التضبيع النووى - محمد المخزنجي - بوابة الشروق
الأربعاء 8 مايو 2024 11:22 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

التضبيع النووى

نشر فى : الخميس 23 فبراير 2012 - 8:50 ص | آخر تحديث : الخميس 23 فبراير 2012 - 8:50 ص

مع تردُّد اسم «الضبعة» فى الأخبار مؤخرا، وجدت نفسى أتعقب «الضباع» فى كتاب «حياة الحيوان الكبرى» للشيخ كمال الدين الدميرى، ثم أتابعها فى مراجع علمية وأفلام تسجيلية حديثة، وواضح أننى فى خلفية مشهد تعقب الضباع مكثت مشغولا بموضوع المحطات النووية المزمع إقامتها فى موقع الضبعة، لأننى انتهيت من تعقب سيرة الضباع إلى اكتشاف «التضبيع»، لا فى حياة البرارى، بل فى موضوع المحطات النووية المراد لنا استيرادها.


نقل الدميرى عن الشائع فى زمانه أن الضباع تستبشر بالقتلى إذا أكلتهم فتهر بعضها على بعض ويكون هريرها ضحكا، كما تبدو عرجاء وهى ليست كذلك، لأن شبهة عرجها ناتجة عن زيادة رطوبة جانبها الأيمن على الأيسر، كما أنها مولعة بنهش القبور، ومتى رأت إنسانا نائما حفرت تحت رأسه وأخذت بحلقه لتقتله وتشرب من دمه، ثم تضحك!

 

معظم هذه الملاحظات التى ذكرها الدميرى صحيحة فى ظاهرها، لكن تفسيره لها ليس بهذه الصحة إذا ما عدنا إلى علم الحيوان الحديث، فعرج الضباع سببه أن قوادمها أطول من قوائمها ولهذا تبدو خطواتها مُتعتعة وكأنها تعرج، كما أنها من اللواحم الرمرامة أو «الكنَّاسة»، وارتشافها للدم صحيح أيضا، لأنها مجبولة على العيش فى المناطق شديدة الجفاف، ومن ثم تحصل على السوائل مما تأكل وتلعق، فهى لا تشرب! أما أنها تنتهز غفلة النائم لتحفر تحت رأسه وتأخذ بحلقه وتقتله وتشرب من دمه وتضحك! فلا، لأنها تشم رائحة الإنسان الحى ومن ثم تخافه، وحكاية الضحك لا تعدو كونها أحد الأصوات التى تجيد إطلاقها الضباع ومنها الهرير والعواء، وما يبدو أنه ضحك تطلقه يكون مخيفا بالفعل ويشبه القهقهات الأجشة لأشرار أفلام الرعب، لكنه فى سياقه الطبيعى يمثل الصوت الذى تنادى به الضباع أقرانها متى ما توافرت وليمة لا تعدو كونها بقايا فريسة صادتها والتهمت معظمها السباع الكبيرة ولم تترك منها غير بركة دم تلعقها ألسنة الضباع وعظام تطحنها فكوكها المعتبرة من أقوى فكوك البرية!

 

يقول شيخنا الدميرى عما تعنيه رؤية الضبع فى المنام، إنها تدل على كشف الأسرار، وربما دلت رؤية الذكر على عدوٍّ مُكايدٍ ظلوم، وقيل إن الضبع امرأة قبيحة المنظر دنيئة الأصل ساحرة عجوز، تضمر الخديعة! وبجمع هذه الفقرة مع فقرة الحفر تحت رأس النائم وهبش عنقه وشرب دمه والضحك، وفى ضوء ما أتابعه منذ معايشتى لكارثة تشيرنوبل، وجدت عند الدميرى ما يعادل رؤيتى لشرور محطات الطاقة النووية الانشطارية تحديدا، لأننى لست ضد المفاعلات النووية البحثية لإنتاج النظائر المشعة المهمة فى الطب والصناعة والزراعة، وبالطبع أقف مع المفاعلات التجريبية للطاقة النووية الاندماجية التى يعمل عليها العالم المتقدم بجد ودأب ومثابرة، بينما يغرينا هذا العالم بجيف مفاعلات الطاقة النووية الانشطارية التجارية التى باتت أسوأ سيرة من ساحرة قبيحة عجوز، ولا أرى فى المسألة كلها غير تضبيع نووى يحفر تحت رؤوسنا ونحن فى غفلة، ليقضم عنقنا ويشرب دمنا بالمعنى الاقتصادى والبيئى والأمنى، فكأننا حيال خديعة عدو ظلوم يراهن على غفلتنا، ويضحك!

