تلطيف ما يخيف - محمد المخزنجي - بوابة الشروق
الخميس 2 مايو 2024 8:39 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

تلطيف ما يخيف

نشر فى : الخميس 25 أكتوبر 2012 - 8:00 ص | آخر تحديث : الخميس 25 أكتوبر 2012 - 10:16 ص

أعرف أن ما أكتبه يوم الاثنين ستقرأونه يوم الخميس، فأتحير، لأن موضوع «المشروع النووى المصرى»، من ناحية، ليس مما يمكن تجاهل مُستجداته، خاصة إذا كانت مستفِزة بسطحية الترويج واللاشفافية، اللتين تكرران سيرة نظام يُفترض أننا تجاوزناه، ومن الناحية الأخرى، أرى أن الناس على مشارف العيد، فى حاجة لترطيب جفاف ولو بضعة أيام من أيامهم التى يتفاقم هدرها. ولم أجد ما يخرجنى من هذه الحيرة إلا الأدب، ليلمس الموضوع لمسا نديا، ويشير إلى شجون الأمر بفتون المشاعر. ووجدتنى أعود إلى ما كتبته أدبا عن كارثة تشرنوبل، التى عايشتها لحظة بلحظة، فاسمحوا لى أن أستعيد معكم مما احتواه كتابى «لحظات غرق جزيرة الحوت»، بضع لوحات قصصية، لعلها تقول فى الأمر شيئا، ولعلها تُرقِّق ما لا رِقَّة فيه. وعيد سعيد، أعاده الله علينا جميعا باليمن والبركات.

 

راحة

 

كل شىء فى كييف يستحم حتى تزول عنه ذرات الغبار المحملة بالإشعاع. كل شىء تُسلَّط عليه خراطيم المياه القوية ذات الرغوة الغامضة.. الشجر، واجهات المبانى، ورد الجنائن، عشب المدارج، الأرصفة، المركبات، الأسفلت. والبشر، ينبغى أن يستحموا فور رجوعهم إلى بيوتهم من الشوارع، ويبدلوا ملابسهم بأخرى مغسولة. حتى لو خرجوا وعادوا مائة مرة، مائة مرة ينبغى أن يستحموا ويغيروا ملابسهم. كل شىء فى كييف يستحم فى هذا الصيف بلا انقطاع، وتحمل البالوعات آلاف آلاف الأطنان من مياه الاستحمام.. إلى أين؟ إلى النهر.. إلى «الدنيبر» الفوار الفسيح، فيستحم سمك النهر فى الماء المثقل بالغبار المثقل بالإشعاع. ألهذا حظروا الصيد فى مياه الدنيبر؟ ولم تعد أسماك النهر الطازجة تُطرح فى الأسواق؟ لعله يستريح قليلا فى الماء المخيف.. سمك النهر.

 

قيام

 

فى المعتاد، عندما تصعد إلى الباص امرأة كهذه، يقوم من مكانه ويتركه لها شاب واحد. أما الآن، فمع صعودها يسارع بالقيام لإجلاسها ثلاثة، بل أربعة، بل خمسة.. خمسة رجال نهضوا فى وقت واحد لتجلس امرأة.. امرأة تحيط بها النظرات كاتمة كل ألوان الانفعال. امرأة تمتلك إمكانية الإجابة عن السؤال حول مصير البشر فى بقعة لفحها الإشعاع إلى هذا الحد. امرأة تحمل بشارة النجاة، أو إشارة حلول الكارثة فى أقصى مداها، فهى.. حامل!

 

قتل

 

