هواء السيد الرئيس! - بدون تصنيف - المعصرة - بوابة الشروق
بدون تصنيف
هواء السيد الرئيس! أخر تحديث: الأربعاء 13 مارس 2013 - 1:07 م
هواء السيد الرئيس!

في البدء ظن المحيطون بالرئيس أن الهواء المنبعث من فخامته هو بعضٌ مما يخرجه الناس بعد أكلة عسيرة الهضم، فشكروا الله أن ذلك حدث أثناء وجود فخامته بصحبة الرئيس الفرنسي، فالغربيون في الأغلب الأعم لا يجدون حرجا في إخراج الغازات على الملأ، ويعتبرون ذلك ظاهرة طبيعية لا يجب أن يخجل منها الناس، في حين يجدون التجشؤ أمرا معيبا، وربما لذلك كان الرئيس مركزا طيلة الوقت على منع نفسه من عادته المفضلة في التجشؤ العلني، فوقع المحظور عندما لم يمسك نفسه من تحت، أو هكذا ظن المحيطون به في البدء.

 

"هلا أطفأتم التكييف لأنه يقوم بجعل الأوراق تطير" تستطيع أن تعتبر هذه الترجمة الأدق لما قاله الرئيس الضيف عندما شاهد أوراق الملف الذي قدمه للرئيس وهي تتطاير برغم حمل الرئيس لها، لم يفهم الرئيس الفرنسي ملامح الإرتباك التي سكنت وجه الرئيس، أو لعله فهم وقرر الطناش فاستجاب على الفور لإقتراح الرئيس بأن يخرجا إلى حديقة القصر لتكون تلك أول مباحثات رسمية بين البلدين تنعقد في الهواء الطلق بعيدا عن أعين مصوري الرئاسة.

 

الرئيس عقب إنصراف ضيفه إلى مقر إقامته قبل أن يعود إلى بلاده، اضطر لمصارحة فريقه الرئاسي فورا بمصدر الهواء، مشددا على شكر الله لأن ذلك الهواء لم يكن سيئ الرائحة، معترفا لهم بأن الأمر بدأ يحدث له بصورة مزعجة منذ مساء الأمس، وأنه كالعادة لام محشي الكرنب الذي حملته له حماته في زيارتها الأخيرة للقصر الرئاسي، وظن أن أقراص الفحم التي اعتاد عليها لمواجهة الإنتفاخ ستحل الأزمة، لكنه لم يتوقع أن يتكرر الأمر بصحبة الرئيس الضيف، ولا أن يستمر في التكرار في اللحظة التي يحدثهم فيها، كما يلاحظون بالطبع.

 

استقر الجميع على ضرورة التدخل السريع لمواجهة الأمر، لأن الإطمئنان إلى كون الهواء الخارج منعدم الرائحة يمكن أن يتغير في أي لحظة، كان لا بد من البدء بالمعدة لأنها بيت الداء كما قال نائب الرئيس المُحنّك، على الفور تم الإتصال بأكبر خبراء التغذية في البلاد والذي يقدم برنامجا صحيا شهيرا على إحدى القنوات الفضائية، ولكي لا يحدث تسرب لأي تفاصيل إلى الصحافة، تم تكليف مستشارة الرئيس للشئون الخارجية بالإتصال به على أن تروي له المشكلة بوصفها تخص زوجها المحامي البارز، وهي اتصلت بالدكتور في حضور الرئيس ومستشاريه وأقسمت عليه أن يكتم الأمر لكي لا يتعرض زوجها للحرج وسط موكليه، قبل أن تطلب منه قائمة بأهم الأغذية التي يمكن أن تقوم بمكافحة الغازات وأهم الأغذية التي يمكن أن تسببها أو تشجع على إنتاجها، والرجل كان متعاونا ومسهبا في مكالمته التي لم يكن يعلم أن الأجهزة السيادية كانت تقوم بتسجيلها وتفريغها تمهيدا للتعامل مع ما جاء بها من معلومات.

 

الخطوة التالية قام بها المسئولون عن المطبخ الرئاسي الذين أعادوا تشكيل البرنامج الغذائي للرئيس بناءا على قائمة خبير التغذية، تذمر الرئيس قليلا عندما وجد أنه سيودع مؤقتا الكثير من الأطعمة التي يعشقها، لم يكن ليتخيل يومه بدون الفول والفلافل والحمص والعدس والفاصوليا واللوبيا والملوخية، ولم يكن ليستسيغ شايه بدون لبن، ولم يكن يتصور قط أنه سيُحرم من الجرجير والبصل والثوم والبطيخ والشمام والمانجه الفص، لكن كل هذا بدا هينا إلى جوار تعليمة مهمة شدد عليها خبير التغذية وهي أن يلتزم بعدم الحديث أثناء الطعام لكي لا يقوم ببلع كميات من الهواء تسبب له الغازات، المعلومة جعلت الرئيس يفقد صبره، ليمزّق قائمة التعليمات ويرميها في وجوه مستشاريه قائلا لهم بغضب "لماذا لا تقومون بتخييط فمي أحسن؟"، مستشاره القانوني المتسرع دائما رد بعفوية "لكن المشكلة ليست في فم سيادتك"، قبل أن ينتبه إلى خطورة ما قاله ويعتذر طالبا الذهاب إلى دورة المياه لتجديد وضوئه.

