فتح بطن التاريخ يا روايح الزمن الجميل.. الأبيح! - التغريبة البلالية - المعصرة - بوابة الشروق
التغريبة البلالية
فتح بطن التاريخ يا روايح الزمن الجميل.. الأبيح! أخر تحديث: الأربعاء 26 يونيو 2013 - 1:18 م
فتح بطن التاريخ يا روايح الزمن الجميل.. الأبيح!

"فعلا عندك حق، نحن بحاجة أن نتوقف عن الإسفاف اللفظي ونعود إلى أيام الزمن الجميل حيث كانت لغة الخطاب شديدة الرقي والتحضر، وبعيدة كل البعد عن الإسفاف والإبتذال"، قلت لصديقي هذا الكلام بصوت متهدج متعمدا أن "أدوس جامد" على مخارج الألفاظ، ومع ذلك لم يصدق كلمة مما قلته، لأنه لم يتعود على أن أوافقه على كل مايقوله بهذه السهولة المريبة، قال لي بحدة "على فكرة أنا ما باهزرش، وياريت تتكلم بجد"، تذكرت أوامر الطبيب بالبعد عن الإنفعال، فقلت له مقررا من باب التغيير إستبدال الإنفعال بالإستظراف "طيب ياسيدي.. إيه رأيك عشان نبقى عمليين إنك تحدد لي سنين معينة في الزمن الجميل عشان نرجع لها بدل مانحرق بنزين كتير وإحنا راكبين آلة الزمن"، عندما علا صوته شاتما إتضح أن الإستظراف سلاح فتاك حقا، تجاهلت شتائمه وواصلت تصنع الجدية وقلت "إيه رأيك مثلا في أيام طه حسين وعباس العقاد والفترة الذهبية في تاريخ الصحافة المصرية.. متهيأ لي مافيش أجمل من ده زمن.. إيه رأيك نثَبِّت لغة الخطاب بتاعته؟"، نظر إليّ بتشكك من ظن للحظات أن المعجزة قد حدثت وأنني أخيرا إقتنعت بوجهة نظره، وقال لي بحماس "مثلا.. ليه لأ؟". أجبته بهدوء شديد "سأترك لك إجابة هذا السؤال.. إنت عندك فاكس؟".

 

وهو يغالب دهشته أعطاني رقم الفاكس، وعندما إستأذنته في الإنصراف، قال لي "هتمشي من غير مانقفل المناقشة؟"، قلت له "وإحنا كنا فتحناها أصلا.. ياأخي إنت أفحمتني بالقاضية.. إقرا بس الكام ورقة التي سأرسلها لك على الفاكس وبعدين نكمل كلامنا"، فور عودتي إلى البيت أرسلت له على الفاكس صفحات الفصل السابع من كتاب مهم وجميل وشبه مجهول لأستاذ الصحافة المرحوم مصطفى أمين إسمه "لكل مقال أزمة" ـ طبعة دار الشروق 1979ـ، وقبل أن تسألني لماذا حرصت أن أرسل له نص الصفحات بدلا من أن أحكي له مضمونها، دعني أقل لك أنه لم يكن ليصدقني مثلما لن تصدقني أنت الآن وأنت تقرأها، وستطالبني بنشر صورة زنكوغرافية للتدليل على صدق ما أقوله، وبالمناسبة لن ألومك لو فعلت ذلك.

 

