الصحافة .. حين تسأل - أيمن الصياد - بوابة الشروق
الجمعة 19 أبريل 2024 1:33 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الصحافة .. حين تسأل

نشر فى : الأحد 21 أكتوبر 2018 - 12:50 ص | آخر تحديث : الأحد 21 أكتوبر 2018 - 2:37 م

ولما كانت الليلة الثامنة عشرة على اختفاء «المواطن»، ورغم كل بيانات النفي «الرسمية» السابقة لكل ما كانت قد كشفته الصحافة «الحرة» من تفاصيل، جاء الإعلان «رسميا» عن وفاته، لا يبتعد كثيرا عن تلك التفاصيل .. هذا باختصار ملخص ما حدث.

كسبت الصحافة «الحرة» إذن معركة المصداقية، ولم تكسبها صحافة البيانات «الرسمية» .. وهذا شيء من دروس ما حدث.

ــــــــــــــــــــــــ

 

بدا أن «البوست» قررت أن تخوض المعركة. لتبدأ موجة تسونامي إعلامية كفيلة بكشف كل ما تطمره رمال الصحراء؛ نفيا، أو أكاذيبا، أو صفقات مالية

ها قد أُعلنت الحقيقة، أو على الأقل بعضٌ منها (وإن لم يُقض الأمر بعد).

ها قد عرفنا في اليوم (الثامن عشر) الإجابة عن السؤال (الأول)، الذي ربما كان هناك من راهن على اختفائه كما اختفى صاحبه، قبل أن تكبر إعلاميا كرة الثلج المندفعة بسرعة العصر ليصبح من المستحيل الاختفاء منها.

أين جمال خاشقجي؟

السؤال «المنطقي»، أيا ما كان رأيك في الرجل، طرحته الواشنطن بوست عشية اختفاء كاتبها (الزائر)، ثم كان أن نجحت في أن تجعله العنوان الأكبر «المانشيت» في كل جريدة، والخبر الأول في كل نشرة أخبار. والسؤال الحاضر في كل مؤتمر صحفي.

لا مفر من الإجابة.. وهكذا كان.

وهكذا أثبتت الصحافة الحرة «أنها تستطيع».

فعلتها الواشنطن بوست (وإن لم يُقض الأمر بعد) كما فعلتها من قبل عندما أخرجت الرئيس الأمريكي من البيت الأبيض (١٩٧٤) وأعادت الجيش الأمريكي من فيتنام (١٩٧٣).

يقول لنا تاريخ الصحافة إن الجريدة الأمريكية (التي أصبحت عالمية)، لم تكتسب مصداقيتها ومكانتها تلك إلا بعد هاتين المعركتين مع السلطة: البيت الأبيض، ووزارة الدفاع.

هذه صحافة تعرف أن «كشف الحقيقة» هو مهمتها. وأن أداءها لمهمتها بحرية هو لصالح المواطن.. «والوطن».

لا يوجد دولة قوية بلا حكم رشيد، ولا يوجد حكم رشيد بلا شفافية ومحاسبة. ولا يوجد شفافية ومحاسبة بلا صحافة حرة، وحرية «حقيقية» للرأي والتعبير.

لهذا لا يحب المستبدون (والفاسدون) الصحافة «الحرة». لا غرابة في الأمر.

***

«هناك إنسان اختفى». كان هذا كل ما نعرف. وكان من الممكن للواقعة (رغم هولها) أن تمر كما مرت مئات الحوادث المماثلة. فالاختفاء «القسري»، والقتل «خارج القانون» كاد يكون خبرا عاديا. ولكن في واشنطن كانت هناك امرأة تعرف واجبها. وصحيفة تدرك أن على الصحافة الحرة ألا تدع مثل هذه الوقائع تمر مر الكرام.

«كارين عطية» Karen Attiah محررة الواشنطن بوست الشابة، والمسئولة عن كتابات خاشقجي، وبطل المعركة، الذي لم يعد مجهولا اعتبرت نفسها مشتركة في المسئولية عن ما جرى للصحفي العربي «طالما أن ما كتبه في الواشنطن بوست كان سببا فيما جرى له»، كما تقول في حديثها لنيويورك تايمز (١٨ أكتوبر)، ولذا قررت أن تكرس كل الوقت والجهد حتى لا تموت قضيته معه، وحتى لا يصبح مجرد صحفي آخر من الذين نخسرهم كل يوم في معركتنا من أجل الحقيقة.

حتى لا تموت قضيته معه، وحتى لا يصبح مجرد صحفي آخر من الذين نخسرهم كل يوم في معركتنا من أجل الحقيقة

كارين التي لم تكن تعرف قبل موت جمال بأن هناك كل هؤلاء المهجرين / المنفيين قسريا بسبب آرائهم التي لا تعجب حكوماتهم. فهمت أن ما جرى للصحفي العربي، أيا ما كانت تفاصيله هو في التفسير الأخير استهداف للصحافة، والصحفيين، وحرية التعبير.. ولذا «أردت أن أقول إن الصحفي هو إنسان في نهاية المطاف» ــ تقول كارين.

