مصر التي استيقظت.. - علاء الأسواني - بوابة الشروق
الجمعة 17 مايو 2024 1:06 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

مصر التي استيقظت..

نشر فى : الثلاثاء 23 فبراير 2010 - 9:19 ص | آخر تحديث : الثلاثاء 23 فبراير 2010 - 9:19 ص

 بالرغم من تجاهل الحكومة المصرية رسميا لوصول محمد البرادعى إلى مصر.. فإنها، فى نفس الوقت، بعثت برسالة واضحة إلى المصريين. فقد اعتقلت وزارة الداخلية عددا من الشباب لمجرد أنهم دعوا المصريين إلى الخروج لاستقبال البرادعى..

كما أكدت أجهزة الأمن أنها لن تسمح أبدا بتجمهر المصريين من أجل استقبال البرادعى فى المطار، وأعلنت أنها أعدت 8 آلاف جندى من الأمن المركزى للتعامل مع هؤلاء المتجمهرين..

تم تسريب هذه التصريحات غير الرسمية ونشرتها بعض الصحف (المستقلة) فى الصفحة الأولى، بنفس الصيغة، صباح يوم وصول البرادعى إلى مصر. قرأت هذه الأخبار وأنا أستعد للذهاب إلى المطار فتأكد لى أنه فى ظل هذه الحملة من الترويع، من الطبيعى أن يحجم المصريون عن استقبال البرادعى.

صحيح أن استقبال أى شخص فى المطار لا يمكن أن يشكل جريمة، حتى بموجب قانون الطوارئ، الذى يحكم به الرئيس مبارك مصر منذ ثلاثين عاما.. ولكن منذ متى كانت الشرطة المصرية تحتاج إلى تهمة للقبض على من تريد..؟!.. إن المواطن المصرى يعرف جيدا مدى التنكيل الذى تمارسه أجهزة الأمن.

فى مناسبات سابقة كثيرة، لم يتورع الأمن عن ارتكاب أبشع الجرائم من أجل قمع المتظاهرين: ضرب واعتقال وإيذاء جنسى للمتظاهرات وتأجير بلطجية والاستعانة بمجرمين مسجلين ليسفكوا دم المعارضين، بينما رجال الأمن يتفرجون ولا يتدخلون..

كنت أعرف ذلك وقلت لنفسى صحيح أن المصريين يحبون البرادعى ويؤيدونه، لكن الصحيح أيضا أن الخوف طبيعة إنسانية يجب أن نتفهمها.. وطدت نفسى على ألا أحزن إذا رأيت عددا هزيلا من المستقبلين لكنى ما إن وصلت إلى المطار حتى فوجئت بما لم أتوقعه.

مئات من المصريين سرعان ما تحولوا إلى آلاف، جاءوا جميعا لاستقبال البرادعى.. لم يخافوا من إرهاب الحكومة ولا تهديدات الأمن. أرادوا أن يثبتوا للعالم كله، أنهم سيساندون محمد البرادعى وسيعملون معه من أجل انتزاع حقوقهم المهدرة.. إن الاستقبال الشعبى الحاشد الرائع الذى نظمه المصريون احتفالا بعودة محمد البرادعى إلى مصر.. يحمل أكثر من دلالة مهمة:

أولا: منذ اليوم لا يحق لأحد أن يتهم المصريين بالسلبية والإذعان للظلم والانسحاب من الشأن العام.. إلى آخر هذه الصيغ المستهلكة التى لم تعد فعلا تعبر عن الواقع المصرى..

إن آلاف المصريين الذى قهروا الخوف واحتشدوا فى المطار لاستقبال البرادعى.. ليسوا سياسيين محترفين، ومعظمهم لا ينتمون إلى الأحزاب.. إنهم مصريون عاديون تماما، مثل جيراننا فى المنزل وزملائنا فى العمل. وهم جاءوا من محافظات مختلفة ومن طبقات اجتماعية مختلفة، بعضهم جاء بسيارات فخمة وكثيرون جاءوا بالمواصلات العامة.

