كوبيا «كتابة أولى لقصة» - محمد المخزنجي - بوابة الشروق
الجمعة 3 مايو 2024 10:47 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

كوبيا «كتابة أولى لقصة»

نشر فى : الخميس 31 مايو 2012 - 8:35 ص | آخر تحديث : الخميس 31 مايو 2012 - 8:35 ص

هو أمر بالغ الغرابة. أن يندفع إنسان على وشك نيل حريته بعد ثلاث سنوات من السجن إلى ارتكاب أفعال تُعيق تحقُّق هذا الأمل القريب. بل شديد القرب. فقد كان موعد الإفراج عنه سيحل بعد ستة أيام فقط. وهو كما كل من أوقعوا أنفسهم فى هذا الفخ يُعتبر من المساجين المساكين. ليسوا قتلة ولا تجار مخدرات ولا مرتكبى سرقات بالإكراه. بل مجرد جانحين بالصدفة وتحت ضغوط حياة بائسة شديدة البؤس. فقراء ومحدودى الوعى ينزلقون فى مشاجرات وجُنح تودى بهم إلى السجون. لكن اندفاعاتهم المفاجئة الغريبة هذه قبيل الإفراج عنهم بأيام وأحيانا بساعات تطيل فترات حبسهم. تحوِّل حلقة السجن المحدودة إلى حلقات تتواصل ويمكن أن تمتد. تصير سلاسل تكبلهم وتلتف أحيانا حول رقابهم.

 

لأسباب واهية جدا يندفع الواحد من هؤلاء وهو على وشك نيل حريته لارتكاب ما يعطل حصوله على هذه الحرية. أحيانا لأسابيع. أحيانا لشهور. وأحيانا لسنين. فثمة شوق ما يفور ويغلى فى صدورهم كلما اقترب موعد الإفراج ولا يستطيعون الصبر عليه. رغبة عارمة فى رؤية الشوارع والناس والبيوت خارج السجن دون انتظار. ولا يجدون مخرجا لتلبية هذا الشوق الحارق إلا بإيذاء أجسادهم إيذاء ملموسا يتطلب تدخلا مُتخصصا يحتم خروجهم للعلاج فى مستشفى غير مستشفى السجن. ومن ثقوب ونوافذ سيارات الترحيلات الخانقة التى تنقلهم مكبلين وتحت الحراسة يبصرون الشوارع والناس والبيوت. وتكون جائزتهم الكبرى فى مخاطراتهم هذه بعد جلوسهم أحرارا بين يدى طبيب، أن تلمسهم أصابع ممرضة شابة فى ثياب بيضاء ناصعة محبوكة، حتى لو كانت تسكب صبغة اليود الكاوية على جروحهم.

 

مخاطرات عجيبة يندفعون إليها كأن يحقن واحدهم طرفا من أطرافه بالكيروسين فيتورم ويسوَّد وينذر بحدوث غرغرينة تحتم البتر إن تأخر علاجه. أو يتجرع زجاجة مبيد حشرات تستلزم غسيلا سريعا للمعدة ومضادات سموم ومتابعة طبية دقيقة. أو يوقع كسورا بعظامه بأن يصعد إلى طوابق العنابر العلوية ويقفز من حالق ليرتطم ببلاط الأرضية الصلب. أو يضرب نفسه بسكين يجرح عميقا دون أن يقتل. أو يجازف بوضع إحدى عينيه فى مخاطرة تهددها بالعمى إن لم يجر إنقاذها بسرعة، وهذا ما وقع عليه اختياره.

 

