الحرب في فلسطين.. وفاتورتا الاقتصاد والمياه - مدحت نافع - بوابة الشروق
الخميس 9 مايو 2024 7:03 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الحرب في فلسطين.. وفاتورتا الاقتصاد والمياه

نشر فى : الإثنين 23 أكتوبر 2023 - 6:50 م | آخر تحديث : الإثنين 23 أكتوبر 2023 - 6:50 م
ما كاد العالم يلتقط أنفاسه من جائحة كوفيد ١٩ وتبعاتها الاقتصادية القاسية، حتى داهمته حرب أوكرانيا وما نتج عنها من ارتباك فى سلاسل الإمداد وموجات تضخمية متعددة الأسباب كانت محاولات احتوائها أشد قسوة منها.. حيث ارتفعت تكلفة الأموال فى كل الدول وأصبح الاستثمار عبئا لا يحتمل، وحوصرت الدول النامية والناشئة تحت وطأة الديون الأعلى تكلفة والأكثر ندرة.. كل ذلك فى سياق عالم مشتعل بالاحترار البيئى، والصراعات الإقليمية، والحروب التجارية.. غير أن إسرائيل لم تجد كل ما سبق كافيا لتكدير أجواء الكرة الأرضية، فأطلقت شرارة خطيرة لحرب إقليمية لا يعرف أحد مداها ولا تبعاتها المحتملة حتى اليوم، فى معرض رد شديد التطرف على عملية نوعية لحماس، كانت كاشفة لضعف تحصينات غلاف غزة وعدم جهوزية الجيش الإسرائيلى بأى صورة مناسبة.
الحرب الحديثة فى أى بقعة تلقى بظلالها على إمدادات وأسعار منتجات الطاقة المختلفة، التى تنتقل عدواها بالضرورة إلى أسعار سائر السلع والخدمات، من خلال رفع تكلفة النقل والتخزين والتدفئة والتبريد ورفع المياه والرى.. إلى غير ذلك مما لا تسلم منه سلعة أو خدمة واحدة من تضخم الأسعار.
كذلك تؤثر الحرب الدائرة، أو بالأحرى «العقاب الجماعى» الذى تمارسه قوات الاحتلال الإسرائيلى على قطاع غزة، وأخيرا على الضفة الغربية (ناهيك عن جبهتى سوريا وجنوب لبنان) ، على توقعات حركة التجارة والسياحة وتدفقات رءوس الأموال فى المنطقة كلها، خاصة مع ظهور بعض السيناريوهات المتشائمة للتصعيد، ودخول أطراف أخرى فى الصراع المحتدم.. مشروعات كبرى كانت تخطط لها دول المنطقة لن تكون سهلة التنفيذ فى ظل تلك المخاطر المتصاعدة، حال إصرار الجانب الإسرائيلى على التصعيد. مشروع نيوم مثلا، والذى يقع على مساحة 26500 كيلومتر مربع على ساحل البحر الأحمر، ويضم عددا من المناطق الصناعية واللوجيستية قيد التطوير، ومن المقرر الانتهاء منه فى عام 2025 وما أعدت له المملكة العربية السعودية من دراسات وتطلعات بشأنه، بات محفوفا بمخاطر كبيرة، ربما تفوق شهية أى مستثمر من القطاع الخاص، مهما كانت جنسيته.
• • •
الصراع العربى الإسرائيلى مر بمراحل مختلفة وأظن أن هذه المرحلة استثنائية؛ نتيجة لحرص العديد من الدول الكبرى وذات الثقل فى عملية السلام (وعلى رأسها الولايات المتحدة) على استدعاء لقطات من الماضى السحيق، تمتد إلى ما قبل نشأة إسرائيل نفسها والاعتراف بها، وتذهب إلى مقاربة مضللة مشوهة قوامها تشبيه المقاومة الفلسطينية بممارسات محرقة النازى! بل وهناك حالة غريبة من استدعاء النعرة الدينية لأرض المعركة، وكأن حركة «حماس» قد نفذت عمليتها كراهة فى «اليهود»، وتتبعا لمعتنقى تلك الديانة! والأمر لا علاقة له بالدين أو المذهب، بل هو نتيجة مباشرة لتجمد عملية السلام منذ قرابة ثلاثين عاما، هى الفترة الممتدة منذ توقيع اتفاقية أوسلو وحتى اليوم.
وهو أيضا نتيجة للممارسات الإسرائيلية الاستفزازية لمشاعر سكان غزة، والحصار المضروب عليهم منذ سنوات، وفقدان الأمل فى التوصل إلى حل عادل وشامل للقضية الفلسطينية يقوم على مبدأ الدولتين، عبر قيام دولة فلسطين على حدود 4 يونيو 1967 وعاصمتها القدس. المخاطر الناشئة عن تلك المقاربات الغربية التى تضع الدين فى جملة غير مفيدة فى الصراع العربى الإسرائيلى، الذى اختذل فيما وصف بعملية إرهابية قامت بها «حماس»، تدفع بالمنطقة كلها إلى أتون ملتهب من الصراعات المتجددة، وتهدد أى نشاط اقتصادى فيها.
