مراكب الوحل - محمد المخزنجي - بوابة الشروق
الخميس 2 مايو 2024 7:00 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

مراكب الوحل

نشر فى : الخميس 29 نوفمبر 2012 - 8:00 ص | آخر تحديث : الخميس 29 نوفمبر 2012 - 8:00 ص

الأساطير والحكايات الخرافية والحكايات الشعبية، ليست أبدا مجرد حكايات، إنها ممتعة التسلية عندما نترك أنفسنا نبحر فى مياهها أو نمشى على ضفافها، لكنها فى الأعماق نوع من حكمة الشعوب والسنين، ورسائل مشفرة عكف كثيرون على فك رموزها، ولعل أفضلهم هو «إريك فروم» الذى حلل بنية الأساطير ومراميها بشكل بارع فى كتابه «اللغة المنسية»، لأنه وضع مفهوم «السُلطة» محورا رمزيا تدور حوله بقية رموز الأسطورة، فهو الصراع الجوهرى فى الاختيار بين القوة والحق. وقد كان ضمن أحلامى الأدبية التى أجهضتها أو أجَّلتها مشاغل الكدح فى الحياة فى فورة العمر، ثم الاشتباك مع هموم الوطن السياسية ككاتب بعد ذلك، أن «ألعب» إبداعيا مع الأساطير والحكايات الخرافية والشعبية بما يعيد تجديدها وتلاؤمها مع الشجون المعاصرة التى تخصنا، ولم يُتح لى أن أتفرغ لذلك أدبيا، فاكتفيت بأن ألامسه فى بعض ما كتبته للصحافة. 

 

فعلت ذلك أكثر من مرة متقصدا رموز الحكم الساقط فى أوج تغولهم، وكانت مهزلة التوريث هدفا لقصفى لفرط ما تثيره من غضب وامتعاض ورفض، فشمَلتُ «حالة» وريث الغفلة بأكثر من مقال قصصى يستلهم إعادة تشكيل الأسطورة أو الحكاية الخرافية أو الشعبية، وكان ما يفور فى صدرى من الغضب يُنجز كثيرا لم أنشر منه إلا القليل، ومع انزياح مبارك ووريثه وما حولهما، ظننت أن ما لم أنشره قد فات أوانه، لكننى مع ما يحدث من تغولات الحكم الحالى، وجدت أن هناك ما يظل مثيرا للدهشة، لأن شهوة السلطة، بل فجعتها، استفحلت بسرعة خرقاء فى حكم الإخوان، ووجدْتُ أسطورة كنت قد عالجتها يمكن أن تكون صالحة لفهم ما نراه من الحالة السلطوية الإخوانية، مع تغيير شخوص الحكاية وإبقاء رمزية المواقع، وهى أسطورة إيطالية من مجموعة «أساطير البحيرات والأنهار» التى نشرها المركز القومى للترجمة، والتى سبق أن أشرت إليها فى معالجة سابقة نُشرت فى مواجهة الحكم السابق الساقط.

 

تحكى الأسطورة التى تحمل عنوان «بحيرة الحسرة»، أن هناك بحيرة لم تعد موجودة، لأنها اختفت منذ قرون. «كانت بحيرة صغيرة جميلة ترقد بين أحضان جبال مكسوة بالغابات. وكانت البلدة المجاورة للبحيرة لطيفة لدرجة أن أميرة مرت بها فوقعت فى حبها، وقررت ان تبنى فيها قصرا تعيش فيه مع ابنها حتى يعود والده من الحرب».

 

بالنسبة لطفل فى العاشرة من عمره، كانت الغابات الضخمة والمياه الهادئة جنة حقيقية. وبالطبع، طلب الصبى قاربا. ولأن أمه كانت لا تستطيع أن ترفض له طلبا، أمرت فى الحال ببناء زورق جميل جدا، وتعلم الطفل أن يقوده.

