ألف يوم من الإشراق اللُغوى - محمد المخزنجي - بوابة الشروق
السبت 4 مايو 2024 4:52 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

ألف يوم من الإشراق اللُغوى

نشر فى : الجمعة 28 أكتوبر 2011 - 9:30 ص | آخر تحديث : الجمعة 28 أكتوبر 2011 - 9:30 ص

توصف جريدة «الشروق» كثيرا بأنها «جريدة الثورة»، ربما لانحيازها الذى لا تردد فيه لثورة 25 يناير منذ يومها الأول، وهو انحياز تجذر فى توجه الجريدة منذ بدايتها، لكنه فى أيام الثورة شكَّل ظاهرة لم تغفل عنها عين النظام السابق ولا تابعيه وتابعى التابعين، وليس أدل على ذلك من أن أول ملامح العدوانية يوم موقعة الجمل، كان الحصار الذى أحاط به بلطجية أنصار مبارك مبنى الجريدة وهم فى الطريق من ميدان مصطفى محمود إلى ميدان التحرير، حيث صرخوا بالشتائم وهددوا بالقبضات والعصى، لكنهم اضطروا للانصراف أمام احتشاد سكان الحى وبنات وأبناء الجريدة الشباب للدفاع عنها، إضافة لأن هذا الرافد من بلاطجة النظام الساقط كانت وراءه مهمة أضخم وأفظع، بدأها بالترويع ممتطو الجمال والبغال نهارا، واختتمها بالقتل قناصو الليل.

 

 كل هذا حقيقى، لكن هناك حقيقة ربما تكون خافية عن أعين كثيرين فى مسيرة شروق الألف يوم، وهى تنتمى إلى ثورة من نوع خاص جدا فى إطار مهنة الصحافة والكتابة فى الصحف، والتى أصابها ما أصاب شئون شتى فى بلادنا من تدهور ونكوص فى ظل الحكم الساقط، والذى لم يكن فى رأيى مستبدا وفاسدا فقط، بل كان منحط الأداء وفقير الكفاءة، مما أصاب البلاد بعدواه، وتجلى هذا فى قطاع التعليم ضمن قطاعات مختلفة، وأبرز ملامحه كان تدهور وانحطاط الأداء اللغوى، خاصة فى الصحافة والإعلام، ولقد رأيت فى قسم التصحيح اللغوى فى إحدى الصحف الحكومية الكبرى فضائح لغوية تدارك الكثير منها المصححون الذين حشروهم فيما يشبه قبو كئيب بتلك الجريدة برغم بسالة ما يقومون به، ولولا إعادتهم لصياغة وتصحيح ما كتبه كتبة النظام الساقط الكبار، لبدا الأمر من مساخر الدنيا والزمان، ومع ذلك لم يكن هؤلاء الجنود المجهولون فى قباء التصحيح بقادرين على تدارك كل ذاك السيل من ذلك الغثاء اللغوى فى الصحافة، فطفح منه على السطح الكثير، أما الإعلام المرئى والمسموع، فحدث ولا حرج، وإن كان اللجوء إلى لغة الشوارع قد وفّر ملاذا لهؤلاء الضالين عن لغتنا الجميلة.

 

 لقد أصاب اللغة العربية تدمير مزمن، حتى بدا للبعض أنها أعجز ما تكون عن الوفاء ببعض ما تتطلبه الكتابة فى الصحافة من سلاسة وتوصيل وضحك وبكاء، وتطاولت قامة الركاكة، فلم نعد نحظى فى كتابات كثيرة وإلقاءات أكثر، لا بلطافة العامية الذكية، ولا نصاعة الفصحى النبيلة. لهذا أرى أن «الشروق»، على وجه الإجمال، قد اتخذت لنفسها خطا تصحيحيا للخروج من هذا الحصار الخانق للركاكة. ولعل مفرزة كتاب الجريدة الكبار، هى القاطرة التى شدت الأداء الصحافى اللغوى نحو ارتقاء مختلف عن معظم السائد. فثمة وجبة يومية من الفصاحة ظل يقدمها الكاتب الكبير فهمى هويدى أيا كان اتفاقك أو اختلافك مع ما يكتبه، وثمة وجبات غير يومية لكتاب مختلفى المشارب ساروا على الدرب اللغوى نفسه منهم الكبير النضير الأستاذ سلامة أحمد سلامة والدكتور جلال أمين، وأظننى ومعظم كتاب الأعمدة كذلك. وفى السياق ذاته، أرى أن شباب الكاتبات والكتاب فى «الشروق» يتخذون هذا المنحى الطيب نفسه.

 

 لقد أثبتت مسيرة الألف يوم من «الشروق» أن للارتقاء اللغوى جمهوره الواسع، وأن الترخُّص اللغوى ليس وسيلة انتشار حتمية حتى فى ظروف الانحدار. وأعتبر هذا إنجازا ثوريا لجريدة ينعتها كثيرون بأنها جريدة الثورة، وهى من زاوية الرؤية التى أنظر بها إليها الآن: ثورة على ابتذال لغة الكتابة، وتشبث بجمال الفصحى الطيعة الحية وجلالها، وهذا ليس بالشىء القليل فى مضمار الارتقاء بالذوق والتدرع بالهوية. وهل الثورة إلا طموح للارتقاء وصيانة لجوهر الهوية.

 

 لقد نسى كثيرون أو تناسوا أن الصحافة المصرية فى ذُراها قامت على أعمدة أصحاب لغة عربية عالية ودانية القطوف، مثَّلها عمالقة فى الأدب والثقافة والسياسة منهم طه حسين والعقاد وسلامة موسى وأحمد حسن الزيات وإبراهيم المازنى. ولعل أهم ما يسطع من أسطورة الصحافة المصرية الحية بيننا الآن، الأستاذ محمد حسنين هيكل، تمثله لغته العربية القوية والمبينة والأنيقة فى آن.

 

 هانحن نتم ألف يوم بألف إصدار من «الشروق»، ولم تكن أناقة الماكيت الأساسى، ولا نوافذها المشرعة على كتابة عمالقة الصحافة فى العالم، ولا انحيازها الحاسم للثورة، منذ إرهاصاتها الأولى ثم ميادينها الحاشدة، إلا منظومة ما كان لها أن تُكتمل، إلا بأداء ثورى فى اللغة، لابتحطيمها وهى محطمة، ولكن بجبر كسورها وتمتين مبناها وتحديثه. وأظن أن «الشروق» أنجزت شيئا ملحوظا من هذا على امتداد ألف يوم، نتمنى لها آلافا أخرى من الفصاحة المُتاحة، فى لغة لا ينبغى إهدار غِناها.. ولا غُناها.

محمد المخزنجي كاتب مصري كبير ، وطبيب أمراض نفسية ، ولد في المنصورة ، وعمل في مجلة العربي الكويتية ثم تفرغ ككاتب حر ، يُعتبر من أبرز كتاب القصة في العالم العربي ، وله إسهامات متفردة في الكتابة العلمية وأدب الرحلات والمقال الصحفي .