ابتزاز نووى - محمد المخزنجي - بوابة الشروق
الخميس 2 مايو 2024 7:59 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

ابتزاز نووى

نشر فى : الخميس 22 نوفمبر 2012 - 8:00 ص | آخر تحديث : الخميس 22 نوفمبر 2012 - 8:00 ص

صباح الأحد الماضى من هذا الأسبوع نشرت جريدة الجمهورية فى صفحتها الأولى عنوانا يقول: «من أجل حسم محطة الضبعة: النقابات النووية تطلب مقابلة الرئيس»، وتحت العنوان ورد ما يلى: «طالب اتحاد النقابات النووية الرئيس محمد مرسى والحكومة باتخاذ الاجراءات التنفيذية لتطوير مدينة الضبعة ومدها بالخدمات والاستثمارات من الآن وقبل إقامة المحطات النووية لتهيئة المواطنين وكإشارات تؤكد لهم أن المدينة ستشهد نهضة تنموية غير مسبوقة مع انطلاق البرنامج النووى كما قرر تأسيس منظمة مدنية بمشاركة أهالى الضبعة تكون أداة اتصال بين الأهالى والمسئولين للدفاع عن البرنامج النووى وشرح أبعاده المختلفة للمواطنين ومواجهة تشويه الحقائق التى يقوم بها أشخاص غير متخصصين».

 

لم ينته المنشور فى الجريدة عند هذا الحد، وسأُورد معظمه للرد على ما أَظهَره وما أَضمَره من مؤشرات تتجاوز حدود الدفاع عن وجهة نظر، فى قضية يختلف عليها العالم كله، إلى حالة أقل ما توصف به أنها ابتزاز واضح لمعارضى هذا المشروع، وقد سبق الابتزاز نوع ساذج من استدراج أهل المنطقة بإغراءات خدمية وتنموية هى من حقهم فى الظروف العادية، أما ربطها تعسفيا بالمشروع النووى المزمع إقامته، فيدخل فى شبهات الرشوة المهينة للراشى والمرتشى معا، أما الحديث عن «تشويه الحقائق التى يقوم بها أشخاص غير متخصصين»، فهو مؤشر خطير على الغرور المهنى والغطرسة العلمية التى هى من أخطر ما يصيب العاملين فى مشاريع عالية المخاطر كإدارة المحطات النووية ويرفع من نسبة ارتكاب الأخطاء الكارثية فى أمورها، وتأكيدا على صواب هذا الاستنتاج ما ورد من وصف لمعارضى المشروع بأنهم «غير متخصصين»، ففى ذلك استعلاء فارغ ينم عن مغالطة مفزعة، لأن موضوع إنشاء محطة كهرونووية، ليس وقفا على المتخصصين فى العلوم والتقنيات النووية وحدها، بل ينبغى أن يتشارك فى حسمه خبراء فى الجيولوجيا، والمناخ، والبيئة، والاقتصاد، والسياسة، والأمن القومى، ولا يكفى أن يكون الحكم فى هذا كله «الاستشارى العالمى» الذى تمثله شركة استرالية يعلم الله ما وراءها وما فيها، وقد حصلت على ما يقارب مليار جنيه لتفتى بأن «كل شىء تمام»، بينما لدينا علماء وخبراء محليون أبدوا رأيا مناقضا لذلك على الأقل فى شأن عدم صلاحية البنية الجيولوجية للأرض المزمع إقامة المفاعل عليها، وانعدام الأماكن الصالحة جيولوجيا لدفن النفايات النووية فيها، إضافة لخطورة الموقع القائم على رأس محور هبوب الرياح الشمالية الغربية التى فى حالة حدوث تسرب إشعاعى تعنى أن الكارثة لن تكون وقفا على الموقع، بل تمتد للقاهرة والوجه البحرى معظمه. هذا دون أن نتكلم عن الأبعاد الاقتصادية، والارتهان لإرادة مُورِّدى هذه التكنولوجيا الباهظة وربما مُزودى الوقود النووى والذين لا يمكن الوثوق فى نواياهم بينما إسرائيل أقرب منهم بالهوى والهوية. وهذا يثير قضية البعد المتعلق بالأمن القومى فى المشروع، فهو يوافر فرصة لضربة واحدة موجعة وربما قاتلة من عدو لا نأمن غدره، نكون فيها أشبه بمن يضع قنبلة وسط بيته مُخلَّع ومُشرَّع الأبواب والنوافذ ويكفى أن يصوب عليها قناص وغد لينسف البيت بما وضعه أهله فيه. فالقضية أكبر من أن يحسمها المتخصصون النوويون وحدهم. ثم إن معارضى المشروع، وأنا واحد منهم لا أعارضه فى الضبعة وحدها بل فى مصر كلها، ومثلى فى العالم ملايين لم يُتهَموا من النوويين فى بلادهم بمثل ما نُقِل عن بعض النوويين فى الخبر آنف الذكر، والذى سأورده بنصه لأوضح ملامح الابتزاز الفج فيه. ثم إن من يعارضون المشروع مثلى، وإن كانوا غير متخصصين فى الفيزياء والهندسة النووية، إلا أنهم يعتمدون فى معارضتهم على رؤى لمتخصصين رفيعى الشأن عالميا، وهو مما سأوالى نشره تباعا فى الفترة القادمة غير آبه بابتزاز ولا ترهيب ولا استقواء بالسلطة، لأن هذه المعارضة من حقى وحق غيرى، وهى وليدة قناعة وتجربة واطلاع معرفى على خبايا وأكاذيب وألاعيب احتكارات الصناعات النووية العالمية، التى أُبرئ متخصصينا النوويين منها، وإن كان لا ينبغى أن تغيب عن بال أمة مُستهدفة مثلنا.

