فذلكة التصحير - محمد المخزنجي - بوابة الشروق
الإثنين 6 مايو 2024 5:26 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

فذلكة التصحير

نشر فى : الخميس 30 ديسمبر 2010 - 9:39 ص | آخر تحديث : الخميس 30 ديسمبر 2010 - 9:39 ص
الأستاذة لميس الحديدى فى حلقة حديثة من برنامجها «من قلب مصر» استضافت المهندس أحمد المغربى لمناقشة شكاوى المواطنين المشتركين فى مشروع «ابنى بيتك»، سواء الذين بنوا ووجدوا أنفسهم يعيشون فى جحور بلا مرافق، أو الذين تم استنزافهم ولم يستطيعوا إكمال البناء، وبنعومة وانشراح بالغين، برغم مجادلة مقدمة البرنامج له، فنَّد الوزير خطأ استعجال أصحاب هذه الشكاوى للأمور، وأكد أن المشروع يمضى فى مساره بنجاح منقطع النظير وينتظر الكمال فى القريب العاجل، ثم عرَّج على الشق الفلسفى فى سياسة «التعمير» الذى هو وزيره، ولم ينس «السياحة» التى كان وزيرها، وظل يسوق الأرقام والدوال وهو فى حالة من اللمعان والابتهاج الدائمين بما تحقق من فرص عمل وما يُنتظَر تحقيقه عبر تحفيز سياسة التنمية المعمارية والسياحية، ولم يخطر بباله الرائق أبدا، ولو كلمة واحدة عن مفهوم التنمية المستدامة، وهو فى هذا الموقف بين احتمالين لا ثالث لهما، إما أنه لا يعرف أصلا مفهوم التنمية المستدامة، أو أنه لا يعبأ به، وكلاهما موقفان فى غاية الخطورة على الحياة والأحياء فى بلادنا.


فالتنمية المعمارية والسياحية لا يمكن أن تعيش بذاتها دون مقومات تضمن استمرارها واستدامة انتعاشها، وأهم هذه المقومات بداهة هى كفاية وكفاءة إطعام هؤلاء الذين سيعملون فى السياحة والذين سيأتون إليها، والشىء نفسه بالنسبة لمن سيقيمون فى مشاريع الإسكان، سواء من محدودى الدخل أو الميسورين أو حتى الأثرياء القدامى والجدد، والطعام يقوم أول ما يقوم على الزراعة، وأداته الرئيسية هى الأرض الزراعية القديمة إضافة للأرض الجديدة التى يمكن استثمارها فى الزراعة، وهذه وتلك يبدو ان وزير الإسكان والتعمير يجافيها، بل لا يراها أصلا بمنظوره الذى هو منظور المعرفة المنقوصة التى هى أخطر من الجهل.


لست فى حاجة إلى أرقام أتلامع بها لأدلِّل أننا نعانى عواقب فجوة غذائية مخيفة، وأن هذه الفجوة لم تعد قاصرة على الاكتفاء بسحق فقراء المصريين فى جوفها الموحش، بل تمددت سطوتها لتبتلع أمان وطمأنينة حتى الميسورين من الناس، وليس أدل على ذلك من التهام بند الغذاء لمعظم ميزانية الأسر من الطبقة المتوسطة وفوق المتوسطة، وتزايد أسعار المواد الغذائية المرعب الذى نحسُّه بشكل يكاد يكون يوميا إن لم يكن على مدار الساعة، ومرجع هذا الالتهاب فى أسعار الغذاء ليس جشع التجار ونهم المستوردين فقط، فهذه نتيجة وليست سببا، لأن السبب الحقيقى والخطأ الذى يرقى إلى مرتبة الخطيئة، بل الخطيئة الأولى، هو أننا لا نُنتج غذاءنا، وتحديدا لا نكتفى فيما نأكله مما ننتجه. وهنا قد يقول قائل: وما شأن وزير الإسكان بذلك؟


طبعا ليس مطلوبا من وزير الإسكان أن يكون وزير زراعة واستصلاح أراضٍ، لكن يتوجب عليه إن لم يكن فاهما لحقيقة التنمية المستدامة، وأنه ما من استثمار سياحى أو عمرانى إلا وله مقومات داعمة على رأسها الاستثمار الزراعى، فعلى الأقل ينبغى أن يكف عن لعب دور فيلسوف التدمير للأرض الزراعية والأرض التى تصلح لأن تكون زراعية، وهو دور اكتشفت أن الوزير احمد المغربى يؤديه فى طليعة «الفكر الجديد» منذ فترة لم يكن بريقه لامعا فيها كما الآن، ولم تكن بهجته بما يعرف وما يفعل كما صارت عليه، وواضح أن الوزير مقتنع فعلا بما بقوله وينفذه، بل يعتنقه ويدعو إليه، وهاكم دليل:

