مفيد أن يصح الصحيح - معتز بالله عبد الفتاح - بوابة الشروق
الخميس 2 مايو 2024 6:19 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

مفيد أن يصح الصحيح

نشر فى : السبت 26 يونيو 2010 - 10:31 ص | آخر تحديث : السبت 26 يونيو 2010 - 10:31 ص

 أعلنت جوائز الدولة التشجيعية والتقديرية وجوائز مبارك خلال الأسبوع الماضى. والحقيقة أننى لا أعيرها الكثير من الاهتمام إلا بقدر معرفتى الشخصية باستحقاق بعض من يحصلون عليها فأبادر بالانضمام إلى طابور المهنئين لأنه مفيد لمصر الوطن أن يصح الصحيح ولو أحيانا. وهو ما حدث حين فاز بالجائزة النبيل الراحل محمد السيد سعيد والمفكر الرزين السيد ياسين وآخرون أكن لهم كل الاحترام.

ولكن جاء هذا الأسبوع ليحمل ما يشبه الاحتفال بين أبناء جيلى والقادمين بعدى من خريجى قسم العلوم السياسية بكلية الاقتصاد، جامعة القاهرة حين وصل إلينا خبر فوز المعلم الفاضل وأستاذ النظرية السياسية الإسلامية د. سيف الدين عبدالفتاح بجائزة الدولة التشجيعية، وهى مناسبة مهمة لمناقشة دور الأستاذ الجامعى فى بناء شخصية تلاميذه وطلابه فى شخص واحد من أهم عناصر القوة الشاملة فى كلية الاقتصاد.

إذن عزيزى القارئ، أقدم لكم رجلا أصفه وبلا مبالغة بـ«أستاذ أجيال» أعطى تلاميذه المثل والقدوة فى كثير مما لا يمكن تخيله عنه إلا بالقرب منه. ولنبدأ بواقعة التعارف بينى وبينه. فى عام 1991 كان يدرس لنا النظرية السياسية ووقف أحد الزملاء اليساريين ناقضا بعض ما كتبه الدكتور سيف فى رسالته للدكتوراه وبشدة وحدة لا يبررهما إلا خلطة من حماس الشباب من جهة والاختلاف البين فى الانتماءات الأيديولوجية من ناحية أخرى.

وتوقعنا سيلا فياضا من هجوم الأستاذ ضد هذا الطالب الذى «أساء الأدب» مع أستاذه فى عرف الكثيرين ممن لم يعرفوا الرجل من قبل، فكانت المفاجأة أن قال الفاضل سيف الدين عبدالفتاح للطالب الناقد: «اسم حضرتك إيه؟» فيرد الطالب فلان. فتوقعنا أن الأستاذ يسأل الطالب عن اسمه كمقدمه لعقوبة ما. وكان رد فعل الأستاذ الفاضل: «أحسنت يا فلان أتفضل اجلس».

ثم بدأ يحلل لنا ما قال فلان ولماذا قال ما قال وما هو النموذج المعرفى (paradigm) الذى انطلق منه كلامه، وبالتالى فالقضية ليست فى فلان الشخص وإنما هى فى مجموعة الأفكار التى تحكم تفكيرنا وهذا هو جوهر النظرية السياسية: هى علاقة تأثير وتأثر بين الأشخاص والأفكار والأحداث. وتحولت المحاضرة وبلا مبالغة إلى حالة من الارتياح الشديد بعد أن أثنى على زميلنا لأنه كان شجاعا فى طرح فكرته بل ودقيقا فى اختيار ألفاظه ولابد لأهل العلم والفكر والمعرفة أن يتواصوا بالرحمة فيما بينهم «فالعلم رحم بين أهله»، كما ذكرنا. يا لروعة الرجل الواقف أمامنا ويا لصدق ونبل الشلال الدافق من الخلق والتواضع وهو يستوعب حماستنا، ويؤكد أن «الحوار» طريق المعرفة فيعلمنا فى كلمات بسيطة أن «الاختلاف سنة، والتعايش ضرورة، والحوار آلية»، وهو ما جسده قولا وفعلا مع القريبين فكريا منه ومع المخالفين له أيضا.