 

قد يبدو رأيى متطرفا للبعض، وسأفترض معهم أن محطات الطاقة النووية الانشطارية ليست بهذا السوء وأنها مفيدة ومنقذة فى بعض وجوهها، لكن ما بدا منها من أخطار داهمة فى عوالم أكثر منا تقدما علميا وتقنيا، وما نمر به من فوضى أمنية ومأزق اقتصادى وهوجة سياسية، إضافة لأن أى مفاعل سنبنيه الآن لن يمنحنا طاقته إلا بعد سبعة أعوام، ومقابل خمسة مليارات دولار للمفاعل الواحد بينما نحن نكاد نتسول مليار دولار من أشقائنا وثلاثة مليارات ونصف من البنك الدولى، كل ذلك ينبغى أن يدفعنا، على الأقل، إلى إرجاء بحث موضوع محطات الطاقة النووية ولو لبضعة أشهر حتى تستقر بنا الأمور وتتضح الرؤية؟ وإلا ما سر هذا التعجل الذى يدفعنا إليه بعض النوويين فى وزارة الكهرباء وهيئة الطاقة النووية، خاصة من فريق معظمه من المتقاعدين، والمنتهية عقودهم مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية؟!

 

فى شروق الجمعة 27 يناير الماضى قرأت: الحكومة تعرض «البرنامج النووى» على «الشعب»، وفى تفاصيل الخبر: « قال مصدر حكومى رفيع أن الحكومة تستعد لتقديم ملف البرنامج النووى المصرى إلى مجلس الشعب خلال أسبوعين لاتخاذ قرار طرح المناقصة العالمية لإنشاء أول محطة نووية فى موقع الضبعة. وتهدف مصر لإنشاء أربع محطات نووية بحلول عام 2025 وأن يبدأ تشغيل أولى تلك المحطات عام 2019». قرأت الخبر لكننى لم أتصوره إلا بالونة اختبار لم يكف مشايعو المشروع النووى عن إطلاقها بين الحين والحين، وبإلحاح مستغرب على ما نعيشه من أوضاع غير ملائمة. ثم كانت المفاجأة أن الملف صار بالفعل مدار جلسة استماع عقدتها لجنة الصناعة والطاقة بمجلس الشعب!

 

ربما تصور المروجون للمشروع النووى أن ما حدث من اعتداء على موقع الضبعة سيتم تجييره لصالح مشروعهم، لكن الحقيقة أن الاعتداء وتوابعه كشفا عن «الخطيئة الأولى» فى موضوع الضبعة، التى تم تصوير موقعها كما لو كان أرضا بلا ناس عثر عليها «الحلم النووى» ليعمرها بأبنيته وناسه، لكن الحقيقة التى انكشفت تتمثل فى تضبيع سافر تم بمقتضاه الاستيلاء على أرض أناس كان يسكنونها ويزرعونها جيلا بعد جيل، جرى تشريدهم وهُدِمت بيوتهم ودُمِّرت آلاف أشجار التين والزيتون واللوز التى زرعوها، بل ردد أهالى الضبعة أن ما بقى من أشجارهم داخل أسوار الموقع كان محصولها يباع لصالح بعض الموظفين هناك، وهو أمر فى حاجة لتحقُّق وتحقيق فى جريمة تربُّح خسيس إذا ثبتت.

 

ويبقى أن الاستدلال على فساد أى مشروع بشرى يمكن بلوغه من إدراك مدى إفساده للبيئة ممثلة فى الحياة الفطرية، خاصة الغطاء النباتى، وقد كان فساد هوجة «تعمير» الساحل الشمالى بالمنتجعات المصيفية كامنا فى جريمة قتل إمكانات التنمية المستدامة لهذا الساحل والذى كان كفيلا بمنحنا مساحات هائلة من زراعة الحبوب على الأمطار المتساقطة شتاءً بغزارة كافية هناك، لكن منهَبة أراضى الدولة ووهبها للمحاسيب بالمجان أو مايشبه المجان، كانت مغارة على بابا والأربعين حرامى التى حصد منها فسدة النظام الساقط المليارات. وهى جريمة فاحشة فى أمة تستورد قمح خبزها وعلف حيوانها بشق الأنفس. وكان إغلاق هذا الساحل بغابة الخرسانة قاتلا لإمكانية زراعته كما فى ليبيا التى اكتفت من الحبوب والخُضر بزراعة ساحلها المماثل، أو بتكثير أشجار المانجروف الجاذبة للطيور والجامعة للأسماك كما فعلت السعودية التى نشرت مليون شجرة مانجروف فى مياه ساحلها على البحر الأحمر.

