتبته عن مشوار أردوغان وعن صديقي حسن بيه الذي لا يحبه كمعبر عن المعارضة التركية التي لا تثق في توجهات أردوغان حتى وإن كانت تستفيد من إنجازاته الإقتصادية، ستجد ذلك إن أحببت في كتاب (التغريبة البلالية) الصادر عن دار الشروق.

 

قلت لصديق تركي وأنا أحضر معه لزيارة قريبة إلى تركيا وأعلم حماسته الشديدة لما حدث: قل لي بصراحة لو استجاب أردوغان لمطالب المتظاهرين وأعلن أنه سيستقيل من منصبه، ثم دعا إلى إنتخابات برلمانية مبكرة وشارك فيها ألن يفوز هو وحزبه؟، قال لي بضيق: نعم سيفوز، ولكن مجرد هز الكرسي من تحته سيكون مكسبا مهما، أما المكسب الأهم الذي تحقق فهو أن هؤلاء المتظاهرين جعلوا أردوغان ينسى حلم الترشح لرئاسة الجمهورية بعد تغيير الدستور ليصبح النظام السياسي نظاما برلمانيا وليس رئاسيا، قلت له: لكنك تعلم أن ذلك لن يحدث بسهولة طالما ظلت المعارضة التركية منقسمة على ذاتها.

 

قال لي وهو يتبرم من تكسيري لمقاديفه أنه يراهن على أن ما حدث سيقوي حزب الشعب الجمهوري الذي يمكن أن يقوم بتجديد دمائه بضم الكثير من الشباب إلى صفوفه أو التحالف مع التكتلات الشبابية التي أفرزتها الأحداث.

 

وافقته على كلامه وتمنيت أن يحدث ذلك قريبا، وإن كنت أرى من خلال مراقبتي البسيطة لما حدث، أن أكثر المستفيدين من هذه الأزمة كان رئيس الوزراء التركي عبد الله جل الذي أظهر مرونة سياسية فائقة زادت من شعبيته لدى الأتراك، ليظهر أنه ليس مجرد الرجل الذي تم وضعه في قصر الرئاسة إلى أن يوفق أردوغان أوضاعه الدستورية ويحتل كرسي الرئاسة، وبدا أن قصة العلاقة بين الإثنين وهي قصة حافلة بالمفارقات الدرامية دخلت منعطفا جديدا حين قال عبد الله جل للمتظاهرين مهدئا أن رسالتهم وصلت، وهو ما لم يستطع أردوغان في ذورة إندفاعه أن يتجاهله، فقال معلقا في خطأ سياسي فادح "لا أدري ما الذي يقصده سيادة الرئيس بأن الرسالة وصلت".

صحيح أن لهجة أردوغان الأخيرة في مؤتمره الصحفي الأخير الذي عقده في تونس قبل عودته إلى تركيا تغيرت بعض الشيئ عن اللهجة العنجهية التي بدأ بها تعامله مع الأحداث، خصوصا عندما أعلن أنه يرفض ديكتاتورية الأقلية كما يرفض ديكتاتورية الأغلبية أيضا، لكنه لا زال حريصا على أن يظهر بمظهر المكترث بما يجري والمصمم على إكمال كل ما يفكر فيه دون تراجع، وهو ما قد لا يطيح به من منصب رئيس الوزراء، لكنه ربما يطيح بحلمه في رئاسة الجمهورية إذا قرر عبد الله غل خوض الإنتخابات الرئاسية القادمة مستندا إلى شعبيته لدى الأتراك التي تضاعفت بشدة عقب أدائه في الأزمة الأخيرة خصوصا عندما قام بإستدعاء رموز المعارضة إلى قصره وضغط على قيادات العدالة والتنمية وعلى رأسهم بولنت أريتش نائب رئيس الوزراء للتهدئة والإعتذار عن همجية قوات البوليس.