 

عندما غادر المستشار قال الرئيس لمن بقي معه، أنه لم يصلي من الأمس لأنه في حالة نقض وضوء مستمرة، طالبا منهم أن يبحثوا له عن حل طبي ولو من بعيد لبعيد، لأنه لن يتحمل الحياة في ظل كل هذا العناء، لكن نائبه المحنك صارحه بأن هذا الأمر يحمل مخاطرة لن يتقبلها أحد، لأن الجهات السيادية التي تختص بتأمينه لن توافق على أخذه لأي دواء دون أن يكون ناتجا عن فحص مباشر له، لأنها ليست مستعدة وسط كل هذا الإحتقان الذي يسود البلاد أن تتحمل المسئولية الناجمة عن أخذه لأي دواء خاطئ يسبب له مضاعفات صحية سيئة أو ربما يؤدي إلى وفاته لا قدر الله.

 

كان الوقت يطارد الجميع، فقد كان على الرئيس أن يظهر مباشرة على الهواء بعد ساعات قليلة في خطاب كان قد تم الإعلان عنه قبل يومين، وكان يفترض أن ينقل الرئيس فيه للشعب أخبارا تخص لقاءه بالرئيس الضيف، طرح مستشار الرئيس القانوني بعد عودته من دورة المياه خيار تأجيل الخطاب إلى يوم آخر، لكن الجميع بادر إلى الإعتراض مؤكدا أن المعارضة ستستغل ذلك التأجيل أسوأ إستغلال، خاصة أن الرئيس الضيف وبحكم القواعد المتعارف عليها في دولته، سيعلن نتائج المباحثات للصحفيين المرافقين له على طائرته الرئاسية التي ستقلع بعد ساعات، وستنشرها صحف دولته على الفور في مواقعها الإخبارية لتنقلها عنها الصحف المحلية على الفور، مما سيحرم الرئيس من فرصة زف بشرى سارة للشعب بموافقة الدولة الغربية على منح قرض بقيمة خمسة مليارات يورو.

 

لم يحتمل الرئيس التوتر الذي اجتاحه بعد كل ما قاله مستشاروه، وصرخ في الجميع شاكيا من أنهم لا يهتمون بما يشعر به من حرج مُهين لن يجعله يكون مرتاحا أثناء إلقاء الخطاب وهو ما سيلاحظه معارضوه دون شك، وسيجلب لهم أقسى الإنتقادات من ألسنتهم السليطة معدومة الرباية. وزير الإعلام طرح حلا استراح له الجميع وهو أن يتم تسجيل الخطاب ويقال للشعب أنه خطاب مباشر، على أن يتم ذلك وفقا لإجراءات تضمن عدم تسرب المعلومة للصحافة، حيث يتم التسجيل في الإستديو التلفزيوني الموجود في القصر الرئاسي، على أن تتوجه وحدة بث مباشر من مبنى التلفزيون الحكومي إلى القصر بدعوى بث الخطاب على الهواء من داخل القصر، ويتم تسريب التفاصيل إلى الصحف بحيث يتأكد الجميع أن الخطاب الذي يرونه تتم إذاعته مباشرة على الهواء.

 

 

في ذات الوقت، كان لا بد من أخذ قرار سريع لإخفاء المشكلة الكارثية التي لاحظ الجميع أنها تتفاقم كل لحظة تقريبا، وإن كانوا يواصلون حمد الله على أن الهواء الخارج من سيادته كان لايزال محتفظا بحيادية رائحته، لكن تزايد إنبعاثه سبب مشكلة لم تكن تخطر على البال، هي أنه أصبح مصاحبا بصوت يشبه صوت تفريغ إطار السيارة بدأت قوته تزيد شيئا فشيئا، الرئيس كان نفسه أول من لاحظ الصوت بحكم أنه الأكثر قربا إلى موقع خروج الغازات، وفي أقل من ساعة أصبح الصوت مسموعا لكل المحيطين به، لذلك كان لا بد من أخذ القرار الصعب في الوقت المناسب قبل أن تتفاقم الأمور بشكل لا يحمد عقباه.

