شرايين الماء وصنابير الدم - محمد المخزنجي - بوابة الشروق
الجمعة 3 مايو 2024 7:24 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

شرايين الماء وصنابير الدم

نشر فى : الخميس 25 مارس 2010 - 9:12 ص | آخر تحديث : الخميس 25 مارس 2010 - 9:13 ص

فى قمة الأمريكتين التى انعقدت ربيع العام الماضى فى دولة «ترينداد وتوباجو»، التى تقع فى جنوب البحر الكاريبى قرب فنزويلا وتتكون من جزيرتين كبيرتين وأرخبيل من الجزر الصغيرة، صافح الرئيس الفنزويلى شافيز نظيره الأمريكى باراك أوباما وأهداه كتابا يُوصف بأنه «إنجيل المعذبين» فى القارة الأمريكية الجنوبية عنوانه «شرايين أمريكا اللاتينية المفتوحة»، للكاتب الذى كنت قرأت له كتاب «كرة القدم فى الظل والشمس» فوضعته على الفور فى القائمة القصيرة لكُتّابى المفضلين، إدواردو جوليانو، وهو كاتب من أورجواى، يكتب بطريقة فريدة تتوحد فيها روافد مواهبه المتعددة كباحث وصحفى وأديب، وقد اضطر للهرب من الحكم الديكتاتورى فى بلاده إلى الأرجنتين عام 1973 بعد نشر الكتاب نفسه الذى أهداه شافيز لأوباما فى بداية الفترة الرئاسية المتفائلة للأخير، ثم انتقل جوليانو إلى إسبانيا عام 1977 ولم يعد منها إلى بلاده إلاّ عام 1985. والكتاب يحكى بطريقة جوليانو الفريدة، تاريخ النهب الاستعمارى لقارته عبر خمسة قرون من الاجتياح الأوروبى والأمريكى لها بـ«البنادق والأوبئة والشركات عابرة القارات».

هذا الكاتب، سطع فى خاطرى بعد أن قرأت ما تناولته الصحافة عن خصخصة البنية الأساسية وجاء فيه أن لجنة الخطة والموازنة بمجلس الشعب «وافقت على مشروع قانون تنظيم مشاركة القطاع الخاص فى مشروعات البنية الأساسية والمرافق العامة».

ووفقا للمذكرة الإيضاحية التى أعدتها وزارة المالية فإن القانون يهدف إلى «الارتقاء» بمستوى الخدمات والمرافق العامة من خلال السماح للقطاع الخاص بالمشاركة فى إنشاء وصيانة هذه المرافق والبنية الأساسية فى مجالات التعليم والصحة والمياه والصرف الصحى والنقل وغيرها.

وينص القانون على ألا تقل فترة التعاقد مع القطاع الخاص عن 5 سنوات ولا تزيد على 30 عاما وألا تقل القيمة الإجمالية للمشروع محل التعاقد عن 100 مليون جنيه.

ومع أن غالبية النواب أبدوا موافقة مبدئية على القانون إلا أنهم أبدوا تخوفهم من أن تؤدى مشاركة القطاع الخاص فى مشاريع البنية الأساسية إلى زيادة أسعار الخدمات المقدمة للمواطن ومنها زيادة أسعار مياه الشرب والكهرباء والنقل والمواصلات، وهو ما نفاه وزير المالية يوسف بطرس غالى الذى حضر اجتماع اللجنة قائلا: «المستثمر أو القطاع الخاص لن تكون له علاقة بالمواطن. هو سيتعاقد معى لإنشاء مشروع وليس له علاقة بأسعار الخدمة، فأنا «قاصدا الحكومة ووزارة المالية» الذى أحدد سعر الخدمة، فأنا الوسيط بين المستثمر والمواطن».

وردا على ما أبداه بعض النواب من تخوفات من أن دخول القطاع الخاص يؤدى إلى فقدان سيطرة الحكومة على مرافق الدولة وبيع المرافق العامة للأجانب، قال غالى: «أنا لا أخاف من القطاع الخاص، خاصة إذا كانت استثماراته هنا فى البلد ومفيش مستثمر هيبنى محطة ويشيلها على ظهره ويهرب».

وأكَّد غالى أن المستثمر الأجنبى أو المحلى الذى سيدخل فى شراكة مع الحكومة للقيام بإنشاء وصيانة البنية الأساسية إذا تخلف عن تقديم الخدمة أو تعثر فى المشروع فإن القانون يسمح للحكومة بأن تستولى على المشروع وتديره بأموال المستثمر، إلا أنَّه شدَّد على أن البنوك التى حصل منها المستثمر على جزء من الأموال التى دخل بها المشروع لا يحق لها الحجز على المشروعات وأضاف: «مينفعش إذا تعثر المستثمر أن يقوم البنك بالحجز على محطة مياه تخدم 4 ملايين نسمة، ولكن الحكومة هى التى سوف تستولى على المشروع وتديره».