 

قبل أن أورد بقية ما نُشر، لابد من الإجابة عن سؤال تنبغى الإجابة عليه: «هل نرمى المتخصصين فى العلوم والتقنيات النووية فى البحر إذا لم تقم المحطة أو المحطات النووية؟». والإجابة من واقع ما يحدث فى العالم حتى فى الدول التى تُقلِّص أو تُنهى محطاتها النووية، فالأبحاث النووية لم تتوقف، لا فى مجال توليد الطاقة، وهى بند واحد من معطيات البحث العلمى فى هذا المجال، ولا فى غيره من مساهمات نووية مهمة فى الطب التشخيصى والعلاجى، وفى تطوير المحاصيل الزراعية وراثيا ووقائيا، وفى الصناعة والصحة العامة وسلامة البيئة، ولا ينبغى أن نترك الخبرات النووية لدينا تتسرب أو تُحبَط أو تظل رهينة مشروع مستورد وخطير سيستفيد منه قلة وتُنحَّى بسببه كثرة من العاملين فى المجال النووى، فعملهم سيظل فائق الأهمية لمواكبة ما يجرى فى العالم من أبحاث سعيا لحلم طاقة نووية آمنه، هى الطاقة الاندماجية، وغير ذلك من معطيات هذا العلم التى يجب أن يُجزىَ أصحابه خير الجزاء دون ربط ذلك بمشروع الضبعة أو غيرها.

 

 أما بقية ما نشرته الجمهورية عن «اتحاد النقابات النووية»، مع شكى فى أن يكون ممثلا لكافة العاملين بالطاقة النووية فى مصر، وحتى لو كان ذلك كذلك، فإن ما ورد فيه يظل مُعبِّرا عن مزايدات الأصوات الأعلى فى مثل هذه الفعاليات التى يحركها منطق «التصدى للحملات التشويهية والإعلام المضاد للمشروع النووى» على حد ما جاء فى المنشور نقلا عن هذا الاتحاد، ومثال تلك المزايدات ما نُقِل عن «المنسق العام للَّجنة النقابية للعاملين بالضبعة» وجاء فيه: «هناك ما يُسمَّى «ألتراس الضبعة» والذى يعمل لصالح بعض رجال الأعمال وجهات خارجية وليس لها علاقة بأرض المشروع وأن نقابات الطاقة الذرية سوف تتصدى لهذه الفئة قضائيا وإبلاغ النائب العام عنهم بعد ما قاموا به من بث الذعر فى نفوس الناس دون سند علمى باستخدام سياسة التخويف والترهيب من البرنامج النووى فى الوقت الذى أكدت فيه جميع الدراسات العلمية أن هناك ضرورات ملحة للبرنامج النووى المصرى لتأمين احتياجات المستقبل!