ما الذى توحى به بالونة؟ طفل فرحان.. يوم عيد.. طقس احتفالى؟.. لكن هذه البالونة بدت شيئا آخر.. بالونة كبيرة منفلتة بخيطها. بالونة مهجورة من يد طفل أُخذ على عجل، أُخذ برعب لايفهمه. بالونة مكثت أياما طويلة هائمة على طريق تشيرنوبل.. لم تنفجر بفعل الشمس الحارة.. لم تطأها لسبب غير مفهوم أيٌ من إطارات وجنازير المركبات التى مكثت تدب بغير حصر ذاهبة إلى مركز الكارثة أو عائدة منه. لم يُمسِك بها سائق أو راكب لسبب أن النوافذ لم يكن مسموحا بفتحها فى هذه البقعة المثقلة بالإشعاع. بالونة غريبة صارت من معالم الطريق.. تتحرك بين المركبات، يحملها هواء الدينا فكأنها تترنح. بالونة صارت مؤلمة غير غاية الإيلام لكل من يراها، ومتأبية على الانفجار كأنها تصر على اعتصار القلوب المحزونة.. روح هائمة بعذاب يعذب من يراها.. عذاب، لعله كان المُبرِّر لأن يُجن أحدهم مرتين فى آن واحد، فيفتح نافذة السيارة، ويطلق على البالونة الرصاص!

 

قراءة

 

لكم صرت أفتقد إنسانية الأحذية مع نهاية الصيف!

 

إنسانية الأحذية؟ نعم، لم أفكر فى ذلك قط قبل تشيرنوبل. بعدها، ترامى أمامى عالمها المؤثر عندما توجَّب على الجميع خلع أحذيتهم خارج الأبواب اتقاء لنقل ما لملمته من أرض الشوارع المفتوحة من غبار مثقل بالإشعاع.

 

كنت أخرج إلى الردهة الطويلة فأوخذ بما تثيره من مشاعر تجمعات الأحذية خارج الأبواب. كل ما نعرفه عن غطرسة إنسان أو غروره أو عدوانيته أو حقده أو لطفه أو أدبه.. كل هذا يختفى عند الحذاء. يتجرد الحذاء تجرد الجوهر المؤثر للضعف الإنسانى الذى يتجلى فى جزء من الإنسان ننظر إليه منفصلا عما حوله..أذنا، أو خدا، أو أصبعا، أو قدما. ولكم قرأت فى تعابير الأحذية..

 

هذا الحذاء المدعوك ببؤس يخص «كولا» الجهم، وهذا المائل كزورق يغرق هو حذاء (المتفذلك) «الكساندر»، وهذا المعقود رباطه (بلعبكة) طفلية هو للعبقرى «مارسيل»، وهذا النسائى الهش لـ«نتاشا» السمينة، أما أحذية الأطفال فلكم تجرح القلب بوداعة النمنمة. لم أر حذاءً مستفزا ولا عدوانيا ولا شرير الطابع أبدا، على العكس دائما من مظاهر أصحابها، وكنت أختلق مبررات بقائى فى الردهة لأواصل هذه القراءة..

 

ما أبأس الحذاء الوحيد أمام الباب! هذا رجل وحيد، وهناك نساء وحيدات. وهنا امرأة بلا رجل مع طفلها الصغير. وهذه أسرة من ثلاثة أفراد. وهنا يجتمع على العشاء خمسة رجال جاءوا لزيارة صديقهم. وهنا امرأتان.. فيم تتحدثان فى هذا الوقت من المساء؟ والصيف يوغل. ويتقلص شيئا فشيئا عالم الاحذية.. ينحسر فيثير فى نفسى الوحشة، ما أغربها من وحشة!

 

فى البداية سافرت أحذية الأطفال إلى معسكرات التهجير بعيدا عن المنطقة المشعة. ثم سافرت أحذية الطلاب الأجانب إلى بلادهم البعيدة فى إجازة الصيف، وذهبت أحذية النساء الوحيدات والرجال الوحيدين إلى شواطئ البحر، ربما إلى شواطئ البحر. وتوالى رحيل الأحذية حتى لم يبق إلا حذائى وحذاء «أنا جريجورفنا «عاملة النظافة العجوز فى المسكن.. آه، ما أكثر حزن حذاء «آنا جريجورفنا» التى تنام وحدها فى غرفة المخزن!.. حذاء رجالى كالح ومتهالك، كبير وموحش مثل بيت قديم آيل للسقوط، يسكنه وحده عجوز ليس له فى الدنيا أحد.

