طمْـس الألـوان - محمد المخزنجي - بوابة الشروق
الجمعة 3 مايو 2024 8:32 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

طمْـس الألـوان

نشر فى : الخميس 24 مايو 2012 - 8:00 ص | آخر تحديث : الخميس 24 مايو 2012 - 8:00 ص

هذا ما حدث فى بلد كان ولا يزال من أكثر بلدان الدنيا امتلاء بمقومات الغِنى والسعادة، وحوَّله بعض طامسى الألوان إلى أحد أفقر بلدان الدنيا وأكثرها تعاسة، وقد زرته وأبحرت فى أنهاره الفياضة، وعبرت غاباته البكر، واطَّلعتُ على شىء من فنونه الكامنة الغنية، وتعرفت على منابع ثرواته من أَحراج خشب الساج الثمين، والأحجار الكريمة، وشجر البخور الذى توزن خلاصاته بما يفوق ميزان الذهب، وتعجبت لبؤس أهله الذين يتضورون من جوع طويل، وشبه عرى، ويملأ الكثيرون منهم شوارعه الترابية العريضة المظللة بكثافة الأشجار الآسيوية الاستوائية، متسولين، أو شبه متسولين، بأطراف مبتورة، وأنوف مجدوعة، وعيون تم اقتلاعها بشظايا حرب أهلية مريرة، أو تحت تعذيب سلطوى أثيم.

 

فى العاصمة الكمبودية «بنوم بنه» توقفت بعد تطواف واسع فى بلد الخضرة والأنهار والياقوت والبخور ومنسوجات الحرير اليدوى زاهية الألوان، وبعد زيارتى لمتحف سجن قوى الأمن رقم 21 «تول سلنج»، ورؤية خِزانات الجماجم، والمشانق المعلقة فى جذوع نخيل جوز الهند، وغرف التعذيب القذرة الكابية، أنتبهت إلى اللون السائد فى هذا المسلخ الذى أداره «الخمير الحمر» لثلاثة أعوام ونصف حكموا فيها، من 1975 إلى 1979، فقضى ما يقارب المليون ونصف مليون إنسان نحبه تحت التعذيب أو فى معسكرات السخرة، وخلَّف هؤلاء الحمر من ورائهم بؤسا تلمست ركام بقاياه فى الفترة التى حللت فيها بهذا البلد، بعد أن حل به سلام حزين، وأعياه إنهاك يقارب الاحتضار.

 

كان اللون السائد فى سجن قوى الأمن «تول سلنج» هو نفسه الذى عرفته فى إطلالات على قبو التعذيب فى معتقل القلعة بمصر، ومركز الراقعى الذى أنشأه الغزو الصدامى فى الكويت، ونقطة الاعتقال النازى فى غابات جدانسك البولندية، لون صدأ الحديد ووَسَخ التراب، لا فرق بين بلد فى آسيا وآخر فى أفريقيا وثالث فى أوروبا، لكن المفارقة سطعت أمامى فى كمبوديا، نظرا لافتراق ذلك اللون البائس مع ألوان بلد تألقت حضارته التى ازدهرت منذ القرن الثامن ببهجة تعدد الألوان، فى الثياب، وفرش البيوت، وكل ما يسهل تبديله من زينات المحال والشوارع، ففى التقاليد الكمبودية لعِرق الخمير( KHMER (الذى يمثل 90% من سكان هذا البلد الريان الأخضر والبالغ تعدادهم عشرة ملايين إنسان، ترسَّخ مفهوم أن من يحترم تناسب الألوان مع الأيام تواتيه السعادة ويلاقى النجاح، حيث الأحمر للأحد، والأصفر للاثنين، والبنفسجى للثلاثاء، والأخضر صدأ النحاس للأربعاء، بينما الأخضر الزاهى للخميس، والأزرق الغامق للجمعة، أما السبت فيناسبه الكحلى. لكن عام 1975 هب بعاصفة شيطانية بشرية، ليطيح بكل هذا التغنى بالألوان، لصالح لون واحد كئيب هو: اللون الطينى!

 

ألوان حقيقية وأسطورية كانت تضج بها كمبوديا حتى ذلك اليوم الرمادى من عام 1975. ففى السابع عشر من أبريل من ذلك العام سقطت بنوم بنه فى يد الفصيل الأقوى من الشيوعيين الكمبوديين المسمى «الخمير الحمر». وقد كانوا «ماويين» يعلون من شان طبقة الفلاحين على نسق شيوعية ماوتسى تونج، ويؤمنون بأن كمبوديا تردت بسبب الاستعمار ولا سبيل إلى استعادتها لرفعتها إلا بالعودة إلى المجتمع الزراعى، وتحولت هذه الفكرة القابلة للنقاش إلى أحد أعجب وأعتم فترات المجازر والمذابح فى عمر الشعوب. فتحت قيادة شخصية غامضة تحمل اسما حركيا هو «بول بوت»، تم القضاء على كل الألوان غير اللون الطينى، بكل ما يعنيه هذا اللون حرفيا ورمزيا.