فى شهر أغسطس 2007 ألقى المهندس أحمد المغربى محاضرة أمام غرفة التجارة الأمريكية بالقاهرة قال فيها: «فى عام 2004 أدركنا أن هناك مشكلة كبيرة فى تدهور بيئتنا العمرانية، وأحد أسباب ذلك قانون تجريم البناء على الأرض الزراعية، وهو القانون الذى بدأ تقديمه وكأنه شىء نشترك فيه جميعا، وهو عدم السماح لمزيد من التنمية العمرانية على أرضنا الخضراء أى أرضنا الزراعية. واليوم أقول لكم إننا إذا قمنا بتحليل ليس الأثر الأولى للقانون فحسب ولكن الأثر اللاحق له، فسوف نجد أن القانون لم يكن جيدا بالقدر الذى بدا عليه فى أول الأمر»!

وعلى هذا الكلام العجيب للوزير تُعلِّق الدكتورة جليلة القاضى فى كتابها عظيم الأهمية «التحضُّر العشوائى» قائلة: «يرى الوزير إذن، على عكس كل المخططين وضد كل منطق أن سبب تدهور بيئتنا العمرانية هو تجريم البناء على الأراضى الزراعية. معنى ذلك أن تطور العشوائيات على الأرض الزراعية شىء مطلوب، بل ويجب تشجيعه ويجب السماح بتعمير «أرضنا الخضراء»! ويناقض هذا المنطق كل التوجهات السابقة التى تبنتها المخططات القومية والحضرية والتى تهدف إلى غزو الصحراء والحفاظ على ما تبقى من «هبة النيل» لتوريثها للأجيال القادمة لأنها مورد متجدد بما تراكم عليها من طمى منذ آلاف السنين».

قد يسارع أحد مشايعى لجنة سياسات «الفكر الجديد» بالتعليق على هذا التعليق قائلا: إن المقصود من كلام الوزير ليس السماح بتمدد العشوائيات على حساب الرقعة الزراعية، ولكن تحويل القانون إلى حالة مرنة تسمح بالبناء ضمن مخطط عمرانى غير عشوائى! وهنا أضيف أن كل إعمار لا يحافظ على ما تبقى من الرقعة الخضراء ولا يربط بين البناء ومقومات التنمية المستدامة التى قلبها وتاج رأسها الزراعة، أى لا يوازن بين استيعاب سكان ومرتادى هذا الإعمار وحاجاتهم الغذائية بالدرجة الأولى، هو معمار عشوائى، سواء كان على أرض الدلتا والوادى أو على أجنابها وأطرافها فى مدينتى أو المدن الجديدة أو الساحل الشمالى أو على سواحل البحر الأحمر. فأن يتفاخر الوزير المغربى فى لقائه مع الأستاذة لميس الحديدى بأن التنمية السياحية وافرت 2 مليون فرصة عمل ليس شيئا يدعو للطمأنينة، لأنه علاج تسكينى لبعضٍ من مشكلة البطالة هائلة الألم!

فكما كل حبوب مُسكِّنة، لها وقت محدود وعابر سرعان ما ينقضى، ليكشف عما كانت تخفيه الحبوب من استمرار وأصول مسببات الألم، كذلك الحلول التسكينية أو التلفيقية التى لا تنظر إلى تدابير حياتنا ببصيرة التنمية المستدامة، فأزمتنا المتفاقمة فى إنتاج ما نأكل وما يأكل ملايين سُيَّاحنا والشغالة فى المستعمرات السياحية إضافة للظهير البشرى لكتلتنا السكانية الضخمة، لهى أشبه بقنبلة شريرة من ذلك النوع الذى يبيد السكان ويُبقى على الأبنية وكأنها شواهد القبور، شواهد فخمة وضخمة آى نعم، لكنها تظل محض شواهد على الموت والموات، وليست هجمات القروش الدموية فى شرم الشيخ ولا غزوات الإرهاب المجنون للذين بقروا بطون السائحات فى مذبحة الأقصر، إلا تعبيرا غير مباشر، لكنه شديد الارتباط بقضية عدم كفاية الأمة فى إنتاج ما تأكله، ففقر أى أمة يبدأ بداهة من إفقار زراعتها، ومن هذا الفقر تتوالد الظواهر الجانحة والإجرامية سواء كانت صيدا جائرا فى البحر أو عمليات إرهابية على البر.