 

وهو ما جعل سقف المظاهرات في اليوم التالي ينخفض من إقالة أردوغان إلى إقالة قائدي شرطة اسطنبول وأنقرة، لكن الأمر يبقى مرشحا للتصاعد من جديد لو لم يحسن أردوغان إدارته، ولو لم يعد إلى أردوغان القديم المحنك العاقل الذي كان دائما ينبعث كطائر الفينيق عقب كل كارثة سياسية يمر بها ويتصور الجميع أنها أنهت مستقبله السياسي إلى الأبد، وأتصور أن إعلان بلدية اسطنبول يوم الأحد الماضي أن مشروع الحديقة الذي أثار الغضب قابل للتعديل والمراجعة هو بداية هذا التراجع الذي يمكن أن ينقذ به أردوغان مستقبله السياسي بعد أن تعلم أن رضا الناس عن سياساته ليس أبديا وليس غير مشروط.

 

ما يحدث في تركيا للأمانة لم يكشف فقط عن أزمة الطموح السياسي لأردوغان الذي جعله لا يدرك أن معظم النار من مستصغر الشرر، بل كشف مجددا عن أزمة المعارضة التركية التي تحمل بداخلها الكثير من التناقضات التي ستجعل إستغلالها لما حدث أمرا شديد الصعوبة، لقد نجح أردوغان وحزبه في آخر إنتخابات بنسبة 52 في المائة برغم وجود أعلى نسبة مشاركة في تاريخ الإنتخابات التركية وصلت حوالي 88 في المائة، لكن منافسيه في الإنتخابات لم يكونوا على قلب رجل واحد ليتمكنوا من قيادة الشارع ضد قيامه بالتوغل في الساحة السياسية الذي وصل ذروته بتقليمه لأظافر المؤسسة العسكرية التي أفسد تدخلها الدائم في السياسة حياة الأتراك خلال الخمسين عاما الماضية.

 

المعارضة التركية لازالت منقسمة بشكل رئيسي بين حزب الشعب الديمقراطي الذي يترنح بفعل الإنقسامات السياسية وعدم قدرته على إفراز قيادة تنافس الكاريزما السياسية الأردوغانية، وبين حزب الحركة القومية الذي لم تعد أفكاره العنصرية المتعصبة تلقى الإقبال لدى المواطن التركي الذي مهما حمل بداخله أفكارا بتفوقه العرقي فإنه سيبارك سياسة أردوغان لتسوية المشكلة الكردية لكي لا تؤثر على الإنجازات الإقتصادية التي كان من بينها على سبيل المثال لا الحصر مضاعفة دخل الفرد ثلاثة أضعاف طبقا لأحدث الإحصائيات، وتصفير ديون تركيا لدى صندوق النقد الدولي خلال الشهر الماضي، صحيح أن تركيا لم تصبح جنة الله في أرضه ولن تكون، ولا زالت تعاني من مشاكل هائلة في مجال العدالة الإجتماعية، لكن أي مقارنة بسيطة يجريها المواطن التركي بما يجري حوله في دول الجوار ستكون قطعا لصالح أردوغان وحزبه.

 

لكي يتضح لك تعقيد المسألة أكثر، دعني أحدثك عن بيان أصدره المحتلون لميدان تقسيم في استنبول لم تقم أي وسيلة إعلام محلية أو عربية من اللواتي هللن للمظاهرات بالإشارة إليه لكي تستمر في تغذية الإنطباع الزائف بأن ما يجري ثورة شعبية ستطيح بأردوغان في التو واللحظة، دعا البيان المشاركين في التظاهرات إلى الحرص على أن يبقى ميدان تقسيم منطقة خالية من أنصار الفاشية العسكرية والفاشية الأتاتوركية والمصابين بفوبيا الأقليات وفوبيا المثلية الجنسية طبقا لنص البيان الذي كان يعلق على مصادمات جرت بين الذين قادوا حركة الإحتجاجات.

 

وبين أنصار الحركات الأتاتوركية المتعصبة التي تنادي بعودة الجيش إلى الساحة السياسية والإطاحة بأردوغان لكنها في نفس الوقت تحمل أفكارا شديدة المحافظة تتصادم مع الذوق الشبابي الذي أعلن أنه ليس مستعدا أبدا لأن يطيح بمستبد يسعى للتدخل في الحريات الشخصية بإسم القيم الدينية والحضارية، ليأتي بمستبد آخر يسعى للتدخل في تلك الحريات بإسم الهوية الأتاتوركية.