 

ففى غضون أيام تم تفريغ العاصمة من كل المتعلمين والفنانين والمثقفين، قُتل من قُتل، وسُجن من سُجن، ودُفع الباقون إلى العمل الإجبارى الشاق فى مزارع جماعية بشعة، حيث العمل من الفجر إلى الليل، والطعام وجبة واحدة، واللباس لا لون له إلا اللون الطينى.. فقد أُرغم الجميع على صبغ ملابسهم كلها بهذا اللون عن طريق تمريغها فى الطين ثم غليها مع لحاء الشجر، لتكتسب هذا اللون الكئيب الذى ساد كمبوديا كلها طوال فترة حكم الخمير الحمر التى امتدت حتى 7 يناير 1979 عندما غزت القوات الشيوعية الفيتنامية كمبوديا ودحرت قوات الشيوعى «بول بوت» التى انسحبت فلولها إلى منطقة قرب الحدود التايلاندية، وهناك ظلت تحت حماية القوات التايلاندية المدعومة أمريكيا، ومكثت تعتاش على تهريب الأحجار الكريمة وخشب البخور الكمبودى الثمين، حتى سقط بول بوت، وحاكمته جماعته من الخمير الحمر أنفسهم، ثم توافق كل فرقاء ذلك البلد البائس على السلام، فعاد التنوع اللونى إلى الظهور، وقد رأيت بدايات هذه العودة الحزينة المفعمة بالأمل.

 

الغريب العجيب المريب فى حكاية الخمير الحمر الشيوعيين جدا أنهم عندما دُحِروا وانحسروا، تحولوا إلى عصابات مقاتلة وعرضوا معتقداتهم المتطرفة لمن يشترى، فصاروا تحت رعاية تايلاند الملكية ومعها وكالة المخابرات المركزية الأمريكية وأيضا الصين وفيتنام الشيوعيتين ! وهذا ليس لغزا، فالمفرطون فى التشدد حتما يفرطون فى التهاون تبعا للظروف ويبيعون أنفسهم وبلادهم عند اللزوم لمن يشترى. وهكذا كل عبدة اللون الواحد، الذين تجنح ساديتهم المُقنَّعة إلى إكراه الناس على الانخراط فى نمط واحد على شاكلتهم، أو بالأحرى على الشاكلة التى تحافظ على مصالحهم ونفوذهم وزعاماتهم المَرَضية وأحلامهم فى التوسع والهيمنة، من زمن امبراطوريات الغزو الدموى الغابرة، إلى محارق العصور الوسطى الكاثولوكية، واجتياحات الكشوفات الجغرافية الأوربية للأمريكتين، ورعب الشيوعية الستالينية، وأنظمة الحزب الواحد والطاغية الأوحد، وحكومة طالبان والقاعدة فى أفغانستان، وجماعة بوكو حرام فى نيجيريا، ومثيلتها فى الصومال.

 

كانت مسألة العودة للاهتمام بالزراعة كرافعة نهوض أساسية فى كمبوديا فكرة لامعة وصحيحة، لأن من لا يمتلك غذاءه لا يمتلك حريته، ومن لا يمتلك حريته وغذاءه لا يمكن أن يصنع نهضة، ولا حتى تنمية تصون ما تيسر من الكرامة الوطنية والإنسانية، لكن هذه الفكرة اللامعة عندما تبرق فى عقل متعصب أو إقصائى أو أحادى النظرة، فإنه سيُطيِّنها كما طيَّنها الخمير الحمر طامسو كل الألوان لصالح لونهم الوحيد المعتم، لون صدأ الحديد ووسَخ التراب الذى لايقتصر مثوله على مراكز ومسالخ التعذيب والقتل ومعسكرات السخرة فقط، بل يكتنف أيضا كل مناورات وتحايلات ومحاولات الإقصاء والنبذ والتنميط التى يمارسها طيفٌ أنانىٌ تسلطى واحد ضد بقية أطياف أى أمة، وهو فى ذلك قصير النظر، لأنه لا يدرك أن قانون التنوع الحيوى (BIODIVERSITY) الحافظ لصحة وديمومة الحياة، ينطبق أيضا على التجمعات البشرية، حيث القضاء على مُختَلف الأنواع لصالح نوع أو لون واحد أيَّا كان أو يكون، سينتهى حتما إلى القضاء على هذا النوع أو اللون الوحيد ذاته.

محمد المخزنجي كاتب مصري كبير ، وطبيب أمراض نفسية ، ولد في المنصورة ، وعمل في مجلة العربي الكويتية ثم تفرغ ككاتب حر ، يُعتبر من أبرز كتاب القصة في العالم العربي ، وله إسهامات متفردة في الكتابة العلمية وأدب الرحلات والمقال الصحفي .