اختفى جمال. ورغم أنها كانت تعرف، مثلنا جميعا أن اختفاءه أبدي. إلا أن كارين؛ التي بدت طوباوية ومرهفة الحس حين بكت في مقطع الفيديو الشهير (بعكس الصورة النمطية للصحفيين) لم ترغب، أو بالأحرى لم تقدر أن «تقلب الصفحة» هكذا. كما قالت في حوارها. وأن تكتفي بالقول إن «هذا هو الشرق الأوسط» this is just the Middle East؛ إذ لا ينبغي في الغرب أن نكون هكذا «استعلائيين وأنانيين».

«لو كان هذا قد جرى لصحفي آخر من مواطنيه، لكنت حتما طلبت من جمال الكتابة عن ما جرى.. هذا إذن ما ينبغي علينا أن نقوم به الآن».

لا نملك غير «الصحافة الجيدة» وسيلة للبحث عن الصحفي الذي اختفى The

Only Tool We Have Is Good Journalism هكذا وصف فريد هيات Fred Hiatt مشرف صفحات الرأى في الواشنطن بوست «سلاح الصحفيين» في معركة الحقيقة. وهكذا بدا أن «البوست» قررت أن تخوض المعركة. لتبدأ موجة تسونامي إعلامية كفيلة بكشف كل ما تطمره رمال الصحراء؛ نفيا، أو أكاذيبا، أو صفقات مالية، لم يتردد ترامب من الإشارة إليها في كل مناسبة.

نجحت كارين وفريد، ومن ورائهما جريدة بحجم «الواشنطن بوست» أن يضعا القضية في الواجهة لأسبوعين كاملين (حتى كتابة هذه السطور). ظلت تداعيات اختفاء الصحفي العربي الخبر الأول بلا منازع في كل نشرات الأخبار. فكان أن اضطر حتى الذين كانوا يعتقدون أن بإمكانهم التعامل مع «الخبر»، بالطريقة ذاتها التي تعاملوا بها مع «الرجل»: إخفاءه، إلى التعاطي إعلاميا، مع الموضوع.

***

فعلتها الواشنطن بوست كما فعلتها من قبل عندما أخرجت ريتشارد نيكسون؛ الرئيس من البيت الأبيض وأعادت الجيش الأمريكي من فيتنام

على اختلاف توجهاتها ومشاربها السياسية، لم تتخلف صحيفة «عالمية» عن الاهتمام بما جرى للصحفي «العربي»، والضغط في سبيل كشف أسراره. فتلك قضية، رغم أبعادها السياسية الكبيرة هي إنسانية في المقام الأول: «هناك إنسان اختفى في وضح النهار. ولا أثر له رغم مرور أكثر من أسبوعين». على هذا اتفق الجميع، وهكذا كتب الجميع، بغض النظر عن التسريبات والتحليلات «والنفي الرسمي».

لا فارق بين الرصينتين؛ الواشنطن بوست والنيويوركر وبين فوكس نيوز صاحبة تصريحات ليندسي جراهام الحادة. ولا فارق بين تلك الأمريكية (يمينا ويسارا) وبين اللوموند والفيجارو الفرنسيتين، أو الإندبندنت والجارديان البريطانيتين، كما لا فارق بين افتتاحية صحيفة تصدر في اليابان «Asahi Shimbun» وأخرى تصدر في كندا (The Globe and Mail الكندية لم تكتف بتخصيص افتتاحيتها للموضوع بل أفردت صفحة كاملة لنشر مقال خاشقجي الأخير عن أوضاع الصحافة في عالمنا العربي).

كبرت لغة الثلج إذن. وفي بلاد تعرف قدر الصحافة، ورغم مصالح مالية متشابكة كان دونالد ترامب «السمسار» أكثر من عبر عنها، لم يستطع سياسيو العالم ومسئولوه، ومديرو شركاته الكبرى تجاهل كل هذا الضغط الإعلامي / الإنساني، فخرجت التصريحات والقرارات من الجميع. حتى فلاديمير بوتين، رغم جرائمه المشابهة اكتشف أن ليس من الحكمة، في هذا العالم «الإعلامي» الصغير أن يصمت. فخرج بتصريح حمل فيه الولايات المتحدة جزءا من المسئولية (!)

لن أتطرق هنا إلى الكيفية التي جرى بها تناول الواقعة / الجريمة لأسبوعين كاملين في إعلام منطقتنا تلك التي من المفترض أنها قرأت أن «للدم حرمة تتجاوز حرمة الكعبة». والتي من المفترض أن الضحية (المواطن السعودي / العربي) ينتمي إليها. فذلك مما نعرفه جميعا. ولم تكن واقعة جمال بأكثر من واقعة أخرى «كاشفة» للحال التي وصلت إليها صحافتنا، والتي كانت للمفارقة موضوعا للمقال «الأخير» الذي كتبه للواشنطن بوست قبل أن «يمشي».