لقد كان قتل آلاف أشجار التين والزيتون واللوز فى الضبعة جريمة بيئية تُمثِّل الخطيئة الأولى المؤشرة على فساد مخطط المحطات النووية فى هذا المكان. وقد أثلج الصدر أن عالما جيولوجيا مرموقا وصادقا ومحترما هو الدكتور خالد عودة، قد رفض فى جلسة استماع لجنة الصناعة والطاقة إنشاء المفاعل النووى المصرى فى الضبعة «لعدم صلاحية التربة لذلك كونها تتكون من الحجر الجيرى الطفلى على السطح ثم الحجر الجيرى المرمركى الذى تشوبه الشقوق والفراغات التى تحتفظ بالمياه الجوفية وهو مايوضح عدم صلاحية التربة لبناء مشروع المحطة النووية عليها لأنها تُعتبر تربة هشة». ومن العجيب المعيب أن يناقض هذا الرأى العلمى المتخصص فى جيولوجيا طبقات الأرض أحد مروجى المشروع النووى الذى يتم تقديمه فى وسائل الإعلام بصفة «كبير مفتشى الوكالة الدولية للطاقة الذرية سابقا»، فيفتى فى الجيولوجيا ويزايد على عالمها الكبير مؤكدا أن «تربة موقع الضبعة ملائمة جدا لإنشاء المحطة»، هكذا ببساطة كما بساطة توفيق عكاشة رفيقه فى مظاهرات العباسية!

 

فى الخبر المنشور فى شروق الاثنين 20 فبراير هذا الأسبوع، لم يكن الدكتور عودة وحده هو الذى فقأ بالونة مروجى المشروع النووى، فقد قال الدكتور فاروق عبدالرحمن رئيس هيئة الأمان النووى «إن الهيئة لم تُعط حتى الآن ترخيصا لإنشاء محطة للطاقة النووية فى الضبعة لعدم استكمال التقارير المطلوبة»! وهنا ينبغى أن نتساءل عن الأساس الذى ظل مروجو المشروع النووى ينطلقون منه، وبكل ذلك الاندفاع، وهو أمر غريب ومريب، والأكثر غرابة واسترابة أن هذا الفريق ظل يمارس ترويجه مكتفيا بذكر محاسن إنشاء المحطات النووية دون ذكر لما هو أخطر ويتمثل فى دورة الوقود التى تبتدئ بتوافر الوقود النووى الذى طمأننا بعضهم أن «أستراليا» وعدت بتوفيره!

 

ثم إن فريق الترويج النووى هذا لم يتطرق إلى ماهو أخطر من مجرد الإنشاء والتشغيل وأفدح ثمناً، ويشمل معالجة النفايات النووية وتخزينها ثم عمليات الصيانة والإحلال الباهظة، وأخيرا عملية تفكيك المفاعل وتطهير موقعه بعد انتهاء عمره الافتراضى، وهذه كلها ينبغى أن تدخل فى حساب التكاليف الحقيقية التى تضاعف المُعلن عنه عدة مرات وتشكِّل عملية نهب اقتصادى وتخريب بيئى وخيانة لأجيال المستقبل إذا ما قورنت ببدائلها من وسائل الحصول على الطاقة من وسائل آمنة ومستدامة وغير خطرة كالطاقة الشمسية التى ينبغى النظر إليها فى أفق تطورها متسارع القفزات ومتسع الاستثمار عالميا وإقليميا بل حتى عربيا، بينما هناك من يريد اختطاف بلدنا المُنهَك رهينة لاحتكارات الصناعات النووية العالمية التى سربت «ويكيليكس» من أسرار ضغوطها ما يُقزع ويُفزع!

 

ليس أخيرا، أجدنى راغبا بشدة فى الاعتذار لحيوان الضبع، فهو فى النهاية كائن أساء إليه عدم الفهم البشرى الشائع، بينما يقوم بدور تنظيف بيئته وإخلائها من الجيف فيطهرها ويصون نقاءها، بينما الغطرسة البشرية النووية تصر على تلويث بيئتنا بنفايات قاتلة إشعاعيا لايزال العالم المتقدم يحار فى دفنها، وجيف كوارث نووية يصعب علينا احتواء أذاها.

محمد المخزنجي كاتب مصري كبير ، وطبيب أمراض نفسية ، ولد في المنصورة ، وعمل في مجلة العربي الكويتية ثم تفرغ ككاتب حر ، يُعتبر من أبرز كتاب القصة في العالم العربي ، وله إسهامات متفردة في الكتابة العلمية وأدب الرحلات والمقال الصحفي .