والحقيقة أن عطاء الدكتور سيف يمتد خارج إطار طلابه إلى إطار الزملاء فى القسم بل وفى المجتمع الأكاديمى بصفة عامة محمود. وهو مما يأسى له المرء الآن. وسأروى لحضراتكم مشهدا دالا على معنى المجتمع الأكاديمى الذى كنا نعرفه فى قسم العلوم السياسية بكلية الاقتصاد، وهو مشهد مناقشتى لرسالة الماجستير فى النظرية السياسية تحت إشراف أحد أفضل علماء السياسة فى مصر وهو الدكتور مصطفى كامل السيد، وهو عالم آخر من أعلام البحث السياسى والاقتصادى فى مصر لابد أن ترصده أجهزة الترشيح لجائزة الدولة التقديرية قريبا طالما أنها تحسن الاختيار أحيانا. السؤال المطروح: من كان حاضرا لمناقشة الرسالة؟

الأساتذة الدكتور كمال المنوفى، والدكتور أحمد يوسف أحمد، والدكتورة نازلى معوض، والدكتورة هالة سعودى، والدكتور أحمد الرشيدى، والدكتورة أميمة عبود، بين آخرين من الأساتذة والأهل والأصدقاء والزملاء بما كان يعكس حرصا حقيقيا من الأساتذة على أن يتابعوا الإنتاج العلمى لتلاميذهم ولمناقشات زملائهم. وهو أمر يغيب مع الأسف الآن بشدة، حيث يبدو أن الجميع أكثر انشغالا بالتزاماتهم الفردية من فكرة المجتمع الأكاديمى الذى يتشارك فيه الجميع.

ومع ذلك لم يزل العلم رحما بين أهله عند العلماء بحق. فكانت المفاجأة السارة لى حين علمت من الفاضل سيف الدين عبدالفتاح أن أستاذتنا رفيعة القدر الدكتورة حورية مجاهد هى التى تولت منفردة ترشيح اسم الدكتور سيف للجائزة مع إعلامه لها بأن القائمين على الجائزة لا يلتفتون لأمثاله، ولكنها أخذت على عاتقها مهمة إعداد الأوراق اللازمة لذلك بدأب من يريد إنصافا لعالم جليل وشخص نبيل لابد أن يقدره المسئولون فى جامعة القاهرة حق قدره بتوليته منصب مدير مركز الدراسات الحضارية، بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية، وهو الأحق به ليس فقط لأنه أفنى عمره فيه ولكن أيضا لأنه الأصلح بحكم التخصص له.

وقبل أن أترك مشهد مناقشة رسالتى للماجستير أذكر أن أستاذى الدكتور سيف كان بطل المناقشة بلا منازع، حيث استمر فى مناقشتى فى كل شاردة وواردة لفظا ومعنى وتحليلا واستنتاجا واستدراكا وربطا بين الأفكار لمدة قاربت الساعتين. وكما قال الدكتور كمال المنوفى، عميد كلية الاقتصاد الأسبق: «هذه المناقشة من أفضل ما حضرت سواء بحكم أداء الأستاذ المناقش أو من الطالب»، ولكننى لم أكن أراها كذلك، فالدكتور سيف كان قد قرأ الرسالة مكتملة قبل المناقشة بأسبوع على الأقل والتقينا عدة مرات وكان يسألنى عن بعض ما كتبت لكنه لم يكن يبدى أى اعتراض على أى منها؛ ولكنه حين يتعلق الأمر بالعلم تتلبسه روح العلم وهو ما جعله يقول فى ختام النقاش: «هذه واحدة من أفضل ما قرأت وينبغى أن تكون نموذجا يحتذى به طلاب الماجستير بصفة عامة وفى النظرية السياسية بصفة خاصة». وهو عكس ما بدا لى من سير المناقشات فقد تصورت أنه سيقف فى النهاية معلنا عدم صلاحية الرسالة وعلى أن أعيد كتابتها من كثرة ما سأل وأبدى من أفكار نظرية مضادة لما هو مكتوب فيها.

وبعد عدة أيام سألته يا دكتور سيف لماذا أجهدتنى فى الأسئلة، قال «لأننى أريد أن أتعلم منك، أنا أناقشك استزادة فى العلم». وأقسم بالله غير حانث أنه أخرج لى نسخة الرسالة التى قرأها ووجدته قام بوضع علامات وإشارات استحسان كثيرة جدا فى الكثير من الأجزاء التى سألنى فيها وكأنه بالفعل يسألنى ليس اعتراضا وإنما رغبة فى تعميق الفكرة.

وكان من بين من أصروا على أن يدرس طلاب السنة الثالثة جزءا من رسالتى، اعتقادا منه أنها تستحق أن تنتشر على نطاق أوسع. لكنها شيم العلماء وقيمهم التى تطاول قامة العلم الذى يحملون.

