عن بنها التى كانت عسلا - عماد الغزالي - بوابة الشروق
السبت 18 مايو 2024 7:18 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

عن بنها التى كانت عسلا

نشر فى : الإثنين 29 أغسطس 2011 - 8:47 ص | آخر تحديث : الإثنين 29 أغسطس 2011 - 8:47 ص

 أمس الأول كنت فى بنها، بلدتى التى كانت يوما ما نموذجا للجمال والهدوء والدعة.

مدينة صغيرة فى حضن النيل، قليلة السكان قليلة الموارد، تقبع فى منطقة وسط بين بساطة الريف وبذخ المدن، يسمونها بنها العسل، وقيل فى تفسير التسمية كلام كثير، منه مثلا أن سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام حين أرسل إلى المقوقس حاكم مصر يدعوه إلى الدخول فى الإسلام، رد عليه بهدايا كان من بينها عسل استطيبه الرسول الكريم وسأل عن منشأه فقيل له إنه من بنها، فقال ما أطيب بنها وعسلها، فعرفت من يومها بهذا الاسم.

وقيل إن السبب هو شهرة القرى المجاورة للمدينة بزراعة الموالح، وأن النحل يتغذى على زهورها فينتج أجود أنواع العسل، وقيل ثالثا إن كلمة بنها باللغة الفرعونية القديمة تعنى العسل فاكتسبت المدينة من الاسم صفتها.

دعك من حكاية المقوقس حتى لا يغضب صديقى الدكتور يوسف زيدان، فالمقوقس برأيه لم يكن حاكما لمصرفى ذلك الوقت، ومن ثم لم يرسل له النبى رسالة ولم يتلق منه هدية.
وأيا ماكانت التسمية، فإننى أحدثك عن مدينتى «التى كانت»، والتى كغيرها من المدن تشوهت وتفسخت وترهلت.

كانت هادئة فصارت صاخبة، زاد سكانها أضعافا فجاروا على الغيطان والحدائق والمساحات الخضراء حتى لم يبق بها حديقة واحدة، تخيلوا، مدينة كاملة ليس بها حديقة!

كنّا فى طفولتنا نمشيها طولا وعرضا فى نصف ساعة، فصارت الحركة فيها بالسيارة قطعة من عذاب جهنم، عدد السيارات مهول، زحام خانق لا ينفض، يتضاعف طبعا مع العام الدراسى الجامعى، ففى بنها جامعة إقليمية منذ أواسط ثمانينيات القرن الماضى، بدأت بكلية واحدة حتى صارت جامعة مستقلة.

وخلال الأعوام الثلاثة الأخيرة، دخلت بنها زمن العولمة من أوسع أبوابه، فصارت فيها مطاعم كنتاكى ومؤمن وكوك دور وبيتزاهت، ومولات وكافيهات تقدم وجبات خفيفة ومشروبات مبتكرة، ومحلات تجارية تتزايد بطريقة عجيبة، بما يؤكد ارتفاع القدرات الشرائية للسكان، وتمددت البنايات فالتهمت الأراضى الزراعية فى القرى المجاورة، وشيّدت الأبراج لراغبى السكن،وارتفعت أسعارالشقق والإيجارات الجديدة والأراضى إلى أرقام فلكية، حتى جاوزت نظائرها فى القاهرة.

لكن العولمة على ما يبدو لم تجلب لسكان بنها السعادة، بل زادتهم تذمرا وتعاسة، فقد فقدت المدينة هويتها وانسحقت روحها، فقدت ما امتازت به من هدوء وبساطة، وتحولت إلى مسخ مشوه، إلى عجوز شمطاء لن تخفى مساحيق التجميل وعمليات الشد المستمرة، تجاعيد وجهها وقبح منظرها.

المدهش أن ذلك كله جرى فى خمسة عشر عاما على الأكثر، ولاشك عندى أن ما جرى فى بنها جرى مثله فى مدن مصر جميعها، من الصعيد للسلوم.

تفشى القبح وتمدد حتى جثم على أنفاس العباد، وابتلعت الفوضى ما عداها، وفرضت العشوائية والبلطجة قوانينها، جرى ذلك قبل الثورة، ويجرى بقدر أكبر من البجاحة والنطاعة بعدها، استغلالا لغياب الأمن وتحديا لسلطات الدولة.

لم تعد بنها العسل اسما على مسمى.

عماد الغزالي كاتب صحفي
التعليقات