 

كشأن كل حدث درامي معقد، يلعب المكان دورا شديد الأهمية في تغذية الحدث وتقويته، ومن يعرف منطقة ميدان تقسيم التي اندلعت منها الأزمة جيدا، يعلم أن الأزمة الحادثة أكبر من أن تكون متعلقة بأردوغان وحده كشخص، فأردوغان مهما كان زعيما كاريزميا ميالا للتغوّل، فهو في النهاية يمثل حزبا شديد القوة والتنظيم، وإذا رحل أردوغان عن الحياة لأي سبب قدري، سيبقى هذا الحزب الرقم الأصعب في الساحة السياسية، خاصة أن لديه كوادر متنوعة الوجوه والميول والأداءات.

لذلك فأزمة ميدان تقسيم هي تماما كميدان تقسيم، تمثل جوهر التناقضات التي تواجهها تركيا الآن، وستظل تواجهها طيلة العقود القادمة لو لم يتم التوافق على طريقة وطنية للتعامل معها تنجي البلاد من العودة إلى حالة التناحر السياسي التي عاشت فيها عقودا بأكملها ولم تمح إنجازات أردوغان الإقتصادية آثارها من عقلية الأتراك ونفسياتهم.

 

قرأت للروائي التركي العظيم الحاصل على جائزة نوبل للآداب أورهان باموق مقالا صغيرا ومهما نشره في مجلة نيويوركر الأمريكية يتحدث فيه عن أهمية ميدان تقسيم كرمز يحتل وجدان سكان اسطنبول، فقد كان المكان الذي شهد عام 1977 حركة إحتجاجات يسارية عنيفة ضد القمع الفاشي العسكري أدى إلى سقوط أكثر من 42 شخصا، وهو ما غاب عن تفكير سلطات حزب العدالة والتنمية التي تدير بلدية اسطنبول، ربما لأنها إطمأنت إلى أن نواب حزب الشعب الجمهوري المعارض أنفسهم كانوا قد وافقوا على إنشاء مشروع إقتلاع اشجار الحديقة وإقامة المركز الثقافي السياحي التجاري الذي كان يسوقه حزب أردوغان على أنه إضافة إقتصادية تحتاجها المنطقة، ثم لما احتدم الصراع بفضل رفض النشطاء البيئيين للمشروع.

 

بدأ يتحدث أكثر عن البعد الحضاري للمشروع الذي يسعى لإستعادة ثكنة عثمانية أثرية كانت موجودة قديما في المكان وقام العهد الأتاتوركي بطمس معالمها، ثم قام أردوغان بتذكير نشطاء البيئة بأن أكبر عدد للأشجار تم زراعته في تاريخ اسطنبول كان في عهد رئاسته لبلديتها، وهو العهد الذي كان سببا في بدء تشكل أسطورة أردوغان السياسية في الواقع التركي، بالمناسبة كان رئيس حزب الشعب قد قال فور إندلاع الأزمة أنه لو ثبت فعلا أن نوابه أعلنوا موافقتهم على المشروع فإنه سيقدم إستقالته، وبعد أن تم تقديم المحاضر التي تثبت موافقتهم عليه لحس كلامه عن الإستقالة كأنه لم يقله أصلا.

دعني أحدثك أكثر عن تقسيم لأقرِّب لك المشهد كما أراه، عندما زرت اسطنبول للمرة الأولى قبل تسع سنوات، أقمتُ في منطقة تقسيم التي يفضلها السياح المصريون والعرب بوصفها "وسط البلد" الأكثر ازدحاما وبهجة والأرخص سعرا، في حين يفضل السياح الأجانب منطقة السلطان أحمد وما يجاورها من مناطق أثرية أقدم وأشهر، أذكر خلال يوم تجوالي الأول مع زوجتي في الشوارع المحيطة بشارع الإستقلال بمنطقة بي أوغلو التي تنتهي بميدان تقسيم.

