تطور نظام الدولة الوطنية - محمد محمود الإمام - بوابة الشروق
الخميس 18 أبريل 2024 2:27 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

تطور نظام الدولة الوطنية

نشر فى : الأحد 22 نوفمبر 2015 - 11:35 م | آخر تحديث : الأحد 22 نوفمبر 2015 - 11:35 م

فجرت ثورة 25 يناير قضية ضرورة إحداث تغيير جوهرى فى نظام الدولة التى تُخلص مصر من حالة التردى التى أصابتها بسبب الخلل الجوهرى فى نظام الدولة، بعد أن تعاقبت عليها تغيرات أعاقت مسار النظام الاشتراكى الذى استهدفت منه ثورة 23 يوليو 1952 إقامة مجتمع الكفاية والعدل.
وبدأ الحوار بمفاضلة بين ما يسمى دولة دينية ودولة علمانية أو مدنية. وسرعان ما تأكد انتفاء وجود ما يدعى دولة دينية، لأن الدين وبخاصة الإسلام لا يجوز الحط من شأنه بالمفاضلة بينه وبين المذاهب الوضعية، ولكونه أُنزل رحمة للعالمين كافة، بينما الدولة الوطنية تتحدد مواصفاتها وفق خصائص البيئة الإيكولوجية التى تحددها عوامل تاريخية وجغرافية، محلية وعالمية.
***
وعندما نجحت ثورة 30 يونيو فى رد الأمور إلى نصابها، تركز الحوار على مفاضلة بين خيارين: رأسمالى أو ما يطلق عليه ليبرالى قوامه الفرد، واشتراكى يلبى الأهداف التى حددتها الثورة ويتيح المشاركة فى تطوير الحضارة الإنسانية. وكشف الحوار عن تفاوت كبير، ليس فقط بين البديلين، بل وبين الصيغ المطروحة لكل منهما. وقد مهدنا إلى ذلك فى مقالنا السابق بإثارة قدرة النظم، رأسمالية أم اشتراكية على تجديد نفسها. ومعلوم أن النظام الرأسمالى بدأ تقليديا كلاسيكيا، ثم مر بمراحل كان من بينها الكينزية التى أجازت تدخل الدولة لتخليص الاقتصاد الوطنى، مما قد يتعرض له من أزمات تصيب النظام الرأسمالى، ثم حدث تراجع إلى صيغة وصفت بالليبرالية، تطورت إلى صيغة تقلص دور الدولة وتغلب اتباع سياسات مالية تراعى تصحيح نتائج تغليب معيار الكفاءة الاقتصادية بإعادة توزيع للدخل من أجل تحقيق ما يسمى «عدالة اجتماعية». وتلا ذلك ليبرالية محدثة توسعت فى الدعوة لانكماش نطاق مسئوليات الدولة، لحساب النظام المصرفى المتحكم فى السياسات النقدية وتوسع أسواق المال ورأس المال، وما تتداوله من أوراق مالية، ومشتقاتها التى تسببت فى أزمة يعانيها العالم منذ 2008.
ومنذ إيكال السيادة إلى الدولة الوطنية التى أنشئت بموجب معاهدة وستفاليا، 24/10/1648 لإنهاء الحروب الأوروبية مرت علاقاتها بالمنشآت الاقتصادية التى تولاها القطاع الخاص بثلاث مراحل، وفقا لتغير أحجام هذه المنشآت: الأولى كانت المنشأة صغيرة الحجم، وهو ما فرض عليها العمل فى منافسة تامة لا تسمح بحصول أصحاب الأعمال على أرباح استثنائية، الأمر الذى قيل أنه يصب فى مصلحة كل من المستهلك، الذى يحصل على منتجاتها بأقل سعر يحققه توازن بين العرض والطلب فى ظلها، والعمال بفتح المجال أمام تشغيلهم بأقصى معدل للأجور فى غيبة تلك الأرباح. وتركز دور الدولة فى