 

فجأة وجد أكبر أطباء الجهاز الهضمي في البلاد نفسه مجبرا على قطع محاضرة له بكلية الطب، والتوجه بصحبة رجل مهيب عَرّف نفسه بأنه لواء برئاسة الجمهورية، وقال للدكتور أنه مطلوب لمقابلة مهمة مع رئيس البلاد، الدكتور الكبير لم يتهيب الموقف، فقد تبادر إلى ذهنه أنه مطلوب ولا محالة لمناقشة ورقة لإصلاح التعليم الجامعي كان قد أرسلها إلى رئاسة الجمهورية قبل أشهر، ولذلك أخذ طيلة الطريق يُثني على ماحصل في البلاد من تغييرات جذرية كان يتمنى أن يراها قبل أن يموت، بعد أن ظل طيلة عمره المهني يشعر أنه يؤذن في مالطة دون جدوى، ومع أنه لم يلق من اللواء الذي صحبه إلا وجها جامدا ورأسا يهتز بحركات ميكانيكية إلا أنه لم يستغرب ذلك، فقرر أن يصمت لينظم أفكاره، ليستطيع شرح رؤيته لإصلاح التعليم في وقت قياسي لا يقتطع الكثير من جدول أعمال الرئيس.

 

عندما وجد الطبيب نفسه بعد دقائق مطالبا بأن يفحص أكثر المناطق خصوصية في البلاد، لم يتذكر ولا كلمة من كل ما كتبه في حياته من أفكار لإصلاح التعليم الجامعي، لأنه كان أمام ظاهرة طبية يراها ويسمع عنها للمرة الأولى في حياته، مستشارو الرئيس ظنوا أن إرتباكه الذي طال يرجع إلى غضبه من رفضهم طلبه بأن يختلي بالرئيس ليأخذ راحته في الكشف عليه، وهو الطلب الذي قيل له أنه غير مسموح به قبل أن تصل تقارير الأجهزة الأمنية عنه، وهو ما لا يحتمله الوقت خاصة مع تصاعد صوت الهواء الخارج من فخامة الرئيس الذي انتابته حالة عصبية جعلته يقوم بالصراخ المستمر وهو يتحدث عن المؤامرات التي يمارسها أعداء الشعب عليه وعن التحديات التي تواجهه وعن عزمه الأكيد في التغلب عليها، كان الكل يستمعون إلى الرئيس وهم يهزون رؤوسهم بحماس، في حين يتملكهم شعور بالإشفاق عليه لأنه يتخيل أنهم لا يفهمون أن صوته العالي ليس وراءه سوى رغبته في صرف إنتباههم عن الصوت المنبعث من أسفله.

 

"هه يادكتور.. هل تنصح بشربة إنجليزي لتنظيف الأمعاء؟"، هكذا قال الرئيس وهو يقوم بإرتداء ملابسه ليخفي حرجه وليستعجل الحصول على إجابة من الطبيب ممتقع الوجه، فجأة إستأذن الطبيب في إستخدام جهاز الآي باد الخاص به الذي أخذه منه أمن القصر للتأكد من معلومة طبية، وعندما نظر الجميع إلى طلبه بأعين ملئها الإستنكار، اضطر لمصارحتهم بأن الحالة التي شهدها لا علاقة لها بالجهاز الهضمي أو حتى بالجهاز الإخراجي من قريب أو من بعيد، وأنها حالة علمية نادرة لم يسمع بها من قبل، وأن الهواء لا يخرج من الموضع الذي تخيلوه، المفاجأة أنه يخرج من مسام جلد النصف الأسفل للرئيس، ولذلك فهو قبل أن يعطي رأيه المبدئي يطلب أن يتاح له الدخول إلى الإنترنت ليتصفح موقع مجلة علمية كان قد قرأ فيها منذ فترة طويلة عن حالة طبية نادرة يقوم فيها الجسم بسبب وجود خلل مناعي نادر بإخراج العرق في صورة بخار وأن الجسم الذي يحدث فيه ذلك يتعرض لحالة من الهزال المستمر تؤدي به إلى الإنكماش وقد تفقده حياته إذا لم يتم التدخل لوقف ذلك الخلل المناعي وإعادة إخراج العرق في صورة سائلة، مع تركيب مُنَظِّم للهواء يقوم بتنظيم خروج الهواء من الجسد دون إصدار ذلك الصوت المزعج حتى يتم حل المشكلة تماما بعد العلاج بالخلايا الجذعية، كان الجميع يستمعون إلى الطبيب وهم فاغرو الأفواه من شدة الذهول، والوحيد الذي نجح في إطباق فمه لكي يفتحه ثانية ويتحدث كان المستشار القانوني المتعجل الذي قال بكل جدية "تقصد إيه يادكتور.. يعني الرئيس بينفِّس؟".