 

الإجابة

 

اتجه كأنما بدافع غريزى لأشاهد فى سينما الكريشياتك فيلم «شابشنكا» التسجيلى عن تشيرنوبل. للمرة العشرين أشاهده. وأكاد أجزم أننى فى كل المرات مكثت ألاحظ مجىء المرأة العجوز التى يخالط عقلها شىء كأنه من جنون. دائما تصل فى اللحظة الأخيرة قبل إطفاء النور فى صالة العرض، ودائما تقتعد المكان الأوسط فى الصف الثالث من الأمام.

 

تأتى لقطة محاكمة عالم الهندسة النووية الشاب، فيتسع مجال انتباهى: شاب هو، فارع ووسيم. يقف مطرقا إلى جانب منصة تحاكمه فى قاعة تغص بالعاملين فى إنقاذ تشيرنوبل، جاءوا بملابسهم البيضاء وأزاحوا عن وجوههم قليلا أقنعة الوقاية من الغبار المشع، فى أمان المكان الذى تم تطهيره للتو. ويُلقى أحد المُحكِّمين بسؤال عن إنسان، شاب وعالم، ما أن وجد الحريق مشتعلا فى المحطة التى يعمل بها حتى سارع بالفرار. فرَّ إلى مسافة خمسمائة كيلو متر بعيدا عن مكان الحادث. ما رأيكم فى إنسان يأتى بمثل هذا التصرف؟

 

تدور الكاميرا ببطء على وجوه حضور الجلسة، ببطء وصمت لا يلبث حتى يتمزق من خارج الشاشة، من ظلمة الصالة، من وسط الصف الثالث فى الأمام. يرن صوت المرأة العجوز القوى مع ذلك: «اسكتينا»، ومعناها : «بهيمة»! تكررها : «بهيمة»، وتؤكد على ذلك من جديد : «نعم بهيمة». ثم تندفع كريح غاضبة خارجة من الظلمة.

 

أخيرا

 

فجأة أكتشف أن الباص الكهربائى الذى أجلس فيه يشق طريقه وسط عالم من المقابر، تنتأ شواهدها الداكنة عبر بياض الثلوج.. مقابر فى الأمام، ومقابر فى الخلف، ومقابر على الجانبين. إنها منطقة «بابيار»، مر الباص بها وأنا فيه مائة مرة من قبل وأكثر دون أن أنتبه إلى هذا الحداد الممتد فى طريقى، فأهبط مشدودا إلى هذا الموت الموحش وسط الثلوج..

 

بلاطات نائمة بطول النعوش التى دُفِنت فى الأرض، مصطفة يكسوها بياض الثلج الناصع، وتقوم عليها الشواهد.. لوحات من الرخام والجرانيت، داكنة كلها، منقوشة عليها صور الراحلين وكلمات الوصايا والوداع، وهنا وهناك تتناثر أكاليل زهور ذابلة وأخرى فى طريقها للذبول. وأنا أتحرك فى ساحة الموت الساجى وسط البياض، أفتش عن شاهد لواحد قضى فى الكارثة.

 

أعثر على شواهد ضحايا الحروب، وشواهد الموتى بلا حروب. كلمات أوصى بنقشها على قبورهم الراحلون، وكلمات أخرى.. من حبيبة تعاهد الراحل على الوفاء إلى الأبد، أو أم تذرف كلماتها الدموع على ابنها. وأجدُّ فى بحثى عن شاهد قبر لواحد من ضحايا تشيرنوبل وكأنه يخصنى.

 

إن عبارة واحدة لا تشير إلى ذكرى الكارثة، لكننى أخيرا أعثر على شاهد أُرجِّح بملابسات تاريخ الوفاة وعمر المتوفى ومهنته ومكان الإقامة أنه قضى إثر تشيرنوبل، وكلمة واحدة ينطق بها شاهده، محفورة بعمق فى دكنة الجرانيت الرمادى تقول : «باتشمو؟»، ومعناها: لماذا؟. وأحب أن أترجمها فى داخلى: «ليه؟ وعلشان إيه؟».

محمد المخزنجي كاتب مصري كبير ، وطبيب أمراض نفسية ، ولد في المنصورة ، وعمل في مجلة العربي الكويتية ثم تفرغ ككاتب حر ، يُعتبر من أبرز كتاب القصة في العالم العربي ، وله إسهامات متفردة في الكتابة العلمية وأدب الرحلات والمقال الصحفي .