توفير المواد الأولية، بما فى ذلك ما يلزم استيراده دون تحميله رسوما جمركية أو رسوم إنتاج، نظرا لإمكانية الحصول على موارد عامة بموجب ضرائب مباشرة على الدخول المتنامية للمنشآت والأفراد. ولكى تتمكن من استيراد خامات لا تتوفر محليا بسعر منخفض، قامت بعض الدول باستعمار دول أخرى ودفعتها إلى التخصص فى إنتاجها بدعوى تميزها النسبى فيها، بدءا بمنح إليزابيث الأولى ملكة إنجلترا فى 1600 امتيازا لشركة الهند الشرقية للمتاجرة مع دول شرق آسيا، واستغلتها كمدخل لاستعمارها. وهكذا ارتبطت الرأسمالية، منذ بداياتها المحدودة، بالاستعمار المباشر.
***
وبدأت المرحلة الثانية بحدوث نهضة زراعية فى بريطانيا فى منتصف القرن 18، ولدت إقبالا على استخدام آلات متطورة للتوسع فى الإنتاج. وساعد اكتشاف جيمس وات للبخار كمصدر للطاقة فى 1769 على إمكان صهر الحديد وإقامة الصناعات الثقيلة التى تنتج الآلات اللازمة لتشغيل منشآت صناعية أكبر حجما، ومن ثم أقل عددا، مما حد من المنافسة، أفضت إلى منافسة احتكارية، أو احتكار القلة. وزادت الحاجة لتوفير التمويل اللازم للإنفاق على عمليات الإنتاج، نظرا لطول الوقت الذى يستغرقه استكمال المنتجات وبيعها، فظهرت الحاجة إلى البنوك لتدبيره، وهو ما حقق لها أرباحا جعلتها تتجه لإقراض دول أخرى وتفاقمت إمكانيات الاستعمار، وعملت الدولة على اتباع سياسات للحد من ظاهرة الاحتكار فى داخلها، والتوسع فيها فى الخارج، وانطبق عليها اسم «النظام الرأسمالى الاستعمارى».
ثم انطلقت المرحلة الثالثة فى القرن التاسع عشر من الولايات المتحدة بقيام جون بيرمونت مورجان بتجميع عدة منشآت فى منشأة احتكارية ضخمة، اجتذبت أرباحها العالية موارد مالية من دول أوروبية. كما ساهم فى إنشاء طرق تربط الولايات ببعضها لتوسيع الأسواق، ولذلك يوصف بأنه «مرجن» الولايات المتحدة. وعندما باتت الظاهرة تهدد الاقتصاد الأمريكى جرى إصدار قانون يحد من مآخذ التكتلات والتوكيلات فى أوائل القرن العشرين. غير أن كبر حجم المنشآت الأمريكية المترتب على كبر اقتصاد الدولة ساعدها على بسط نفوذها عبر الحدود إلى أمريكا اللاتينية، وإنشاء فروع وروافد لها فيها تغذيها باحتياجاتها وتوفر لها أسواقا لمنتجاتها. وكان هذا بداية لظاهرة التبعية التى أوجدتها شركات عابرة للحدود خلال النصف الأول من القرن العشرين، ثم قادت مرحلة الاستعمار الجديد عقب الحرب العالمية الثانية، واتجهت إلى القطاع المالى، فتحكمت فى تمويل الأنشطة الاقتصادية فى أرجاء العالم، وساهمت فى التحول إلى النقودية خلال السبعينيات بحيث تطورت شبكة البنوك دولية النشاط إلى إمبراطوريات قائمة بذاتها، كشفت أزمة 2008 مخاطرها. وقد عانت مصر من سيطرة فروع البنوك الأجنبية، وقامت بتأميمها عندما لعبت دورا معاديا خلال العدوان الثلاثى. ورغم أن هيئة الأمم المتحدة حاولت التحكم فى أنشطة عابرات القوميات، إلا أنها تمكنت من تشديد قبضتها خاصة بعد إقامة منظمة التجارة العالمية فى 1994.