ما يحدث من عمى او تعامى «الفكر الجديد» عن أولوية التنمية الزراعية الحقيقية وإنتاج الغذاء والاكتفاء أو شبه الاكتفاء منه وطنيا ــ هو شىء غريب بالفعل، بل مريب، ويكاد يشبه فى غفلته شأن أحمق فى سفينة تعبر النهر وهو يخرق قاعها ليغترف من الماء الدانى تحت يديه ليروى عطشه العابر. فتركيز هذا «الفكر الجديد» على تنمية الاستثمارات سريعة العائد الهائل على أصحابها الكبار، سواء فى المعمار أو السياحة المتغولَين على أراضى الدولة، أو الصناعات الملوثة للبيئة وكثيفة الاستهلاك للطاقة والمدعومة بغير حق، كالحديد والأسمنت والأسمدة، وفى غيبة تنمية زراعية حقيقية وتفعيل مشروع قومى للتركيز على إنتاج الغذاء والاكتفاء الذاتى منه، نكون متجهين بالفعل وبفذلكة هذا «الفكر الجديد» إلى غرق محقق، وثمة أرقام مفزعة غير أرقام وزير الإسكان اللامعة الفرحة توضح تسارع اتجاهنا نحو كارثة قومية مستقبلية، فالخبير المعمارى المرموق الدكتور أبوزيد راجح توقَّع منذ ثلاثة أعوام ــ كما هو مذكور فى كتاب «التحضُّر العشوائى» ــ أن يلتهم الزحف الخرسانى مصر ما بين عامى 2070 و2100!

وهناك رقم أقرب من ذلك وأكثر إفزاعا يتمثل فيما خلصت إليه دراسة قامت بها مجموعة من الباحثين بجامعة الأزهر وأوردتها الدكتورة جليلة القاضى فى كتابها التاريخى المذكور نفسه، وقد خلصت هذه الدراسة إلى التخوُّف من انتفاء وظيفة الزراعة تماما من الدلتا والوادى عند حلول عام 2030، وهو سيناريو لا ينتظر الإخراج؛ لأننا نرى بواكير مشاهده فى هذه اللحظة، والمتمثلة فى غلاء المواد الغذائية التى تجعل حتى المستورين منا وأشباه الميسورين، نُنحِّى اللقمة عن أفواهنا لنطعمها لأولادنا مشفقين عليهم مما ينتظرهم من أشباح جوع الأمة فى المستقبل!

لقد لفت انتباهى مما أتابع فى وسائل الإعلام المختلفة، هتاف جديد لمعتصمين أمام مقر الحزب الوطنى فى أزمة من الأزمات التى لم تستثن قطاعا من الشعب إلا شملته ببؤسها، ويتوجه هذا الهتاف إلى من يعنيهم الأمر فى هذا الحزب الحاكم، قائلا: «إذا كُنتو نجحتو بدون تزوير / حِلُّو مشاكل الناس بضمير»، والشطرة الثانية فى الهتاف ليست مجرد جواب شرط للشطرة الأولى، بل هى استكمال لصرخة تُجاهر بأن ما يحدث لعموم الناس فى بلادنا صار شيئا غير معقول وغير مُحتمَل، وأن الناس لا يُنازعون هؤلاء فى الحكم الذى يقبضون عليه بالتحايل والقوة، بل يطلبون منهم أن يحكموا بالعدل والحق اللذين يبلورهما مفهوم الضمير. فهل يُجدى أن نخاطب فى هؤلاء الضمائر.. أو حتى المشاعر

؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟

كل عام وأنتم بخير.
محمد المخزنجي كاتب مصري كبير ، وطبيب أمراض نفسية ، ولد في المنصورة ، وعمل في مجلة العربي الكويتية ثم تفرغ ككاتب حر ، يُعتبر من أبرز كتاب القصة في العالم العربي ، وله إسهامات متفردة في الكتابة العلمية وأدب الرحلات والمقال الصحفي .