 

 هكذا مارس المتحدث عين ما يتهم الناس به من تخويف وترهيب ليكفوا عن ابداء وجهة نظرهم التى هى حق من حقوق المواطنة لأناس يعيشون فى هذا البلد ولهم أبناء وأهل وأحباء يمكن أن يدفعوا ثم أخطاء الغطرسة العلمية والتقنية القاتلة فى مجال لم تتوقف فيه الكوارث التى لا قِبل لنا بها، وأبشع من ذلك هو الافتئات على الناس واتهام كل من يعارض هذا المشروع بأنه «يعمل لصالح رجال أعمال وجهات خارجية»، وهو كلام بات سخيفا ويتضمن جريمة تشويه متعمد وكذب بشع يستحق مُقاضاة قائله من كل من يمسَّهم هذا الكذب العدوانى، وأنا أعارض وسأعارض المقامرة النووية لأنها قناعتى وحقى وواجبى أيضا، دون أن أصادر حق غيرى فى إبداء ما يخالف، وإذا كان هذا التخرُّص الرخيص يمس مثلى، فأكتفى الآن بأن أقول لمدعيه: خسئت.

 

أما التعميم الذى لا يليق بأى تفكير علمى عن أن «جميع» الدراسات العلمية أكدت أن هناك ضرورات ملحة للبرنامج النووى المصرى لتأمين احتياجات المستقبل، فهو مما يستدعى ضرورة المناقشة، على الأقل فى إطار طرح البدائل الآمنة للحصول على الطاقة اللازمة للحاضر والمستقبل، من مصادر يتسابق من هم أغنى منا اقتصاديا وأكثر تقدما علميا وأحرص على قيم الانضباط المهنى فى اقتناص سوانح مصادرها التى نمتلك منها الكثير والوفير والأقل كلفة اقتصادية وبيئية وأمنية، والأكثر وقاية من الارتهان لإرادات خارجية هى فى موضوع المحطات الكهرونووية المستوردة «تسليم مفتاح» من الأمور المؤكدة، لا الكلام المُرسَل غطرسةً وتخرُّصا وابتزازا، ولن يخيف مثلى، لكنه يؤكد المخاوف من مغامرة نووية يتم الدفاع عنها بمثل هذه العقليات الاندفاعية العشوائية، وبهذا النزوع العدوانى.

 

  وللتذكِرة والملاحظة، فإن ما نشرته الجمهورية لهؤلاء النوويين صباح الأحد، كان يعنى أنه قيل يوم السبت، السبت الأسود الذى هرس فيه قطار أعمى وأبكم أتوبيسا أصم وأعمى، كان مُكدَّسا بضعف طاقته من الأطفال، يقوده سائق غافل عبر مزلقان متخلِّف تركه ملاحظة النائم أو شبه النائم مفتوحا للكارثة التى مزقت خمسين كيانا من أكبادنا التى تمشى على الأرض. وهى كارثة لم تكف عن التكرار. عم يتحدثون؟!!   

محمد المخزنجي كاتب مصري كبير ، وطبيب أمراض نفسية ، ولد في المنصورة ، وعمل في مجلة العربي الكويتية ثم تفرغ ككاتب حر ، يُعتبر من أبرز كتاب القصة في العالم العربي ، وله إسهامات متفردة في الكتابة العلمية وأدب الرحلات والمقال الصحفي .