فى الأيام الأولى من اندلاع المعارك على أراضى فلسطين، ارتفعت أسعار النفط إلى ما فوق 92 دولارا للبرميل (خام برنت) وذهبت التوقعات بالأسعار إلى ما فوق 100 دولار للبرميل. فيما سحبت إسرائيل رعاياها من عدد من الدول ذات الغالبية المسلمة، وتوقف (إلى أجل غير معلوم) إمداد الغاز الطبيعى من الأراضى المحتلة عبر مصر إلى أوروبا، حيث كان يتم إسالته فى إدكو ودمياط ونقله مسالا إلى دول أوروبا المتعطشة لسد فجوة نقص الغاز الروسى عبر أى بديل.
لا يمكن النظر إلى تداعيات الوضع المنفلت فى شرق وجنوب شرق البحر المتوسط دون النظر إلى بعض مسببات الاحتقان التاريخى، والمتعلقة بالصراع المائى، الذى كان وسيظل أحد أهم محركات حرب 1967، سيما على الجبهة السورية، وما اتصل بالسيطرة الإسرائيلية على كل من الضفة الغربية وغزة. النمط الحالى لتوزيع المياه بين الطرفين الإسرائيلى والفلسطينى يعكس توزيعا غير متماثل للسيطرة، ثم للاستخدام. فبينما يقل نصيب المواطن الفلسطينى عن 100 لتر من المياه يوميا للاستخدام المنزلى، يزيد نصيب «المواطن الإسرائيلى»، بمن فى ذلك المستوطنون، على ثلاثة أمثال هذا القدْر. تجدر الإشارة هنا إلى أن ما يزيد على 20% من الفلسطينيين غير موصلة بيوتهم بشبكات للمياه الصالحة للشرب، الأمر الذى يجعلهم أكثر اعتمادا على خزانات المياه الأغلى ثمنا، والتى تجعلهم يتحملون واحدة من أكبر فواتير المياه فى المنطقة.
السياسة الإسرائيلية المائية تدرك تراجع نصيب الفرد من مصادر المياه الطبيعية المتجددة، من 504 أمتار مكعبة عام 1967 إلى 98 مترا مكعبا فقط عام 2015، وهو العام الذى بلغ فيه إجمالى الطلب على المياه فى «إسرائيل» 2,2 مليار متر مكعب سنويا، بينما كان المتوسط السنوى للمياه التى تصب فى بحر الجليل، خلال السنوات العشر السابقة لهذا التاريخ، يقل قليلا عن 1,2 مليار متر مكعب.
• • •
هناك إذن فجوة كبيرة بين الطلب والمعروض من مصادر المياه الطبيعية، تصل إلى نحو مليار متر مكعب. وتمكنت «إسرائيل» من سد تلك الفجوة بصورة مستقرة ومستدامة عن طريق توفير المياه، وإعادة الاستخدام، وتحلية المياه بما يتجاوز مليار متر مكعب سنويا. لكن الحرب الدائرة اليوم والمرشحة للاتساع والاستمرار، سوف تؤثر بالتأكيد على الوضع البيئى، وتعمق من ندرة المياه، خاصة بالنسبة للجانب الفلسطينى المحروم من إقامة أى مشروعات للتعامل مع تلوث المياه فى الضفة الغربية أو أى محاولة لضبط والتحكم فى حصة المياه المحدودة بالفعل فى الضفة وقطاع غزة على السواء. كذلك ينتظر إسرائيل استهداف محتمل لمشروعات تحلية المياه وإعادة التدوير، التى كلفتها مليارات الدولارات من الاستثمارات، والتى يمثل تراجع طاقاتها أو توقفها عن العمل ولو جزئيا تهديدا مباشرا لنظرية الأمن الإسرائيلى، ولمشروع الاستيطان القائم على زيادة الرقعة الزراعية، وهى مدى المشروع الصهيونى للتمدد غير المشروع فى مزيد من الأراضى العربية، وجعلها صالحة للسكنى لأكبر عدد ممكن من المهاجرين اليهود.
لم تعد «إسرائيل» تعتمد، بصورة حصرية، على المياه الطبيعية المتجددة مصدرا للمياه. لكن مع تزايد أعداد السكان وارتفاع مستويات المعيشة، هناك طلب متزايد على المياه، يقابله تراجع فى المعروض من المياه الطبيعية المتجددة نتيجة لتغير المناخ، الأمر الذى قدر معه تراجع معدلات تساقط الأمطار بنسبة تتراوح بين 10 و15%، كل ثلاثة عقود.
يتوقع أن يصل حجم الطلب على المياه عام 2050 إلى نحو 3,5 مليار متر مكعب سنويا مع تراجع مصادر المياه الطبيعية المتجددة إلى ما دون 1,1 مليار متر مكعب سنويا، تاركة فجوة حجمها 2,4 مليار متر مكعب (أكثر من مثلى حجم الفجوة فى عام 2015). وبالتالى، فإن السلطات الإسرائيلية سوف تعمل على الاستمرار فى توفير المياه وإعادة استخدامها وتحليتها، على النحو الذى يسد تلك الفجوة. أما أصحاب الأرض من الشعب الفلسطينى فهم لا يصلون إلا إلى 20% من مصادر المياه المتاحة رغم زيادة معدلات النمو السكانى وتراجع نصيب الفرد من المياه بشكل مطلق.
مدحت نافع خبير الاقتصاد وأستاذ التمويل
التعليقات