بينهم أساتذة الجامعة ومهنيون وطلبة وفلاحون وكتاب وفنانون وربات بيوت.. منهم المسلمون والأقباط.. بينهم نساء سافرات ومحجبات ومنتقبات. هؤلاء المصريون المختلفون فى كل شىء اتفقوا جميعا على التغيير. على العمل الجاد من أجل استعادة الحق والحرية.. إن الرأى العام المصرى تحول من مصطلح افتراضى إلى قوة شعبية حقيقية يتزايد تأثيرها كل يوم، تجلت فى أقوى صورها يوم استقبال البرادعى.

ثانيا: أهنئ الدكتور محمد البرادعى على ثقة المصريين، كما أدرك حجم المسئولية الملقاة على عاتقه.. إن آلاف المصريين الذين وقفوا طوال النهار لاستقباله، هم فى واقع الأمر مندوبون عن ملايين المصريين الذين يحبونه ويثقون به.. كنت واقفا وسط الحشد عندما اقتربت سيدة مسنة وطلبت أن تكلمنى على انفراد. انتحيت بها جانبا فسألتنى بصوت خافت:

ــ هل تعتقد أن الحكومة ممكن تعمل حاجة تؤذى الدكتور البرادعى..؟!»

وعندما طمأنتها بأن هذا أمر مستبعد.. تنهدت وقالت: ربنا يحفظه..

لقد أصبح محمد البرادعى بالنسبة لملايين المصريين رمز الأمل فى التغيير بكل معنى الكلمة..ولعل الهتاف الذى ارتفع كالهدير.. «آدى الجموع يا برادعى.. ما فيش رجوع يا برادعى..» يعكس بوضوح كيف يثق هؤلاء المصريون فى البرادعى وهم متأكدون، وأنا معهم، أنه لن يخذلهم أبدا..

ثالثا: الظاهرة المبهجة حقا فى هذا الاستقبال هو ذلك العمل العظيم، الذى قام به آلاف الشبان من الجنسين، معظمهم من طلبة الجامعات وشباب الخريجين.. هؤلاء يشكلون القوة الأساسية لدعم محمد البرادعى، وهم الجنود المجهولون فى تنظيم هذا الاستقبال التاريخى.

لقد أنشأوا مجموعات على الفيس بوك لدعم البرادعى، وصل عدد أعضاء بعضها إلى سبعين ألف عضو، كما أعدوا جيدا للاستقبال مستعملين شبكة اتصال واسعة وفعالة على الإنترنت، حيث يتمتع هؤلاء المدونون بمعرفة تقنية تجعل لهم السيادة المطلقة.

قبل الاستقبال بأيام جهزوا كل ما يلزم، وقاموا بتوزيعه على الناس: خرائط للمطار وتعليمات محددة عن كيفية الوصول بالمواصلات أو السيارات بل وأعدوا خطة طوارئ إذا منعهم الأمن من الدخول، وخصصوا خطا ساخنا يتصل به أى شخص يتم اعتقاله..

أسماء المنظمين لهذا الاستقبال يجب أن تسجل فى لائحة الشرف: الشاعر عبدالرحمن يوسف وهبة علوة وأحمد ماهر وعمرو على وباسم فتحى وناصر عبدالحميد وعبدالمنعم إمام.. وعشرات من زملائهم الذين قدموا بحق نموذجا رفيعا فى الشجاعة والعمل الوطنى المنظم الفعال.

رابعا: قررت أجهزة الأمن منذ البداية عدم التعرض للناس أولا لأن وسائل الإعلام العالمية كلها كانت موجودة فى المطار مما يجعل الاعتداء على مواطنين جاءوا لاستقبال شخصية محترمة ومعروفة دوليا مثل البرادعى، فضيحة كبرى لا يريدها النظام لنفسه..

