أمسكنا القمر وغرقنا فى الطين! - محمد المخزنجي - بوابة الشروق
السبت 27 أبريل 2024 2:46 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

أمسكنا القمر وغرقنا فى الطين!

نشر فى : الخميس 28 يناير 2010 - 9:27 ص | آخر تحديث : الخميس 28 يناير 2010 - 9:27 ص

 وأنا أبحث عن بصيص أمل فى نفق ظلمتنا المتراكمة الطويل، عثرت على ضوء يكشف عن ملحمة فضائية مصرية حقيقية، وعنوانها قمر فضائى مصرى مختلف تماما عن أقمار البث التليفزيونى والاتصالات «نايل سات»، فالقمر عنوان هذه الملحمة اسمه «مصر سات 1» وهو قمر رصْد وتصوير منخفض المدارات، ودوره بالغ الأهمية على الأرض، ولعل هذا هو السبب الذى أثار حقد إسرائيل فأثارت زوبعة إعلامية عالمية ضده، بينما نحن جاهلون به، ومتجاهلون له!

«مصر سات 1» هو نجم برنامج فضائى مصرى، شاركت فى صنعه أياد وعقول مصرية أدارته بكفاءة أرعبت إسرائيل منذ إطلاقه بصاروخ أوكرانى من قاعدة بايكونور الروسية فى كازاخستان فى 17 أبريل 2007، فقد ادّعت وسائل الإعلام الإسرائيلية وعدد من المسئولين العسكريين الإسرائيليين أن القمر المصرى هو قمر صناعى تجسسى، هدفه التجسس على إسرائيل وجمع معلومات عسكرية عنها، وقد ذكرت صحيفة «جيروزاليم بوست» حينها، على لسان «تال إنبار» المسئول الرفيع فى معهد «فيشر» الإسرائيلى لدراسات الجو والفضاء الاستراتيجية فى هرتزيليا قائلا: «إن إطلاق القمر المصرى هو تغيُّر هام وذو دلالة على توازن القدرات الفضائية فى الشرق الأوسط» وأضاف قائلا: «مصر بهذا تعلن أنها تقود المنطقة فى تكنولوجيا الأقمار الصناعية، فمع أن إسرائيل تمتلك تكنولوجيا فضائية متقدمة إلا أنها لا تملك قدرات الاستشعار متعدد الأطياف الموجودة فى القمر الصناعى المصرى «مصر سات 1»!

بالطبع علينا أن نتوقع مبالغة فى حديث المسئول الفضائى الإسرائيلى هدفها مزيد من ابتزاز العالم، والتغطية على استفحال وتوحُّش ترسانتها الحربية العدوانية، وتكاثُر أقمارها التجسسية التى كان آخرها القمر الصناعى «أفق 7» القادر على رصد أهداف أرضية طولها 12 سنتيمترا فقط. هناك مبالغة إسرائيلية على الأرجح، لكن متابعتى لوقائع الملحمة الفضائية المصرية التى لا تخلو الآن من شجون، تقطع بأن أملا مصريا حقيقيا لمع فى فضاء كوكبنا، صنعه فريق مدهش يتكون من 120 عالما ومهندس فضاء مصريا، شكلوا كتيبة علمية وتقنية عالمية المستوى توشك أن تتآكل الآن لأسباب مجهولة، برغم أن من أعطى إشارة البدء لهذه الملحمة هو الرئيس المصرى محمد حسنى مبارك نفسه، وهى حقيقة لا يجرمننا شنآن ما يقترفه الفاسدون والفاشلون فى الإدارة المصرية ألا نكون عادلين فى ذِكرها، فالرئيس المصرى أعطى إذن الانطلاق، وهو قرار وطنى مهم، لكن شياطينَ ما كانوا يتربصون بمسيرة مصر الفضائية عند كل منعطف، ولايزالون!

ها قد عدنا من الفرح لنحزن كعادتنا فى السنين الأخيرة، بل الشهور الأخيرة، وحزننا الأخير له علاقة بمسيرة إنجازات الاستشعار من بُعد التى يُشكِّل القمر «مصر سات 1» ذروتها، ولقد تصادف أن لى مع قضية الاستشعار من بعد حكاية ذات صلة، ففى مطلع عام 1992هجرت الممارسة الطبية وعملت محررا علميا لمجلة العربى الشهيرة، ووضعت لنفسى خطة تحريرية رحبت بها إدارة المجلة التى كانت ولاتزال عروبية جامعة، وكانت أهم ملامح هذه الخطة إدخال الاستطلاع العلمى ضمن التغطية العلمية المنشود تقديمها للقارئ العربى عامة والمصرى خاصة، إيمانا بأن مصر هى قلب هذا العالم العربى، وإذا صلح القلب صلح الجسد كله، وأن العلم هو أهم مداخل النهوض والتنمية والبعد عن التخلف والتعصب والمرض والفقر، وأتذكر أن أول تحقيقين علميين كانا عن معهد الكلى الذى أسسه العظيم المحترم الدكتور محمد غنيم فى المنصورة، والثانى كان عن مركز الاستشعار عن بُعد بأكاديمية البحث العلمى المصرية.

