«البريكستنج».. حالة بريطانية - عبد الله السناوي - بوابة الشروق
الجمعة 19 أبريل 2024 10:22 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

«البريكستنج».. حالة بريطانية

نشر فى : الأحد 31 مارس 2019 - 10:35 م | آخر تحديث : الأحد 31 مارس 2019 - 10:35 م

أزمة البريكست، التى تهز المجتمع البريطانى فى عمق نظرته إلى نفسه وعلاقته بقارته الأوروبية وتعريف هويته، يصعب تلخيصها فى قدر الاضطراب السياسى داخل البرلمان، ولا فى الصراعات الجارية على خلافة رئيسة الحكومة «تريزا ماى»، ولا فى التسويات الممكنة عند حافة اليأس المخيم بضغط من المؤسسات المالية والمصالح الكبرى لتجاوز ما ترتب على مشروع الخروج من الاتحاد الأوروبى من معضلات قانونية وسياسية ومالية وأمنية.
الأزمة فى عمقها أقرب إلى مرآة لتناقضات داخلية مستعصية لا سبيل لتجاوزها فى أى مدى منظور، سواء تم الخروج بتسوية أو أخرى، أو تأجل الحسم لوقت آخر.
أخطر التناقضات ذلك الانقسام الاجتماعى والجيلى بين عقليتين ونظرتين للدور البريطانى فى عالمه وحقائقه الجديدة.
الأولى: يشدها إرث الماضى الإمبراطورى وما امتلكته بريطانيا من نفوذ اعتمادا على قوتها العسكرية وحجم الثروات التى حازتها من مستعمراتها السابقة وراء البحار وما تمتع به اقتصادها من قوة ومنعة مرموزا إليه بـ«الجنيه الإسترلينى»، وما توفر لمواطنيها من فرص عمل ومستويات دخول دون مزاحمة من أوروبيين آخرين ومهاجرين مقيمين من إفريقيا وآسيا والشرق الأوسط.
أغلبية الأجيال القديمة تتبنى هذا التوجه، خاصة خارج العاصمة لندن التى تتمتع بنسبة سكان عالية من أصول مهاجرة، حيث تنظر إلى أزمات سوق العمل وفرص التشغيل كأثمان اجتماعية دفعت من جراء الانضمام إلى الاتحاد الأوروبى وتراجع الهوية البريطانية أمام سلطة بروكسل.
هؤلاء يمثلون الكتلة الرئيسية للذين صوتوا لصالح البريكست قبل ما يقارب الثلاث سنوات وحازوا الأغلبية بنسبة بسيطة.
كان لافتا برمزيته ما حدث قبل أسبوعين فى قاعة «رويال ألبرت هول» الشهيرة بالعاصمة البريطانية، التى اتسعت لنحو عشرة آلاف مواطن بريطانى أغلبيتهم الساحقة تجاوزوا منذ زمن طويل سن الشباب، جاءوا مدفوعين بـ«النوستالجيا» لحفل يستعيد أشهر الأعمال الغنائية فى الأفلام الموسيقية أثرت بعمق فى وجدانهم.
لاحظ المايسترو «ديفيد فيرمان» فتورا من جمهوره على دعوته أن يصاحبوا المؤدين بتصفيق إيقاعى عند مواضع معينة أخذ يلقنه قبل بدء الغناء.
قال ساخرا: «هل لا بد أن أحدثكم عن البريكست حتى تكونوا أكثر حماسا»، وكان التصفيق الحاد تعبيرا عن انحيازات جيلية وثقافية تتجاوز ما هو سياسى وحزبى.
والثانية: تشدها حقائق عصرها وثوراته المعلوماتية ووسائل الاتصال الحديثة إلى قارتها الأوروبية، وما تضمنه من حريات فى التنقل والإقامة والعمل والاستثمار داخل بلدانها، وما تضفيه على لندن من مكانة خاصة كمركز مالى عالمى.
بين النظرتين المتناقضتين تبدت انقسامات غير معهودة داخل الحزبين الكبيرين، «المحافظون» و«العمال»، اللذين يتداولان تقليديا الحكم والمعارضة، وداخل الحكومة نفسها، وعجز البرلمان لفترات طالت على حسم طريق بعينه للخروج من الأزمة، وساد الاضطراب السياسى أعرق ديمقراطية فى العالم وأكثرها تمتعا بالاستقرار المؤسسى.
بفضل التقاليد الديمقراطية البريطانية لم تفلت أزمة البريكست بكل حمولات تناقضاتها من عقالها.