والسبب الثانى أن أجهزة الأمن كانت على ثقة من أن المصريين سيخافون من التهديدات والاعتقالات، وبالتالى سيكون عدد الحضور هزيلا.. لم تتعرض أجهزة الأمن للمستقبلين، لكنهم عندما تزايدوا حتى وصلوا إلى عدة آلاف، بدأ الضباط فى مضايقة الداخلين إلى المطار فكانوا يمنعون كل من يحمل شعارا مؤيدا للبرادعى، وكل من يشكون فى أنه قادم لاستقباله.

وعندما هبطت طائرة البرادعى امتلأت الصالة عن آخرها بالمستقبلين الذين ظلوا يرددون الهتافات والأناشيد، لكن الأمن منع البرادعى من الخروج وأغلق الباب بحجة الحفاظ على سلامته.. والحق أن الأمن كان باستطاعته بسهولة حماية البرادعى، لكن منعه كان قرارا سياسيا بالأساس، لأن خروج البرادعى محوطا بهتاف الآلاف من أنصاره أمام وسائل الإعلام الغربية، كان أكثر مما يطيقه النظام أو يحتمله.

قام مسئولو الأمن بإخراج البرادعى من باب آخر بعيدا عن مستقبليه لكنه بعث إليهم برسالة عن طريق أخيه الدكتور على أكد فيها أنه سيأتى من أجل تحيتهم.. وظل الآلاف منتظرين حتى ظهرت سيارة البرادعى، ولقد رأى بنفسه مدى الحماس الصادق الذى لقيه به الناس.

.. لقد كان الجمعة الماضى يوما رائعا فى حياتى، أحسست خلاله بأنى أنتمى حقا إلى أمة عظيمة.. سأظل دائما أتذكر أجواء الصدق والحماسة التى عشتها. لن أنسى مشهد آلاف المحتشدين، وهم يهتفون «تحيا مصر» وينشدون «بلادى بلادى» فلا يتمالك بعضهم مشاعره ويبكى..

لن أنسى الذين كانوا يتناقشون بحماس فيما يجب على البرادعى أن يفعله بعد وصوله إلى مصر، كانوا يتكلمون بود وألفة وكأنهم أصدقاء مع أنهم يلتقون لأول مرة.. لن أنسى ذلك الرجل الذى حضر مع زوجته وطفلته الصغيرة الجميلة ذات الضفيرتين، التى حملها على كتفيه، وهى تمسك بصورة البرادعى..

لن أنسى الذين كانوا يوزعون المياه المعدنية والمشروبات المثلجة على الحاضرين.. لن أنسى السيدة المحجبة الوقورة، تلك الأم المصرية الطيبة، التى أحضرت معها عدة علب من التمر الفاخر.. فتحتها واحدة بعد الأخرى وراحت توزعها على الواقفين الذين لا تعرفهم. وعندما كان أحدهم يرفض شاكرا.. كانت تتطلع إليه وكأنها غاضبة ثم تبتسم، وتقول:

ــ لازم تأكل حاجة.. إنت واقف من الصبح وأكيد جعان.. والنبى تأخد من يدى.

هذه مصر التى استيقظت.

مصر التى لن يستطيع أحد بعد اليوم أن يستعبدها أو يهينها أو يقمعها...

.. الديمقراطية هى الحل.

علاء الأسواني طبيب أسنان وأديب مصري ، من أشهر أعماله رواية عمارة يعقوبيان التي حققت نجاحا مذهلا وترجمت إلى العديد من اللغات وتحولت إلى فيلم سينمائي ومسلسل تليفزيوني ، إضافة إلى شيكاجو ونيران صديقة ، وهو أول مصري يحصل على جائزة برونو كرايسكي التي فاز بها من قبله الزعيم الجنوب أفريقي نيلسون مانديلا ، كما أنه صاحب العديد من المساهمات الصحفية.
التعليقات