وحين جاءت له فرص كثيرة للعمل فى دول الخليج فكان يسافر ويعود بسرعة إلى طلابه فى كلية الاقتصاد فنسأله نحن تلاميذه الذين نريده بجوارنا لكننا نعلم أننا نعيش فى نظام سياسى يكافئ المغنى ولاعب الكرة على جهده بأضعاف أضعاف ما يحتاج فى سنى عمره كلها ولا يعطى العلماء ما يكفى بعضا من هذه السنين. ونقول له هلا عملت كما فعل آخرون فى دول الخليج لفترة طويلة نسبيا كى تساعدك على تلبية احتياجات الأسرة؟ فكان رده: «أصلا أنا لا أحب الفلوس، ولا أستطيع أن أعمل لها فقط... ولا أحب أن يعمينى الدولار عن رسالتى»، أو هكذا قال.

وهو ما جعله يذكرنى بالحديث الشريف: «من خرج فى طلب العلم فهو فى سبيل الله حتى يرجع»، ثم كرر «حتى يرجع» ثلاث مرات كى يذكرنى بأن علىّ أن أرجع إلى أرض الوطن، قائلا: «إن لم ترجع إذن فأنت لم تكن فى طلب العلم»، لأن كل علم لابد فى النهاية أن يفيد أهله وألا يكون علما لا ينفع.

وهنا يكون السؤال الذى وجهته له هل عمل الإنسان فى الخارج يكون نوعا من الفرار من الزحف فى الداخل كما قال لى بعض أصدقائى الذين كانوا لا يريدون السفر حبا فى الصحبة ورغبة فى استمرار الألفة فى مرحلة ما قبل سفرى إلى الولايات المتحدة مباشرة؟، فكان تعليق الدكتور سيف هناك فارق بين نوعين من البشر كلاهما يترك المعركة فى لحظة ما: هناك «الفرار من الزحف» كما قرره القرآن الكريم فى قوله: «إذ تصعدون ولا تلوون على أحد» أى تفرون ولا تستمعون لأحد، وبين أولئك الذين يخرجون من ساحة المعركة كى يعودوا إليها أكثر قوة وحصانة فتكون شدتهم فى الحق شدتين كما جاء فى نص القرآن الكريم «ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة»، فمن يترك ساحة المعركة هربا فهو فار من الزحف، ولكن من يتركها متحرفا لقتال أى خارجا عن المعركة عائدا إليها من زاوية أخرى لمكايدة العدو أو يتحيز (يذهب) إلى فئة من الناس يحثهم على القتال مستعينا بهم، فهو وإن بدا فى أول الأمر فارا لكنه فى آخره قد يكون سببا فى النصر. إذن سفر المرء للخارج ليس بالضرورة عملا من أعمال التنصل من المسئولية ولكنه مقدمة لخدمة الوطن بشكل أفضل كما علمنى أستاذى الفاضل.

هذه كلمات حق لابد أن تقال فى رجل أعلم أن الثناء عليه لا يزيده إلا تواضعا وشعورا بالتبعة واستعدادا للتضحية من أجل وطن يستحق منا كل تضحية. إن أى جهد يبذل ولا يكرم صاحبه يؤدى إلى هدم قيمتى العلم والعمل، وأى شخص يخطئ ولا يعاقب فهذا أيضا يؤدى إلى هدم قيمتى المحاسبة والمسئولية. وأما وقد تم تكريم الدكتور سيف بهذه الجائزة المستحقة فهو تكريم لكل من يعمل لله والوطن والحياة الكريمة. وهو استمرار للبحث عن كل ما هو إيجابى فى وطن فقد الكثير من أبنائه الحماس له. فأن يصح الصحيح هو قمة الخير والحق والجمال.

معتز بالله عبد الفتاح أستاذ العلوم السياسية بجامعتي القاهرة وميشجان، ويدير حاليا وحدة دراسات الإسلام والشرق الأوسط في جامعة ميشجان المركزية في الولايات المتحدة. حصل على ماجستير العلوم السياسية من جامعة القاهرة وماجستير الاقتصاد ودرجة الدكتوراه في العلوم السياسية من الولايات المتحدة. كما عمل في عدد من مراكز الأبحاث في الولايات المتحدة ومصر، له ثمانية كتب والعديد من المقالات الأكاديمية منشورة باللغتين الإنجليزية والعربية.
التعليقات