 

فجأة تأزم الموقف عندما أخرج الرئيس مسدسه الشخصي من جرابه المثبت في حزامه وأقسم أنه سيفرغ الخزنة كاملة في رأس مستشاره القانوني الذي سكت عليه أكثر من اللازم، والنائب المحنك نصح المستشار القانوني بتقبيل رأس الرئيس وتقديم إستقالته على الفور، وهو ما لم يتردد المستشار القانوني في فعله حفاظا على حياته، قبل أن يخرج مهرولا من المكتب الرئاسي، دون أن يعلم أن مفاجأة ستنتظره خارجه، حيث تم إعتقاله من قبل أمن الرئاسة ليتم التحفظ عليه في مكان آمن طبقا للتعليمات التي صدرت للتو من النائب الذي نظر بعد إصدار القرار إلى الرئيس بإبتسامته المطمئنة التي يحبها الرئيس، هدأ الرئيس قليلا قبل أن يقول للدكتور الذي لم يعد قادرا على كتم إرتعاشه "والعمل يادكتور؟".

 

طبقا لنصائح الطبيب البارع بضرورة السفر السريع إلى الخارج، جرى تسجيل الخطاب في الاستديو الموجود بقصر الرئاسة على وجه السرعة، ليظهر الرئيس أثناء تسجيل الخطاب جلدا رهيبا بحيث يبدو لجميع من سيشاهده أنه لا يشكو من شيئ، في حين تكفل وزير الإعلام بحل مسألة الصوت المنبعث من فخامته والذي كان مسموعا بشكل ملحوظ أثناء تسجيل الخطاب، لم يكن الأمر مكلفا جدا، فقد تطلب فقط ترقية أمهر مهندسي الصوت في جهاز التلفزيون ليصبح رئيسا لقطاع الهندسة الإذاعية ونقل الرئيس الحالي للقطاع ليصبح رئيسا لإتحاد الإذاعة والتلفزيون، وإقالة رئيس الإتحاد الحالي وتقديمه للنيابة العامة بتهمة الفساد المالي والإداري.

 

كانت الأخبار التي حملها الرئيس للشعب في خطابه سارة، ومع أن الهواء الخارج من فخامته لم يكن أبدا ليصل إلى الناس في بيوتهم ومقاهيهم وهم يشاهدونه، ومع ذلك فقد لاحظت الأجهزة الأمنية طبقا لتقاريرها المرفوعة للرئيس أن الكثير ممن تابعوا الخطاب كتبوا على مواقع التواصل الإجتماعي تعليقات من نوعية "هو الريس خاسس شوية؟.. هو ماله مش طبيعي.. زي ما يكون مش مالي مركزه.. تحس إنه بيلق كده في مكانه.. هو صحيح عيان زي ما بيقولوا ولا إيه الحكاية بالضبط؟"، ولم يكن أمام الرئيس سوى دعوة فريق مستشاريه لإجتماع فوري لإتخاذ حزمة قرارات حاسمة.

 

بعدها بيومين، وفي حين كانت كاميرات التلفزيون تذيع صورا للرئيس وهو يغادر متوجها إلى العاصمة اليابانية طوكيو في زيارة مفاجئة وصفت بأنها إستجابة لدعوة كريمة من حكومة اليابان الشقيقة يُنتظر أن تحمل أخبارا سارة للشعب، وصفتها مصادر مطلعة بأنها تتعلق بقرض ياباني كبير، كان المتحدث بإسم الرئاسة يعلن عن تعديل وزاري محدود أصبح الطبيب الشهير بموجبه وزيرا للتعليم العالي والبحث العلمي، ليحكي للصحفيين عن إنبهاره بسرعة إستجابة الرئيس لمقترحاته لتطوير التعليم العالي التي قدمها إليه في ملف متكامل كان يتوقع أن يوضع في الأدراج كما كان يفعل الرؤساء السابقين.

 

 

بعدها بيوم، وفي حين كانت أسرة المستشار القانوني تنعيه للأمة وتعلن العثور عليه ميتا في سريره بعد أن داهمته أزمة قلبية حادة، كان سيادة الرئيس يرقد على ترابيزة معقمة داخل معمل متطور تابع لأكبر شركات صناعة الإطارات في العالم لتركيب منظم الهواء اللازم لحل مشكلة إنبعاث الهواء من فخامته، في حين كان النائب المحنك يطير إلى سويسرا بصحبة وفد طبي متكامل في زيارة بالغة السرية لمقابلة أكبر خبراء العلاج بالخلايا الجذعية في العالم، في ذات الوقت الذي كانت قد صدرت فيه الأوامر إلى كل أفراد اللجان الإلكترونية التابعة لحزب الرئيس أن ينشروا في كل مقاهي البلاد ومحافلها وفي كل مواقع الإنترنت ومنتدياته صورا للرئيس في أوضاع خطابية مختلفة مصحوبة بعبارة تقول "إنما بسم الله ماشاء الله الريس مالي مركزه على الآخر".