 

صياد عجوز، كان يأتى بالسمك للقصر، رأى الأميرة، فقال لها: « طفل وحده فوق مياه هذه البحيرة ، ليس هذا منتهى الحكمة، فالريح يحدث ان تهب فجأة، وإذا فوجئ الطفل بالعاصفة فهل تظنين أنه يمكنه العودة إلى الشاطئ؟»

 

أجابت الأميرة على الصياد قائلة: «ابنى أمير، والأمراء يستطيعون ان يفعلوا كل شىء لأنهم اقوى وأذكى من الجميع».

 

وذات صباح، كانت البحيرة مصقولة مثل مرآة، وركب الطفل القارب واندفع فى عرض البحيرة، وكانت أمه الأميرة تراقبه من نافذتها، وفكرت فى زوجها الغائب، وقالت لنفسها: «عندما يعود سيكون فخورا بابنه».

 

كان الطفل فى وسط البحيرة تقريبا، عندما أظلمت السماء فجأة، وأخذت الغابة تزمجر. صارت مياه البحيرة سوداء كالحبر، وارتفعت أمواج هائلة يعلوها الزبد، تندفع مثل حيوانات مذعورة من شاطئ لآخر.

 

أخذت الأميرة تصيح، طالبة النجدة فقفز الصياد العجوز إلى قاربه، وبذل كل ما فى وسعه لإنقاذ الصبى. لكن المطر اخذ يتساقط بغزارة إلى درجة أن الأميرة سرعان ما لم تعد ترى، لا قارب طفلها ولا قارب الرجل العجوز، فانتحبت، وصلَّت، وهاجت، وهاجمت كل من حولها ، وتضرعت إلى السماء، لكن غضب الرياح الآتية من ناحية الجبل لم يهدأ.

 

استمرت العاصفة لساعات. وعندما انتهى وابل المطر وعاد الهدوء، ظهرت البحيرة تحت الشمس الساطعة، ولم يعثروا إلا على بقايا زورقين حطمتهما الأمواج. عندئذ جمعت الأميرة كل الفلاحين والصيادين من المنطقة والجوار، ودفعت لهم لكى يعملوا بلا انقطاع فى حفر قناة تسمح بتفريغ البحيرة من مياهها.

 

وبين عشية وضحاها تم نزح المياه من البحيرة، غير أنهم لم يعثروا فى القاع، إلا على هيئة غامضة لرجل عجوز يضم بين ذراعيه هيئة طفل. وكان الكلس المتراكم فى قاع البحيرة قد صنع من الغريقين تمثالا واحدا بحواف مشوشة.

 

غادرت الأميرة، يائسة، قصرها، وراحت تهيم على وجهها فى الغابات. وحاول الناس مواساتها، دون جدوى. غير أن نظراتها سرعان ما جعلت الناس يفرون منها. وسرت شائعات تقول أن من ينظر إليها يغامر بأن يصير مجنونا. ولم تمكث البائسة عدة أشهر حتى ماتت مع دخول الشتاء، من البرد والجوع، وبالأخص من اليأس فى جوف الوادى العريض، فى قرارة ما كان من قبل يحيرة جميلة».

 

هنا انتهت الحكاية الإيطالية، لكننى أكملتها فحكيت أن أميرة أخرى قرأتها، وكان لديها ولد صغير تظن أنه أذكى وأقوى من الجميع، وتعده لكى يخلف أباه بعد حين، لكن الحكاية جعلتها ترتعب، خاصة وأميرها الصغير كان مصرا على الإبحار بقارب فى عرض النهر الكبير الذى يجرى تحت أقدام القصر.

 

كان الولد عنيدا، وكانت أمه لا تستطيع أن ترفض له طلبا، فأمرت أن يبنوا له قاربا لم ير أحد مثله خلال أسبوع واحد. وفى الليالى الستة لأيام هذا الأسبوع، جنَّدت آلاف الرعايا لحفر قنوات تُسرِّب معظم مياه النهر فى الصحراء والبحر.

 

وعندما أنزلوا القارب الرائع إلى الماء وفيه الأمير الصغير، لم تكن الأميرة خائفة، لأن النهر صار من الضحالة بحيث لو هبت الريح وقلبت زورق الابن، فإنه يستطيع أن ينجو من الغرق بمجرد أن يقف على قدميه. وفاتها أن النهر الذى أفرغته إلى هذه الدرجة المفزعة، لم يعد قادرا على رى الحقول والحدائق، ولا جعل المراكب تبحر فى مجراه، بل لم يعد يكفى حتى لإرواء عطش الناس ناهيك عن اغتسالهم.