واعترف الوزير بأنَّ المستثمر يمكنه أن يشترى مرفقا عاما لتطويره وتتعاقد معه الحكومة على شراء الخدمة منه على أن ينتهى التعاقد بعد 30 عاما، ولفت إلى أن بعض مشاريع البنية الأساسية قد تمتد مدة التعاقد فيها إلى 45 سنة، حتى يتمكن المستثمر من استرداد أمواله ويجنى أرباح الخدمة.

وتدخل أحمد عز أمين تنظيم الحزب الوطنى ورئيس اللجنة معقبا: «خطوط السكة الحديد فى سويسرا تصل فترة تعاقدات إنشائها إلى 100 سنة».

وأبدى عز تفاؤله بهذا القانون، وأشار إلى أنه من المتوقع أن ترتفع معدلات النمو بمعدل درجتين مئويتين فى أول 18 شهر من تطبيق القانون، وأن القانون سيتيح للدولة والحكومة التفرغ للمشروعات الكبرى والمدن النائية».

كلام عجيب غريب عن سويسرا ونقطة ونقطتين على معدل النمو، ومستثمرين محليين وأجانب، لكن أوضح ما فيه هو أن الدولة تشرِّع لبيع قطاع الخدمات للمستثمرين، محليين وأجانب، فكأن هذا المخطط يفتل من ذقوننا حبالا يشنقنا بها، مرافق هى ملكنا بالفعل، تُباع كما بيعت المصانع بأبخس الأثمان، وبحيل جهنمية لمستثمرين حواة يدفعون من جيوبنا بضمان ممتلكاتنا ليصيروا بليونيرات فى غفلة من الزمن. لكن المسألة وصلت إلى حدود خطرة، ولعل أخطرها هو مرفق المياه الذى اشتعلت فواتيره بالفعل، فما بالنا عندما يصبح هذا المرفق من ممتلكات المستثمرين إياهم!

ولمناسبة المياه، أحب أن أورد إحدى مقطوعات جوليانو فى كتابه البديع «أفواه الزمن» الذى أهدانيه العزيز بلال فضل، فلم أكف عن اقتناء نسخة منه فى أى مكان أتواجد فيه، المقطوعة بعنوان «أسياد الماء»، وها أنا أوردها بتعديل بسيط جدا فى الصياغة، لهدف الإبانة، لا تعديل الترجمة، فالترجمة قام بها من لا تستطيع عندما تتعرف على تواضعه الجم وبساطته أن تصدق أنه هو العملاق «صالح علمانى» الذى قدم للغتنا العربية مكتبة كاملة من كنوز إبداع أمريكا اللاتينية والأدب الإسبانى. تقول المقطوعة:

«فى أواخر القرن العشرين، اندلعت حرب المياه فى كوتشامبا ببوليفيا، عندما عمدت شركة بكتل الأمريكية المستثمرة إلى مضاعفة التعريفة بين عشية وضحاها فانطلقت تجمعات السكان الأصليين من الوديان وحاصرت كوتشامبا، وانتفضت المدينة نفسها كذلك، وانتصبت المتاريس، وأُضرمت النار بفواتير الماء فى محرقة كبيرة وسط ساحة السلاح.

ردت عليهم حكومة بوليفيا بالرصاص، مثلما هو معهود، ومثلما هو معهود فُرضت حالة الطوارئ، وكان هناك قتلى ومعتقلون، ولكن الانتفاضة استمرت، ولا يمكن وقفها، يوما بعد يوم، وليلة بعد ليلة، طوال شهرين، إلى أن تمكن أهالى كوتشامبا، فى الهجمة الأخيرة، من كسر خصخصة الماء. واستعادوا القدرة على رى جسومهم ومزروعاتهم».

انتهت مقطوعة جوليانو، لكن موضوعها لم ينته فى هذا العالم الثالث عشر الذى انضممنا إليه ونواصل انحدارنا فيه، فها هو الموضوع ذاته يطل بغرته الغبراء علينا هنا، فى مصر التى تكاد فصولها الأربعة أن تُختزَل فى فصل واحد هو الصيف شديد التعطش للماء. فكأن من يستمعون لتعليمات سيدهم بنك «النكد» الدولى، لا يعون بمدى الرعب فى فتح صنابير الدم المحتملة جرّاء العبث اللامسئول بشرايين الماء. فهل هناك مخطط شيطانى يُنفِّذه هؤلاء، بوعى أو بلاوعى، لإهدار دم مصر والمصريين؟!  

محمد المخزنجي كاتب مصري كبير ، وطبيب أمراض نفسية ، ولد في المنصورة ، وعمل في مجلة العربي الكويتية ثم تفرغ ككاتب حر ، يُعتبر من أبرز كتاب القصة في العالم العربي ، وله إسهامات متفردة في الكتابة العلمية وأدب الرحلات والمقال الصحفي .