***
من جهة أخرى أدى دفع الولايات المتحدة لتنامى الثورة التكنولوجية، وقيام مجتمع المعلومات والاتصالات إلى تجاوز قاعدة وجوب تخصص المنشأة الإنتاجية فى مجال واحد لتتمكن إدارتها من إتقانه، إذ تتولى إدارة الشركة العابرة وضع خطة استراتيجية شاملة طويلة الأجل توجه بموجبها المنشآت التابعة لها والمنتشرة فى مواطن عديدة إلى إنتاج مكونات يجرى تجميعها فى فروع أخرى تقام بالقرب من أسواقها. وتجاوزت ميزانية العابرة فى كثير من الأحيان ميزانية دولة صغيرة الحجم. وهكذا تراجعت قدرات دولة مقر العابرة والدول التى تعمل فيها أمام قدراتها. وتتولى هذه الشركات اختيار العاملين فيها من أى جنسية من بين أشخاص تلقوا تعليمهم فى معاهد أجنبية أو بالمراسلة عبر شبكات الإنترنت، وتكليفهم بمهام خارج أوطانهم فضلا عن مواصلة تدريبهم، وتجزل لهم العطاء، ليتحولوا بولائهم لها. كما يُعهد إلى فنيين يعملون فى مواطن منخفضة الأجر بخدمات التعهيد outsourcing، وتشترى ابتكاراتهم بمبالغ ضئيلة وتحتكر استخدامها. وأضافت التجارة الإلكترونية إمكانية المستهلك العادى من اجتياز الحدود فضعفت قدرة الدولة على التحكم فى حدودها بالنسبة لانتقال الأفراد والسلع والخدمات، وهكذا أصبح الفرد العادى بمثابة شبكة متعددة الصفات، تعليما وتدريبا ولغة وثقافة واستهلاكا وعلاقات عمل وصداقات. والأخطر من هذا أن هذه الإمكانات ساعدت على اشتداد بأس عصابات الإرهاب وتجار السلاح والمخدرات والبشر.
وأصبحت المعرفة المتجددة هى العنصر الحاكم والمتحكم فى رأس المال، والمولد لفائض قيمة لابتكارات مستجدة، وليس عملا مختزنا فى أصول متراكمة من الماضى. ورغم أن المعسكر الاشتراكى الذى قاده الاتحاد السوفيتى فى تطبيق المنهج الماركسى اللينينى فاقت ابتكاراته التكنولوجية فى بعض الأحيان تلك التى فتحت آفاقها الدول الرأسمالية، فإنه حجبها عن باقى أنشطة الإنتاج المدنى. كما أن اقتصاره على التعاضد وغياب وحدة اقتصادية تقودها دولة موحدة حال دون تطويع صيغة الشركة العابرة رغم دعوة المنشآت الإنتاجية لإقامة علاقات مباشرة فيما بينها، إذ ظلت كل من الدول الأعضاء تتحكم فى العلاقات عبر الحدود بخطط تتولى البيروقراطيات الإدارية تنسيقها والإشراف على تنفيذها. ومن ثم عملت عبارة تفاعل «الأطروحة مع الأطروحة المضادة لتوليد توليفة» على إيقاف عجلة الماركسية، خاصة أنها حصرت نفسها فى النطاق الاقتصادى واعتبرته محددا للنظام الاجتماعى. ولم يعد يتسنى لها التجديد، بل وعليها إجراء تغيير جذرى، والبحث عن أطر اشتراكية مغايرة.

خبير فى التخطيط

اقتباس
أدى دفع الولايات المتحدة لتنامى الثورة التكنولوجية، وقيام مجتمع المعلومات والاتصالات إلى تجاوز قاعدة وجوب تخصص المنشأة الإنتاجية فى مجال واحد، لتتمكن إدارتها من إتقانه.

محمد محمود الإمام وزير التخطيط الأسبق
التعليقات