حيلة بسيطة لكنها غريبة وخطيرة ومتوارثة من تاريخ هذه المخاطرات لنزلاء السجون من هذه النوع فى هذه الملابسات إزاء هذا الشوق. وهى زهيدة ومتوافرة الأداة أيضا، ومحدودة أو منعدمة الألم تقريبا. فكل ما تتطلبه أن يحصل الواحد منهم على قطعة من «سن» قلم كوبيا. هذا القلم الذى انقرض منذ عقود فى حياة التدوين والمُحرَّرات لكن بقاياه أو كعوبه أو جُذاماته ظلت كامنة ومتداولة بين المساجين وعبر الزنزانات وفى كل السجون لهذه الغاية. قطعة من «سن» هذا القلم بمبلغ زهيد أو بعدة أرغفة، تكفى للمهمة. يسحق المسجون هذه القطعة الصغيرة ويضع المسحوق فى عينه إن استطاع. أو يتطوع مسجون آخر بوضعه له. وما هى إلا ثوان حتى يتبلل مسحوق الكوبيا برقرقة الدمع وينتشر محيطا بالعين كلها. تذوب مكونات الكوبيا من صبغة الأنيلين وطينة الكاولين ورماد الجرافيت وتغمر كرة العين بمزيجها الأزرق الداكن الكثيف. ثوان، وتصير العين مثل حبة بطاطس كُحلية بلمعة معدنية خرساء وتنطمس فيها الرؤية. ثم تبدأ المرحلة الثانية من المهمة، وتكون صرخة المسجون المصاب إيذانا ببدئها: «عينى. آه ياعينى. عيناااااااى.عينى راحت».

 

«عينه هاتروح. عينه هاتروح» تكون تلك كلمة السر من زملاء الزنزانة لنزلاء بقية الزنازين. يصرخون بها عبر النوافذ الصغيرة المصفحة بالقضبان بأعلى الأبواب ومن عيون المراقبة. وتمتد شرارة الضوضاء وتنتشر لتشعل العنبر كله. صراخ ونداءات لشاويش العنبر والإدارة مع شتائم للحكومة ودق متواصل على الأبواب. ويأتى شاويش العنبر مهرولا ويُبلغ الضابط المناوب ويصعد الخبر إلى المأمور. فيكون محضر ويكون تصريح خروج إلى المستشفى، وتتحقق الأمنية. يتطلع المسجون إلى الدنيا خارج السجن بعينه الوحيدة التى لم تحجب نورها الكوبيا. ثم يحصل على الجائزة الكبرى بعد مثوله بين يدى طبيب يأمر ممرضة شابة بإجراء غسيل للعين بمحلول معين، فتنجلى للعينين المحرومتين صورة الجائزة الحية.

 

يرى نفسه بين يدى أنثى تعتنى به أخيرا. قبس من الحنايا والحنان هو أقوى وأبهى دلائل حرية الرجال المسجونين أو الذين ذاقوا مرارة السجن. ولايهم بعد ذلك ما سيحدث عندما يعيدونه إلى سجنه. غالبا فى اليوم نفسه. أو اليوم التالى على الأكثر. يتم استقباله بسيل من شتائم وضربات الضباط والشاويشية. ثم يُلقى فى زنزانة انفرادية بمساحة قبر ليقضى فيها عقوبة «التأديب»، ويتعطل خروجه للحرية الذى كان وشيكا. لكن هذا السياق لم يمض معه فى مُعتاد المسار.

 

قرب الغروب والزنازين مغلقة تصاعد الصراخ من زنزانته فى الطابق الثالث. وسرعان مالحقت به صرخات زملائه فى الزنزانة وتجاوبت معها صرخات مساجين الزنزانات المجاورة. اشتعل العنبر بطوابقه الخمسة وزنزاناته المائة ونزلائه الخمسمائة بالصراخ والطرق على الأبواب الحديدية بأوانى الجراية الألومنيوم. ثم خفتت الضجة فيما كانت تُسمع صلصلة فتح بوابة العنبر الحديدية ودوت صيحة شاويش العنبر تعلن عن قدوم الضابط المناوب: «انتبااااه».

 

همدت الصرخات والطرق على الأبواب فطفت أصوات دخول فرقة الحرس والضابط المناوب وصعودهم إليه. وران صمت الترقب فى انتظار تتابع أصوات الأحداث المعتادة فى مثل هذه الحالة: إخراجه من الزنزانة محاطا بالحرس ثم الهبوط على الدرج الحديدى فالخروج من العنبر وانصفاق البوابة. بعدها ينطلق ثغاء المساجين من وراء الأبواب. يصفون ما يتخيلونه من تتابع فصول الحدث قياسا على تجارب سابقة: ضرب ولكز وشتم المصاب حتى دخوله غرفة الصول لكتابة المحضر ثم الانتظار مقرفصا فى طرقة الإدارة حتى تجهز سيارة الترحيل التى ستنقله إلى المستشفى. ثم المستشفى ونعيمها. لكنه لم يبلغ هذا النعيم.

