حكاية لعبة - محمد المخزنجي - بوابة الشروق
الإثنين 6 مايو 2024 1:13 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

حكاية لعبة

نشر فى : الخميس 25 نوفمبر 2010 - 11:01 ص | آخر تحديث : الخميس 25 نوفمبر 2010 - 11:01 ص

 إنها لعبة حقيقية، وأى لعبة ليست أبدا لعبة كما يتبدَّى على السطح، فتحت هذا السطح يختفى جزؤها النفسى الأكبر، الجبل الغاطس من دوافع الشهوة للحصول على مثيرات للكيان العضوى والنفسى للاعب، ابتغاء الفوز باستجابات تحافظ على حياته الجسدية والنفسية، هذا ما قال به على نحو ما الطبيب وعالم النفس «إيريك بيرن»، أشهر من درس سيكولوجية اللعب، وصاحب الكتاب الأهم فى هذا المجال «الألعاب والناس». فلنذهب إلى اللعبة...

منذ ربع قرن، عصر يوم فى خريف سنة 1985، كنت أمشى شاردا كعادتى فى أحد شوارع الأحياء الشعبية فى بلدتى، المنصورة، وحدث أن انتزعنى من شرودى مشهد بدا وكأنه نادانى بشكل غامض لألتفت إليه، ونظرت، فرأيت ولدا فى عمر العاشرة تقريبا، ويقعد مقرفصًا كسيرا ومطويا على نفسه فوق الأرض الترابية، أبصرت وجهه وقد ابتل بدموع غزيرة لم تكن تتوقف، ثم اتسع المشهد مع اندفاعى نحوه، فرأيت على رأس الولد ولدا آخر فى عمر يقاربه وقد وقف ضاحكا بخبث وكان يدور بذراعيه المفتوحتين كمن يهش شيئا، لكنه لم يكن يفعل، بل يغمز لقطيع من الأولاد فى عمر مقارب، يوالون الانقضاض على الولد القاعد، يكيلون له الرفسات واللكمات والصفعات بسرعة مفتعلة، وبافتعال يفرون وهم يضحكون متخذين مواقعهم فى الحلقة الخبيثة المتراقصة حول المقموع!
ومض ذهنى المصعوق بسرعة، وتصورت أن الولد القاعد يقهره الولد الواقف على رأسه، ويجبره على البقاء فى وضعه، متيحا للمَّة الأولاد المتشيطنين استباحة المسكين والتسلى بإيذائه، بينما كانت استكانته تحفز عدوانيتهم اللاهية، ورجَّحت أنه قد يكون ولدا من حى مجاور أوقعه حظه العاثر فى منطقة هذه العصابة الكلبية من الأولاد، وأسلمه خوفه من كثرتهم الشرسة لأن يصبر ويحتمل الأذى حتى يجىء من يحرره من بين براثنهم!

اندفعت شاقا حلقة الشياطين المتراقصين حول الضحية، دفعت الولد الواقف بشىء من العنف، ورفعت الولد القاعد من كتفه لينهض ويمضى، وفوجئت به يقاوم رفعى له ويقول شيئا من خلال أنفاسه التى يقطعها البكاء، ولم أتبين ما يقوله إلا من خلال انتباهى لصخب الأولاد فى الحلقة الشريرة من حوله، وتبجُّح الولد الواقف الذى كنت قد أزحته «وانت مالك ياعم»؟! «سيبنا نلعب»، هنا تبينت ما كان يقوله الولد الباكى، ويكرره متقطعا من خلال بكائه «لا. لأ. بلاش. اللعبة. اللعبة تبوظ»!

أى لعبة؟ وكيف تبوظ؟
كنت أسأل وأنا لا أفهم بعد، فأنا ابن منطقة شعبية، ومعظم طفولتى قضيتها فى الوسعاية التى كانت أمام شارعنا، والتى كانت ملعبا لا ينقطع فيه اللعب طوال النهار وحتى منتصف الليل، وكان لى أب جميل الطيبة وأبعد ما يكون عن سلطوية الآباء الشائعة، أعود له ممزق الثياب ومبطوحا أو مسحوجا أو مكدوما فى منتصف الليل، فلا ينهرنى ولا يوبخنى، ولا حتى يسألنى أين كنت حتى منتصف الليل، بل يأخذنى بذراعه وكأنه يضمنى تحت جناحه مرددا فى حنو «ادخل يا بنى من البرد ادخل. تلاقيك ما أكلتش من الصبح»! وكأننى كنت أقوم بعمل جليل ألهانى عن الطعام وأنسانى الإحساس بالبرد.. أيام كان فى دنيانا بالليل برد!

لم تكن هناك لعبة من ألعاب أولاد الأحياء الشعبية لم أعرفها ولم ألعبها، مهما كانت تمزق الملابس أو تُمرِّغ فى التراب، ألعاب ركض وقفز واشتباك، بعضها بالغ العنف وجامح التحدى. لكن هذه اللعبة التى رأيت فيها الولد المقهور المقرفص، والولد القاهر الواقف على رأسه، وعصابة الأولاد المتلذذين بصفعه وركله ولكمه والضحك والتراقص من فرط سعادتهم بإيذائه.