يقول مصطفى أمين ضمن كلام كثير "... كان السياسيون في عهد حرية الصحافة يتحملون النقد والهجوم، قيل فهيم أكثر مما قاله مالك في الخمر، وكان من بين الأبواب المشهورة في المجلات في الثلاثينات باب إسمه "حقائق وقاذورات"، و"من بئر قذر"، ونشر الأستاذ العقاد مرة مقالا يهاجم فيه حزب الأحرار الدستوريين بعنوان "يا شرا..." ـ لن أجرؤ صدقني على نشر الكلمة كاملة كما نشرها بالنص مصطفى أمين ومن قبله العقاد سأتركك تكملها بنفسك وسأساعدك من عندي بالقول أنها كلمة شعبية تنادى بها العاهرات ويستخدمها بعض المشايخ في دروسهم الدينية ولو لم تصدقني هات الكتاب وشوف بنفسك ـ  ونشرت مجلة الكشكول مقالا عن النحاس باشا عنوانه "الرئيس الجليل يطرطر في شارع الأهرام"... وفي أول الأمر أقبل الناس على هذا النوع من الردح السياسي، ثم إنحسر هذا الأسلوب بفضل إنتشار التعليم، واصبح القارئ المصري يضيق بالشتائم، ويكره السباب وظهر أسلوب النقد المؤدب العف يتزعمه عبد القادر حمزة في جريدة البلاغ، ثم أسلوب النقد الساخر يتزعمه محمد التابعي في مجلة روز اليوسف،... وكانت جريدة الكشكول أول جريدة تطاولت على الزعيم سعد زغلول، ووجهت إليه أشنع التهم وانهالت عليه بالشتائم والسباب، وهزأت به وسخرت منه، وقالت عنه أنه سيسلم البضاعة للإنجليز، ونشرت الأكاذيب عن زعماء الوفد فلم تترك واحدا منهم إلا ومزقته شر ممزق. وحاول الوفديين أن يخرسوا المجلة الوقحة ففشلت كل محاولاتهم، وأصدر أحمد حافظ عوض مجلة فكاهية إسمها خيال الظل ينافس بها مجلة الكشكول، ولكن مجلة الكشكول بخفة دمها هزمت مجلة خيال الظل التي تؤيدها أغلبية الشعب".

 

ثم يحكي مصطفى أمين كيف كانت الصحافة تطلق الألقاب على المشتغلين بالسياسة فيطلق التابعي لقب وزير المصارين على الوزير إبراهيم فهمي كريم باشا، وعلى محمد شفيق باشا لقب وزير الأذية، ويطلق مصطفى أمين على أحمد علي باشا وزير العدل لقب وزير الفاصوليا، ويطلق على الأعضاء الثمانية المنشقين عن الوفد أيام النحاس لقب حزب السبعة ونص، ثم يؤكد أنه برغم كل ذلك فقد كان الكتاب أقل قسوة من رجال السياسة أنفسهم، فقد كان سعد زغلول يسمي حزب الأحرار الدستوريين "برادع الإنجليز"، ويقول محمد محمود باشا رئيس حزب الأحرار الدستوريين في خطاب علني عن وزارة إسماعيل صدقي باشا "هذه حكومة لا ترضاها أمة من البغايا".

 

كان صديقي قد وصل إلى هذا القدر من فصل مصطفى أمين عندما إتصل بي وهو يهتف بي قائلا " يا أخي وإحنا إيه اللي يرجعنا بس لأيام زمان.. مش المفروض نبص لقدام". 

 

لم أستجب لتوسلات صديقي بألا نفتح سيرة الزمن الجميل ثانية، وواصلت الإنقضاض عليه قائلا "مش إنت اللي كنت عايز ترجع لأيام الزمن الجميل.. إستنى بقى لما أبعت لك على الفاكس كام صفحة من كتاب "عباس العقاد في تاريخ الصحافة المصرية" الذي كتبه الدكتور راسم الجمال وصدر عن الدار المصرية اللبنانية، وتتبع فيه الدكتور راسم بأسلوب شيق تاريخ المعارك الصحفية التي خاضها العقاد أثناء عمله في الصحافة، وكيف تجاوزت معاركه كل الحدود مع الدكتور محمد حسين هيكل الذي لم يسكت على العقاد، بل تبادلا بحق بعضهما البعض ألفاظا لو كتبها أجعص كتاب مصر الآن بحق أعتى الفاسدين فاسدا لذهب إلى السجن قبل عودة مرتجع الجرنان إلى شركة التوزيع، لو مستعجل ممكن أقرا لك شوية منها، شوف ياسيدي".

 

قاطعني صديقي قائلا "خلاص ياسيدي وصلت وجهة نظرك.. أنا غلطان.. مش عايز أرجع للزمن الجميل اللي عمره ماكان جميل.. ده طلع زمن أبيح ومش متربي"، قلت له "ماهي دي مشكلتك.. أو مشكلتنا كلنا بمعنى أصح.. في الأول حكمت إنه زمن جميل من غير ماتعرفه أو تقرا عنه أو تدرسه.. من مجرد إنطباعات حكمت إنه جميل.. ومن مجرد واقعة أو إتنين حكمت أنه قبيح.. ولو أنصفت لحكمت إنه كان زمن زي أي زمن.. فيه الجميل وفيه القبيح.. لكن لايمكن أبدا أن نطلق عليه وصف الجميل وخلاص.. لإن الزمن الجميل هو الذي لم يأت بعد.. بل هو الزمن الذي علينا أن نصنعه زي ماقال عمنا بريخت". 