 

جرجروه من زنزانته فى الطابق الثالث إلى الربع الأول من الطابق الثانى حيث زنزانات الحبس الانفرادى. ودفعوا به فى جوف إحدى هذه الزنزانات وهو يولول حتى خبت ولولته مع انفجار الصوت الخشن الجهير «بروح امه لا هايروح مستشفى ولا ياخد علاج وتعمى عينه وعين أهله. هوه اللى عمل كده فى نفسه. وها يتحاكم وياخد أقلها شهر فى الانفرادى علشان يتربى ويتربى اللى يفكر يعمل زيه». كان ذلك صوت الضابط المناوب الذى واصل الدوى بين جنبات العنبر الساكت: «وأى ابن كلب يعمل هرج فى العمبر هايتأدب أدب ينسِّيه أهله». وكان أن استدعى فرقة عساكر إضافية لمراقبة الزنزانات. ولم تعد تُسمع غير همهمات المساجين المبهوتين داخل زنزاناتهم وخطوات أحذية العساكر الثقيلة تروح وتجيء أمام الأبواب السوداء. ثم طفا الصوت الملتاث، صوته..

 

«طيب أهه يا حضرة الظابط. وادى عينى التانية. آدى عينى التانية». ولم يكن هناك من يدرك معنى ما صدر عنه من هذيان. لكن صراخه بعد ذلك أسفر عما حدث «آه ياعنيا. آه ياعنيا الاتنين. عميت خلاص. عميت خلاص يا حكومة». ولم يصدق أحد هول ما حدث. ما فعله بنفسه ليرد على حرمانه مما كان يحلم به. فقد كان لديه بقية من مسحوق الكوبيا ذرَّها فى عينه الثانية السليمة. عَمى. ولم يكتشف أحد عماه إلا فى الصباح التالى مع «التتميم» على الزنزانات. وكانت عيناه الاثنتان قد تحولتا فى محجريه إلى حبتى بطاطس كُحليتين منطفئتين. وتقرر نقله إلى المستشفى.

 

لم ير الشوارع والناس والبيوت وهو فى طريقه داخل سيارة السجن التى بدت له ظلاما فى ظلام. كأن لا ثقوب فيها ولا نوافذ ولا حتى باب ينفتح للنور عند هبوطه منها. ومن قسم الاستقبال صعدوا به إلى قسم العيون. لكنه لم ير الطبيب الذى فحص عينيه متمتما «اتأخرت. اتأخرت كتير». ولم ير الممرضة التى أمرها الطبيب بمحاولة غسل عينيه المطموستين.

 

ومع صوت انسكاب الغسول من عينيه إلى الحوض الطبى الصغير تحت ذقنه راح يصغى لصوتها وهى تصبِّره وتواسيه وتؤمِّله. يحس بلمس أناملها ويرسم لها صورة من الخيال فى ذهنه، ويكبح رغبة حارقة للبكاء تفجرها الصورة التى يرسمها. فهو لا يراها، ولا يتعرَّف على النور من حولها.

 

نهاية مختلفة للقصة

 

وكان يحس بلمس أناملها ويرسم لها صورة من الخيال فى ذهنه، فيشعر بانشراح غريب. وكأنه لم يعد مسجونا وكأن السجن لا ينتظره. ويلمع فى ظلام عينيه بصيص ضوء مشوب بدخان أزرق قاتم، يخف الدخان بصعوبة وبطء، لكنه يخف. فيراها رويدا رويدا فيما يزداد من حولها تألق النور.

محمد المخزنجي كاتب مصري كبير ، وطبيب أمراض نفسية ، ولد في المنصورة ، وعمل في مجلة العربي الكويتية ثم تفرغ ككاتب حر ، يُعتبر من أبرز كتاب القصة في العالم العربي ، وله إسهامات متفردة في الكتابة العلمية وأدب الرحلات والمقال الصحفي .