 

أننا جلسنا على مقهى لنستريح من عناء المشي وصدمة سرقة موبايل زوجتي، فبدأ صاحب القهوة حوارا وديا معنا عن مصر وعن العروبة والإسلام قائلا لنا بتفاخر أن زوجته محجبة لأنه يريد أن يدخلا الجنة، ثم قطع كلامه فجأة صارخا "جهنم وبئس المصير"، وهو ينظر بإشمئزاز إلى زاوية معينة خلفنا، عندما التفتنا وجدنا بها بنتين يقومان بتقبيل بعضهما قبلة سينمائية ساخنة لم يبد أنها أثارت إندهاش واستغراب أحد في المكان غيرنا نحن وصاحب المقهى.

 

بعد قليل ومع تأمل أكثر لتفاصيل المكان تكتشف أنك موجود في مكان لا يختلف مطلقا عن حي سوهو في لندن أو حي ويست فيلاج في نيويورك، القبلات والمعانقات بين العشاق الشواذ من الجنسين ليست أمرا غريبا على أحد، تماما مثل سينمات الأفلام البورنو التي تجاور دور السينما العادية، عندما يقترب منك أحد إذا كنت تتجول وحيدا ليقول لك "السلام عليكم أخي.. الأخ عربي.. هل تريد بنات نظيفات للجنس"، ستعرف بعد السؤال والقراءة أنك تسير في الشوارع التي كان يوجد بها أشهر بيوت الدعارة في اسطنبول، لكنك أيضا ستجد في نفس هذه الشوارع أهم المكتبات والمراكز الثقافية والمقاهي الأدبية والمساجد والكنائس الأثرية، لتتشكل بداخلك علامات استفهام كبيرة لن تجد إجابة عليها إلا في كتاب مثل كتاب أورهان باموق الرائع "اسطنبول الذكريات والمدينة"، الذي ستدرك من خلاله كيف ظلت اسطنبول طيلة عمرها وربما إلى الأبد عصية على الفهم والتغيير والإحتواء.

 

لا أجد ما يمكن أن يلخص لك كل هذه التناقضات أكثر من قصة حدثت لي قبل ثلاثة أعوام في شهر رمضان، عندما كنت عائدا من صلاة ليلة القدر التي حلت أثناء وجودي في اسطنبول فقررت أن أشهدها في مسجد السلطان أيوب الذي يوجد به قبر الصحابي أبي أيوب الأنصاري الذي مات على أسوار القسطنطينية خلال أولى محاولات فتحها، ومن شدة محبة الأتراك له وتبركهم به خلعوا عليه لقب السلطان وحولوا جامعه إلى المزار الديني الأهم في اسطنبول والذي يجتذب في ليالي رمضان مئات الآلاف الذين يتناوبون على الصلاة بداخله وفي الشوارع المحيطة به طيلة الليل وحتى مطلع الفجر.

 

كانت الشحنة الروحية التي حصلت عليها هناك مذهلة، كنت متأثرا للغاية بفكرة أن تقضي ليلة وسط آلاف الرجال والنساء ولا تشعر بأي من عيوب الزحام الخانق، فلا تسمع صرخة تشكو من وجود حرامي كما يمكن أن تسمع ذلك عند تجوالك في شارع الإستقلال مثلا، ولا تصادف حالة تحرش واحدة كالتي تحدث لدينا حتى في مساجدنا في قلب رمضان، برغم أن كثيرات من الموجودات في المكان غير محجبات ويرتدين ملابسهن العادية ويكتفين فقط عند دخول المسجد بوضع إيشارب على الراس تقديسا للمسجد واحتراما لصاحب ضريحه.

 

ظللت أتجول في المكان مبهورا بكل تفاصيله وعندما اقترب موعد السحور عدت إلى حيث كنت أسكن في فندق مرمرة الواقع في قلب ميدان تقسيم، وعندما نزلت من التاكسي وجدت الناس متجمهرين حول فتاة في العشرين من عمرها ملقاة على الأرض وجسدها ينتفض متشنجا ويخرج من فمها رغاوي بشكل مخيف.