 

صار النهر مجرى فقيرا ، محاطا بالحقول المقفرة والبساتين التى ماتت، وآلاف آلاف الجوعى والعطشى الذين لم تلمس المياه جلودهم لشهور طويلة. فقد النهر اسمه القديم «النهر العظيم» وصار عند الناس «نهر الحسرة». وصارت معضلة الأميرة الملتاعة، كيف تُخْرِج الأمير الصغير الموحول، فى زورقه الباذخ الذى تلطخ، من سبخة الطين والعفن، ودائرة الناقمين، والقتلة.

 

انتهى لعبى مع تلك الأسطورة التى عالجتها لأصف حالة سابقة، والتى أرجو أن تعيدوا قراءتها لتكتشفوا أن التاريخ يكاد يكرر نفسه بشكل ساخر، ومرير السخرية أحيانا، فقد «لعِبتُ» مع هذه الأسطورة لتكون الأميرة ممثلة لسيدة القصر الرئاسى المنقشعة، والأمير الصغير ممثلا لوريث الغفلة، والزورق الفاخر تمثيلا لجاه السلطة ونفوذها، أما النهر فهو حياة الأمة، والوحل ما انتهى إليه المغترون بالسلطة والمتسلطون بها. فاستبدِلوا الرموز بما يعادلها من عجرفة وتغوُّل ممثلى «الجماعة» فى «السلطة» وهم لم يكملوا بعد بضعة أشهر فى سُدَّتها الأمارة بالسوء، ثم احكموا.

 

إننى أنهى هذه المقالة صباح الثلاثاء لأتفرغ لمتابعة ما سيحدث ميدانيا فى مليونية «للثورة شعب يحميها»، متمنيا ألا ينتهى زورق الحكم بعد خطيئة الإعلان الرئاسى الاستبدادى المراوغ الأخير المشئوم، إلى أوحال نهر حاولوا تفريغه لينفرد طيف واحد محدود، بمقادير أمة كبيرة، لم تكن أبدا ولن تكون بإذن الله إلا أمة وسطا، قوتها فى قدرتها على التماسك بالتسامح والتعايش والتوافق واحترام بنيها لحقوق كل من فيها. يارب.

 

إضافة، فى صباح الأربعاء: عدت من ميدان التحرير فى الليلة الفائتة مبهورا برؤية طوفان بشرى من كل الطبقات والفئات لأكثر من مليون إنسان مصرى رافض ليس فقط للمرسوم الرئاسى المشئوم، بل لممارسات الإخوان المفتونين بالسلطة والمغترين بها والفاشلين فيها، وقد ملأ هذا الطوفان ميدان التحرير وفاض فى شوارع وسط البلد حتى الأطراف البعيدة، ثم أقبلت مسيرات بمئات الآلاف قادمة من شبرا ومصطفى محمود والعباسية تشكل بذاتها مليونية إضافية، وهذان المليونان من القاهرة وحدها، لم تأت بهم من الأقاليم والقرى والنجوع أتوبيسات التحشيد ولا امتثالات السمع والطاعة ولا مدد السلفيين. والمعنى أن الإخوان لا يشكلون أغلبية بأى حال، وعليهم أن يتواضعوا ويراجعوا أنفسهم، ويدركوا أن زورقهم الذى تحركه شهوة السلطة لا نُشدان الحق، قد دخل بهم وبمصر إلى سبخة الوحل فى شهور قليلة، وأنه ما عاد ممكنا خداع الناس، فلينتبهوا (خاصة الشباب منهم) إلى خداع النفس، فهذا هو الوحل الأعظم.

محمد المخزنجي كاتب مصري كبير ، وطبيب أمراض نفسية ، ولد في المنصورة ، وعمل في مجلة العربي الكويتية ثم تفرغ ككاتب حر ، يُعتبر من أبرز كتاب القصة في العالم العربي ، وله إسهامات متفردة في الكتابة العلمية وأدب الرحلات والمقال الصحفي .