هذه لعبة لم أعرفها فى كل موسوعة ألعاب طفولتى وطفولة غيرى، فما اسم هذه اللعبة الجديدة الغريبة التى يدافع عنها القاهر والمقهور والزبانية جميعا، يا ترى؟

سألت، فالتمت حولى عصابة الأولاد وزعيمهم، وظل الولد القاعد يبكى مقرفصًا على الأرض فى مكانه، وكان يومئ موافقا على ما يشرحه الأولاد لى من قواعد اللعبة. فهذه اسمها «القرد وصاحبه»! فالولد القاعد يمثل قردا، والولد الواقف يمثل صاحب القرد، والأولاد يُفترَض أنهم متنافسون فى اللعبة، وقواعد اللعبة تنص على أن صاحب القرد يقف على رأس قرده ليحميه، ويرد عنه ضربات المهاجمين، بل يتحين الفرصة ليقبض على واحد من المهاجمين ليصير قردا، بينما يتحرر القرد السابق، وإذا تكرر فشله فى حماية قرده، يأخذ هو مكان القرد وينضم المُحرَّر إلى حلقة المهاجمين، يتبادلون المواقع، ويستمر اللعب!

كانت لحظة هدنة موجزة انهمك فيها الأولاد فى شرح لعبتهم لى، وكان تعليقى أنها «لعبة وسخة. واسمها وسخ» وأنهم يلعبونها «بوساخة»، وإذا بهم يعودون للتصايح من حولى من جديد «لأ لأ. لعبة حلوة. لعبة حلوة» وانطلقوا يهتفون صارخين فى وجهى «سيبنا نلعب. سيبنا نلعب».

والمفزع أن الولد الذى أشبعوه ضربا، واعتصره بكاؤه، كان يوافقهم الرأى بهز رأسه دون أن يكف عن البكاء! واستمر يقاوم جذب يدى التى كانت تحاول رفعه عن الأرض، وعدت أسمع عبارته التى تقطعها حرقة بكائه «سيبنى. سيبنى أكمِّل. لا أخسر. أخسر اللعبة. الله. الله يخليك»!

أى لعبة يابنى؟! أى لعبة هذه التى وافقت أن تكون فيها قردا؟! وأن يكون لك فيها صاحب فوق رأسك؟! وليته حتى يحرسك كما تقتضى شروط اللعبة! بل يخدعك ويتواطأ مع مهاجميك فيستبيحك لهم «كنت أفكر فى كل ذلك داخلى، بينما تترجمه يدى التى ازدادت شِدَّة فى جذب الولد لإنهاضه عن الأرض وإفلاته من عصبة الأشرار من حوله، وكنت أردد وأنا أشده «قوم يابنى قوم. دا انت خسران فعلا. هوه فيه خسارة أنيل من كده»، لكنه رفض أن يستجيب لإلحاحى وظل يقاوم يدى بإصرار، بل يدفعها عنه!

ملأنى الغيظ من الولد «القرد» وغبائه، وكنت كارها لذلك الخبيث «صاحب القرد» وعصابة الملاعين المتواطئين معه أوالمتواطئ معهم، وفكرت من شدة غيظى أن أركل الولد القاعد لينهض، وأن أهيج تلطيما وشتما فى بقية هذه الزمرة من العيال الفَسَدة وربيبهم. لكن هذا لم يكن جائزا لشخص «كبير» تجاه أولاد صغار يلعبون «لعبة». وأتذكر أننى فى النهاية رفعت الولد بشدة وتركته يهوى قاعدا كما كان، فأثار سقوطه زوبعة من التراب حوله، كادت لدهشتى أن تخفيه!
مضيت يومها ذاهلا غير مصدقٍ فظاعة التشوُّه فى تلك اللعبة وتشوُّه كل المنخرطين فيها، وداخلنى خوف غامض من دلالات نشوء مثل هذه اللعبة، وما يمكن أن يعقبها؟!

لقد مضى أكثر من ربع قرن على شهودى لواقعة ظهور هذه اللعبة التى لم أكتب عنها من قبل، والتى كنت أتصور أننى بالكتابة عنها سأُفرغ شحنة الضيق التى لم تكف عن إثارتها داخلى كلما استحضرتها، لكن ذلك التفريغ النفسى لم يحدث! ربما لأننى لا أزال أتذكر لطبيب الألعاب النفسية النفسانى الأشهر «إيريك بيرن» مقولة لم تكف عن إثارة فزعى من دلالات مثل هذه اللعبة...

يقول إيريك بيرن: «يندرج تحليل الألعاب فى مدى تاريخى قد يصل عمقه إلى مائة سنة. ويتم إسقاطه فى مستقبل مدته الزمنية خمسون عاما على الأقل»؟!
يالطيف!!

محمد المخزنجي كاتب مصري كبير ، وطبيب أمراض نفسية ، ولد في المنصورة ، وعمل في مجلة العربي الكويتية ثم تفرغ ككاتب حر ، يُعتبر من أبرز كتاب القصة في العالم العربي ، وله إسهامات متفردة في الكتابة العلمية وأدب الرحلات والمقال الصحفي .