 

تركت صديقي غارقا في حيرته وتشوشه، متمنيا له دوام الحيرة والإندهاش وداعيا له بإنعدام اليقين، ولاتستغرب دعوتي وتتهمها بالقسوة، فما جابنا نحن وبلادنا "ورا" سوى اليقين الذي يدعي كل منا إمتلاكه، مع أن الله عز وجل اعتبر اليقين مرادفا للموت، "واعبد ربك حتى يأتيك اليقين"، وهو معنى إلتقطه ببراعة عمنا نجيب محفوظ عندما كتب ذات يوم قائلا "الحقيقة بحث وليست وصولا"، ولكن "أفلا يتفكرون.. أفلا يعقلون.. أفلا يتدبرون".

 

لا نريد أن ندخل الآن في جدل ينسينا مابدأنا في الحديث عنه بالأمس، فقد وصلني والله السؤال الذي ظل معلقا على طرف لسانك من الأمس "ألا تدرك أن إستشهادك بكلام مصطفى أمين وراسم الجمال عن العقاد وزمنه سلاح ذو حدين يمكن أن يستخدمه العضاضون في بعض الصحف القومية الذين لايكفون عن إطلاق البذاءات على كل من يعارض أولياء نعمتهم؟"، بالطبع سؤالك مشروع وإن لم يكن منطقيا، فهؤلاء لا يحتاجون إلى إستشهادات تاريخية لكي ينتهزوا كل فرصة سانحة في أن يثبتوا لمن عينهم في مواقع لا يستحقونها أنهم "قايمين بالواجب وزيادة"، ومع ذلك إجابتي على سؤالك وعلى كل الأسئلة التي يمكن أن تطرحها في كل المجالات هي إجابة من ستة حروف: الحرية، الحرية هي الطريق الوحيد لنا، مهما حملت لنا معها من أمراض وأعراض جانبية، الحرية لاتحتاج إلى وصاية أخلاقية وسياسية بدعوى محاربة الإنفلات والحفاظ على القيم، فالناس ليسوا بحاجة إلى وصاية من أحد، لأنهم ليسوا بلهاء حتى وإن بدوا كذلك أحيانا، ولكي لا أكون قد إقتطعت فقط من كتاب مصطفى أمين مايكرهك في صحافة أيام زمان، سأحيلك إليه وهو يحكي بالتفصيل غير الممل كيف أقبل الناس في البداية على شراء الصحافة البذيئة التي تخوض في الأعراض وتفرش الملايات، ثم بعد ذلك إنفضوا عنها مقبلين على الصحافة المحترمة والمستقلة والجريئة إلى حد التهور أحيانا، الناس هم الذين جعلوا لصحافة الخوض في الأعراض سعرا، وهم الذين جعلوها تفلس وتقفل أبوابها وترحل غير مأسوف عليها.

 

كل هذا يقودنا إلى سؤال يمكن أن تعتبره بمثابة خيط حريري يلضم كل حبات الكلام التي تناثرت ما بيننا الآن: قل لي بالله عليك لماذا إذن لا نتذكر الآن لعباس العقاد وغيره من عظماء مصر كل شطحاتهم التي تجاوزت حدود المقبول والمعقول، هل لأننا أناس إنتقائيون مزاجيون ننظر بعين الرضا التي هي عن كل عيب كليلة، أم لأننا نضع هذه الأخطاء في سياقها بوصفها صدرت من أناس كانوا كتابا أحرارا لا يكتبون بتوجيهات ولا يعملون في خدمة أجهزة ولا يكتبون إلا ماتمليه عليهم ضمائرهم حتى لو "مَلِّتهم غلط" أحيانا، ولا يمارسون البذاءة الصحفية الحقيقية التي تجعل البعض يعتبر الكوارث إنجازات والتزوير نزاهة والكذب شفافية والوكسة ريادة والموات إستقرارا.

 

لامؤاخذة يعني، حتى لو لم يبدو عليك أنك نبيه، لا أظن الإجابة على سؤال كهذا ستحيرك.  

 

(من كتاب (فتح بطن التاريخ) ـ يصدر قريبا عن دار الشروق)