 

كان رفاقها يصرخون وهم يستعجلون الإسعاف، بينما يحكي أحد المارة لسائح غربي أن ما حدث للبنت بفعل السكر المفرط، في حين يقول له السائح الغربي أنه يظن أن الفتاة لديها مشكلة صرع، وعلى بعد خطوات كان عدد من قبضايات ملهى ليلي مجاور يقومون بفض خناقة عنيفة بين عدد من السكارى كان أحدهم قد تمكن لتوه من فتح رأس رفيقه بزجاجة خمر كانت أضخم زجاجة خمر شاهدتها في حياتي، وبرغم المجهودات المضنية التي بذلت لفض الخناقة إلا أن سرينات البوليس وحدها كانت سببا في توقفها عندما حاول بعض المشاركين فيها الهروب من المكان.

 

صحيح أن هذه المشاهد تتجاور تماما مع المشاهد التي رأيتها في مسجد أيوب لتشكل جزءا من تناقضات هذه المدينة الكبيرة المدهشة المبهجة والمفزعة في تناقضاتها أيضا وفي سحقها للفقراء شأن كل المدن الكبرى، لكن أي مراقب للشأن التركي يدرك أن تجاور هذه التناقضات إلى الأبد ليس أمرا مضمونا أبدا، بل إنها مرشحة للإنفجار ما لم يحسم الأتراك الكثير من الأسئلة عن علاقتهم بالغرب وعن شكل النظام السياسي الذي سيختارون المضي فيه قدما، وعن موقفهم من تاريخهم الحديث والقديم.

 

المدهش أنه من بين سيل النكت التي سمعتها حول ما حدث في تركيا بدت لي إحدى النكت أقرب إلى التحليل السياسي لحقيقة ما حدث وأكثر عمقا من بغبغات المحللين السياسيين الفالصو الذين تمتلئ بهم وسائل إعلامنا التعيسة، النكتة تقول "الثورة التركية دي مش هتخلص بسرعة لإنها هتبقى من ميتين حلقة"، وربما لم يكن قائلها يعي أنه أصاب كبد الحقيقة، لأنه حتى وإن أطاحت أي أحداث متصاعدة بأردوغان.

 

فإنها لن تنهي سخونة الصراع السياسي التركي بين تيار يمثله حزب العدالة والتنمية الذي فرض على أرض الواقع نموذجا سياسيا جديدا استفاد فيه من تجارب السياسيين التركيين المثيرين لمشاعر مختلطة من الجدل والتقدير عدنان مندريس وتورجوت أوزال والذي لازال مطالبا ببلورة مواقفه من الحريات الشخصية والعامة وتقليل عدائيته التي يمثل أردوغان وجهها الأكثر إثارة واستفزازا، وبين تيار عريض غير منظم ومتشرذم القوى يريد الحفاظ على تركيا كما صاغها الأب المؤسس مصطفى كمال أتاتورك الذي لم ينجح كثير من محبيه في ترجمة شعبيته الجارفة حتى الآن وسط الأتراك إلى تيار سياسي منظم وقوي وقادر على التعاطي مع متغيرات العصر التي لم تعد تعترف بالحكم العسكري ولا بالأفكار العنصرية ولا بالتدخل في حريات الآخرين.

 

أيا كان ما ستنتهي إليه مجريات الأزمة في تركيا، فقد كان التأمل والتحليل أجدى وأبدى لنا جميعا في تعاملنا مع ما حدث في تركيا من الشماتة أو التبرير، لكن ماذا تقول وقد اختار كثيرون منا إدمان الكسل العقلي وإتخاذه طريقا وحيدا في الحياة سوى أن تتذكر قوله تعالى "وأن ليس للإنسان إلا ما سعى".

 

وهي الآية التي لم تؤثر في حياتنا بنفس القدر الذي أثر به قول الشاعر الشعبي "ماحدش بياخد أكتر من نصيبه ياباشمهندس".