وِصَاية - بسمة عبد العزيز - بوابة الشروق
الخميس 18 أبريل 2024 2:57 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

وِصَاية

نشر فى : الجمعة 22 مارس 2019 - 9:45 م | آخر تحديث : الجمعة 22 مارس 2019 - 9:45 م

في مَسعى البائعِ للتدليل على جودة الطعام؛ يصفه بأنه "وِصاية". كُشري وصاية، سندوتش وصاية، حتى أكواب الشاي وفناجين القهوة قد تلحق بها صفة الوصاية، ويشعر الزبون في وجودها بأنه نال الأفضل، وحقَّق انتصارًا لم يتحقق لغيره، رغم أن الطبقَ واحدٌ والكوبَ واحدٌ، والصَنعةُ لا تختلف إلا فيما ندر مِن حالات؛ يكون الثمنُ المَدفوع فيها شاملًا مُسوّغات الوصاية المُفترَضة، ومُلحقاتها.
***
لا تسرد المعاجمُ اللغوية مَعانيَ مُتباينةٍ لكلمة "وصاية"، وأغلب المُشتقات منها تقود إلى نتائجٍ مُتشابهة. إذا عهد واحد لآخر بأمر مِن الأمور؛ قيل إنه أَوْصَى به إليه، وأوكَله التصرُّف فيه، ويكون المُوصى إليه أو صاحب الوصاية هو الوَصِيّ، أما "الوَصِيَّةُ" فهي بطبيعة الحال جوهر الفعلِ وتفصيله، وفي أحوال الموت تحوي ما اتصل برغبات المُتوَفي وما سَجَّل أثناء حياته. يتَواصى الناسُ أي يوْصي بعضُهم بعضًا، ويستوصي الرجل بزميل أو بذي قربى خيرًا؛ أي يعهده بالرعاية ويشمله بالاهتمام.
***
شأنها شأن مُصطلحات وتعبيرات لا حصر لها؛ اكتسبت الكلمةُ ومُشتقاتُها بمرور الوقت جوانبَ غير مَحمودة، عرفنا على سبيل المثال؛ الوصاية أو "التوصية" التي تحتل مكانة رفيعة في الامتحان الشفاهي على وجه التحديد؛ حيث لا أدلة على كفاءة الإجابة ولا إثبات، وحيث يدخل الطالب مشفوعًا بتوصية أحد الكبار، فيحصد العلامة النهائية قبل أن يفتح فاه. هي للحق صورة من صور الرعاية والعناية وبذل الاهتمام؛ لكنها توقع في العادة ظلمًا مبينًا بمن لا شفاعة له ولا سند، وبمن هو أحق بالدرجة والمكانة. عادة ما نستهجن التوصية في عمل أو دراسة ما كانت لآخرين وأخريات، لكننا قد نرحب بها لأنفسنا في بعض المواقف، بل وربما نسعى إليها متلهفين؛ فما العمل والمعايير التي نعلمها علم اليقين، لا تُنصِف كثيرَ المُستحقّين؟
***
تكون الوصايةُ القانونية على القاصر، على مَن لم يبلغ مرحلة الرشد والتمييز واتخاذ القرار، سواء لصغر السن أو اعتلال العقل؛ فإن زالت العلة، أو بلغ المرء من سنوات العمر مبلغ النضج المطلوب، انقضت الوصاية عنه وباشر حقوقه ومسئولياته والتزم واجباته. أفيعقل والحال كهذا، أن تُوصَم الشعوبُ الرازحة تحت إمرة حكمٍ مُستبد، يفرض نفسه عنوة، ويدَّعي كمال المَعرفة والدراية؛ بأنها شعوبٌ قاصر، تستحق الوصاية، ولا تملك تحديد مصائرها؛ حاضرًا وأبدًا، ما امتد بها العمر وتوالت عليها الحقبُ والدهور؟ هي مُجادَلة سقيمةٌ ومُحاججةٌ مُتكررة، لا يملُّ ضعافُ النفوسِ والمنتفعون تكرارها، رغم أن الردَّ حاضر والدرس المُستفاد ماثلٌ في التاريخ؛ الغابر منه والحديث. خوضُ التجربة حتم؛ لا نُضج دونها ولا رشد إلا بها، ولا تحتاج معركة الحرية في أوجها؛ أوصياءً ناضجين مِمَن أثقلتهم الحكمة، وأقعدتهم حسابات المكسب والخسارة عن النهوض.
***
مِن الناس مَن يلجأون لكتابة ما يريدون أن يكون بعد أن يغيبهم الموتِ؛ كلماتٌ تقترب في الاحترام والحرص على التطبيق مِن موقع التقديس؛ لكنها قد تغدو أيضًا مثار مُشاحنات عصيبة ومَحلَّ طعنٍ وتشهير؛ إذ تعطي وتحرم، وتنهي وتأمر، وتوزع الأنصبة بين هذا وذاك، فتحفز ما توارى من ضيق، وتكشف ما أضمرت الصدور. على كُلّ؛ الوصيةُ حضور مُستمر وبقاءٌ، رغم صعود الروح.
***
في زمنٍ ولَّى؛ كانت عبارة "النبيّ وصَّى على سابع جار" مألوفة، كثيرة الورود على الألسنة. لا أظن أحدًا يتذكرها الآن أو يسمع بها؛ وإن تذكر وسمع ما اكترث؛ فقد انشغل كُلُّ جار بحاله، وانعدمت الصلات بينه وبين مَن يقطنون الطابق ذاته، بل ويعيشون معه بين جدران واحدة.
***
الجمع مِن الوصية؛ وصايا، ولا أشهر في التاريخ على ما أظن مِن وصايا موسى العشر. جاءت الوصايا بأوامر مُقتضبة، ونواهٍ صريحة؛ لا تقتل، لا تَزنِ، لا تسرق، لا تشهد شهادةَ زور؛ ولقد ثبت على مَرِّ العصور، وبما لا ريب فيه ولا تشكيك، أن التزامَ البديهياتِ أصعبُ كثيرًا مِن خرقها.
***
الوصاية الدولية؛ مصطلح سياسي وقانوني، ظهر في أربعينيات القرن الماضي بديلًا عن نظام الانتداب؛ بدعوى التمهيد لاستقلال البلدان المُستعمَرة. عنى المصطلح إخضاع تلك البلدان لإدارة أخرى، وفق مجموعة من الشروط، يشرف على تطبيقها مجلس الوصاية التابع للأمم المتحدة، وتظلّ بمقتضاها غير كاملة السيادة. اختفى هذا المصطلح بعد انتهاء وصاية الولايات المتحدة على إقليم جزر المحيط الهادئ في النصف الأول من التسعينيات، ولم يعد موجودًا إلا في كتب التاريخ.
***
منذ عقود خلت، كان الأمير عباس حلمي حفيد الخديوي عباس الثاني هو الوصي على عرش مصر، وحين قامت ثورة الثالث والعشرين من يوليو فألغت نظام الملكية؛ لم يعد لوصايته معنى. زال العرش وتلاشى لقب "الوصيّ"، وتصور الناس أنهم إلى عهد الندية والمساواة سائرون، ثم كان أن انقلبت الآية وانفرطت الأمنيات، وحّلَّ نوعٌ مِن الوصاية جديدٌ، وظهر أوصياءٌ أكثر إمعانًا في فرض الاهتمام والعناية والتحكُّم في الرعايا.
***

بسمة عبد العزيز طبيبة وكاتبة
التعليقات