كان الاستشعار عن بُعد حينها شيئا مجهولا للعامة والخاصة، وبرغم أننى اعتدت التمهيد لعملى بقراءة جادة فى الموضوع قبل أن أبدأ استطلاعه، فإن ما شاهدته كان باهرا وساحرا، فثمة طائرات تصعد إلى ارتفاعات شاهقة للتصوير بكاميرات خاصة، وحواسيب عملاقة تُعيد إنتاج الصور فى أشكال رقمية لكل منها دلالاته، ويومها قام العالِم المسئول عن المركز الدكتور محمد عبدالهادى بفتح خزانته العلمية، فشاهدْتُ مصر فى صور عملاقة لم يشهدها أحد من غير المختصين قبلى، وأتذكر جيدا أننى بينما كنت أتأمل صورة للقاهرة رحت أبحث عن مكان سكنى فى المعادى، وقلت للدكتور محمد عبدالهادى مازحا «أنا هنا»، فمال يدقق فى المكان فى الصورة، ورفع رأسه متعجبا وهو يقول: «قريب من مجرى السيل»، وفى حديثنا الذى تواصل على مدار ثلاثة أيام عرفت أن أحد أهم فوائد الاستشعار عن بعد هى مراقبة ما يجرى على أرض الوطن، لمنع التعدِّى على الأرض الزراعية ونهر النيل، ورصد مخالفات البناء العشوائى، ووضوح الرؤية عند تخطيط أو إعادة تخطيط المدن، وأشياء أخرى كثيرة كان منها الحفاظ على مخرات السيول مفتوحة لتحاشى وقوع الكوارث عند حدوث أمطار غزيرة على جبال البحر الأحمر وسيناء وأسوان!

يومها سألت الدكتور محمد عبدالهادى عما إذا كانت الجهات التنفيذية تستفيد من معطيات هذه الصور الاستشعارية أم لا، فأجابنى مبتسما بإحباط: «نحن نعمل ونرسل وننبه، أما الأخذ برأينا، فالله أعلم»، وها هو الله يكشف بعضا مما كان يعلمه، مصر بعد 17 عاما من ريادة المنطقة فى الاستشعار عن بُعد، تغرق بشكل فاضح فى سيول هى بالمقاييس البيئية عادية، مما يؤكد أن كل جهود الاستشعار عن بُعد كانت ولاتزال تذهب هباء بفضل عقول متنفِّذة جهولة، وضمائر خربة لم تحركها إلا الشراهة للربح، فكان البناء فى الأماكن الخطأ، كما حدث فى وادى العريش وجعل السيل يفيض خارج مجراه فيُغرق بيوت الفقراء خاصة والذين كانوا أكثر نباهة وذكاء فطريا من جهابذة الإدارت الخائبة، فبنوا بيوتهم بعيدا عن مسارات السيول، لكن أباطرة الجهالة والفساد كان لهم الصول والجول، فشيدوا وتربحوا مما بنوه وكان بمثابة سدود فى وجه السيول جعلتها تفيض فى الوادى وتصعد لاجتياح البيوت وتُغرِق الناس فى طين بيوتهم المنهارة!

القمر «مصر سات 1» والذى أجادت وتجيد التحكم فيه عقول علمية مصرية اعتمدت على نفسها بعد أن تزودت بالكثير من علم الدنيا المتقدمة، هذا القمر كان قد بدأ فى إرسال باكورة صوره لمحطات الاستقبال المصرية، وهى صور ليست غالبا كما يزعم الإسرائيليون للتجسس عليها، بل هى بالضرورة مكرسة لصالح الأرض المصرية وآليات واستراتيجيات حمايتها، ليس فقط من شرور الخارج، بل أساسا من أخطاء وأخطار الداخل، ومنها مخاطر البيئة التى بينها السيول. وهذه الصور الجديدة هى بالتأكيد شىء أكثر تقدما ودقة من صور الاستشعار القديم بالطائرات عالية التحليق، لكن يبدو أن استشعارنا كان ولايزال جهدا يتم تضييعه بأيدى مُتنفِّذين لا يحسون ولا يشعرون.

ثم يجىء الأدهى والأمَرُّ، فالقمر الذى تقوده بكفاءة عالية عقول الفريق العلمى المصرى لابد سيتقاعد، مما يحتم استمرار مسيرة برنامج الفضاء المصرى وبناء قمر جديد بمساهمة أكبر من العقول والأيادى المصرية، حتى لا تصبح مصر أول دولة تخرج من الفضاء خالية الوفاض بعد أن دخلته باجتهاد ودأب وتكاليف مثمرة. وهى قصة عجيبة غريبة ينبغى أن تُروى لإنقاذ ما يكن إنقاذه، فى الفضاء.. وعلى الأرض!

محمد المخزنجي كاتب مصري كبير ، وطبيب أمراض نفسية ، ولد في المنصورة ، وعمل في مجلة العربي الكويتية ثم تفرغ ككاتب حر ، يُعتبر من أبرز كتاب القصة في العالم العربي ، وله إسهامات متفردة في الكتابة العلمية وأدب الرحلات والمقال الصحفي .