وقد كانت مسيرة المليون فى قلب لندن، التى شدت أنظار العالم، وتسنى لى متابعتها عن قرب كـ«صحافى مهتم» تعبيرا عن قوة الرفض للبريكست، رفعت الأعلام الأوروبية وارتفعت الأصوات تطالب باستفتاء ثان رهانا على استطلاعات الرأى العام التى تؤكد تغيرا كبيرا لصالح البقاء ضمن الاتحاد الأوروبى.
يصعب تمرير سيناريو الاستفتاء الثانى فى التعقيدات السياسية الحالية بذريعة أنه إذا ما تغير المزاج العام مرة أخرى لسبب أو آخر فإن مؤيدى الخروج سوف يطالبون باستفتاء ثالث، وهو ما لا يحتمله البريطانيون ولا مؤسساتهم النيابية والتنفيذية.
أحد السيناريوهات المحتملة إجراء انتخابات برلمانية جديدة بعد الاستقالة المنتظرة لرئيسة الحكومة «ماى»، وهى سيدة قوية لكن الأزمة بتناقضاتها فوق طاقتها السياسية.
«ماى» عرضت استقالتها مقابل تمرير اتفاق البريكست الذى وقعته مع الاتحاد الأوروبى فى البرلمان كورقة أخيرة تنهى بها حياتها السياسية بشىء من الكبرياء، مدركة أن هناك من يتطلع داخل حزبها لوراثتها، وداخل المعارضة للتخلص منها، لكن رهانها لم يفلح ورفض البرلمان خطتها لمرة ثالثة.
أى تغيير محتمل فى بنية البرلمان وتشكيل الحكومة لا يغير كثيرا فى الأزمة وتناقضاتها العميقة.
بتلخيص ما نحن أمام إدارة أزمة لا حل أزمة.
قد تنجح إدارة الأزمة بصورة أو أخرى، أو أن تتعثر وترتبك خطاها، فى إيجاد حل ما غير أن ذلك لا يعنى إغلاق صفحتها، فسوف تتمدد إلى المستقبل وتطرح تساؤلاتها وتناقضاتها عليه.
بين أكثر المتناقضات إثارة للالتفات أن أحدا من معارضى «ماى» لم يقدم خطة بديلة لاتفاقها مع الاتحاد الأوروبى، رغم أوجه الانتقاد العديدة التى نالتها.
كان «بوريس جونسون» وزير الخارجية المستقيل وأقوى معارضيها داخل حزبها، واضحا فى انحيازاته للبريكست داعيا إلى أن «الخروج بلا اتفاق أفضل من اتفاق سيئ» وهو خيار عشوائى ومكلف رفضه البرلمان، كما هو واضح فى طموحاته إلى حد إبداء استعداده لدعم هذا الاتفاق السيئ مقابل استقالة «ماى».
قبل أيام معدودة من هذا التحول المثير قال فى «الديلى تليجراف»: «حان الوقت لرئيسة الوزراء أن تستلهم روح موسى وأن تقول للفرعون فى بروكسل دع شعبى وشأنه».. «نحن ما زلنا نستطيع أن نغادر دون إهانة» غير أنه الآن مستعد أن يتقبل هذه الإهانة مقابل خروج «ماى».
لا أحد بوسعه أن يتكهن واثقا من مستقبل الأزمة وتجلياتها، وما قد تفضى إليه تداعياتها على المنظومة الأوروبية، وإذا ما كانت سوف تصمد أمام التحديات التى تنتظرها.
بصورة أو أخرى ترتبط الأزمة بما يحدث فى القارة كلها من تحولات تنذر بصعود جديد لليمين المتطرف فى ألمانيا وفرنسا ودول أوروبية أخرى وذهاب إيطاليا إلى استفتاء على وجودها فى الاتحاد الأوروبى.
انهيار الاتحاد الأوروبى طلب ملح للإدارة الأمريكية الحالية، التى لا يخفى رئيسها «دونالد ترامب» دعمه للخروج البريطانى ملوحا باتفاق تجارى لا محدود بين واشنطن ولندن كنوع من الإغواء.
ماذا قد يحدث غدا وبعد غد؟
هذا سؤال ضاغط والإجابة عليه تكاد تكون شبه مستحيلة بالنظر إلى التعقيدات التى تحيطه من كل جانب والارتباك الذى يرافقه فى كل خطوة.
الحالة البريطانية يمثلها على نحو ساخر فعل مبتدع من خارج القواميس ينتسب إلى لغة الشارع هو «Brexiting»، كأن يتحدث شخص ما عن رغبته فى مغادرة مكان ما، حفل أو تجمع أو مقهى، لكنه يظل فى مكانه لفترات طويلة حتى بعد أن ينصرف الآخرون.
هذا ما قد يحدث مستقبلا عندما تجد الأزمة حلا ما قانونيا وسياسيا دون أن تغادر تناقضاتها المسرح الاجتماعى البريطانى مؤثرة فيما حولها وواصلة إلينا هنا.