***

The Only Tool We Have Is Good Journalism إجابة محرر الواشنطن بوست البسيطة عن سؤال «ماذا ستفعلون للبحث عن كاتبكم» تمثلت فيما رأيناه، وقرأناه من تغطيات، وتحقيقات، ومقالات رأي على مدى أسبوعين كاملين. تحاول الإجابة عن السؤال الرئيس: «أين اختفى جمال خاشقجي؟»، أو بالأحرى الضغط على من يملكون الإجابة، أو من يملكون أوراق ردود الفعل. كذلك فعلت الواشنطن بوست، والنيويورك تايمزوغيرها. وكذلك فعلت BBC عندما حصلت على معلومات «قالت» إنها تخص أحد من تقول إنه على صلة لَيس فقط بالحادثة، بل بما هو أكبر.

اتُهمت الصحافة «المستقلة» بالادعاء والكذب. ثم ثبت أن ما توصل إليه صحفيوها وما نشروه من «معلومات» عادوا فيها لأكثر من مصدر «موثوق»، كما تقضي القواعد المهنية لم يكن غير جهد صحفي ينبغى احترامه. بعد أن أكد البيان الرسمي السعودي «بيان منتصف الليل» ما سبق للصحافة «المستقلة» أن أوردته. ولا أظننا هنا بحاجة إلى تفصيل.

إلى جانب التحقيقات «الرسمية»، التي كان علينا انتظار نتائجها (وهذا ما التزمنا به في هذه الجريدة)، لم توفر الصحافة العالمية جهدا في القيام بتحقيقاتها «المستقلة»، التي لا يمكننا واقعيا الاستخفاف بها أو تجاهلها. فمثل تلك التحقيقات هي التي:

ــ «أثبتت» (أكرر: أثبتت) تورط الرئيس الأمريكي نيكسون في التجسس على معارضيه، فكان أن أطاحت به. (الواشنطن بوست: ١٩٧٢م ــ ١٩٧٤م).

ــ وهي التي فضحت جرائم الجيش الأمريكي في قرية «ماى لاي» الفيتنامية (نيويوركر: ١٩٧٢م)، ونشرت وثائق وزارة الدفاع الأمريكية السرية (واشنطن بوست، ونيويورك تايمز: ١٩٧١م)، فأوقفت الحرب.

ــ وهي التي نشرت صور مذابح صابرا وشاتيلا، التي قام بها الإسرائيليون وأعوانهم (١٩٨٢م).

ــ وهي التي فضحت تفاصيل المذبحة التي ارتكبها الجنرال ماكافري قائد الفرقة ٢٤ الأمريكية في العراق يوم ٢٠ مارس ١٩٩١ «بعد وقف إطلاق النار» في حرب الخليج (نيويوركر: ٢٠٠٠م).

ــ وهي التي عرفتنا بما يجرى في سجن أبوغريب من تعذيب سادي (نيويوركر: ٢٠٠٤م).

ــ وهي التي كشفت عن «وثائق بنما» التي تفضح التهرب الضريبي لكبار المسئولين في العالم كله (٢٠١٦م).

ــ وهي التي كشفت ملفات التعذيب «الموثقة» في سجون الأسد (نيويوركر: ٢٠١٦م).

وغير ذلك كثير.

***

لا نريد أن نكرر قصصا حكيناها ألف مرة عن الدور الذي تلعبه الصحافة «حينما تكون حرة مستقلة» في صناعة دول قوية، ومجتمعات حيوية تأخذ بأسباب المستقبل.

هل يجادل أحدكم في أن الولايات المتحدة الأمريكية دولة قوية؟ لا أتحدث هنا عن سلاحها وترسانتها النووية، بل عن جامعاتها الأولى في العالم، وشركاتها الأكبر، سواء العريقة منها (جنرال موتورز) أو التكنولوجية الحديثة (أبل، وجوجل، وأمازون وميكروسوفتالخ)، وأتحدث أيضا عن هوليوود، وعن عدد الأمريكيين الحاصلين على جائزة نوبلإلخ.

هل تريدون أن تعرفوا كيف جعلت حرية الرأي والتعبير (حرية الصحافة) من أمريكا (التي لم يتجاوز عمرها الـ ٢٤٢ عاما) دولة عظمى؟

شاهدوا فيلم The Post الذي يحكي قصة الواشنطن بوست (الجريدة) ومعركتها مع السلطة انتصارا لحق الناس في المعرفة. واقرأوا ما قاله رئيس التحرير Benjamin C. Bradlee يومها: «إذا كان بوسع السلطة أن تقول لنا ما يمكننا نشره، وما لا يمكننا نشره، فلا قيمة للصحافة؛ إذ إنها بذلك تفقد دورها ووظيفتها». واقرأوا الحكم الشهير للمحكمة العليا يومها، والذي يذكر بحقيقة أن الصحافة إنما وجدت «لخدمة المحكومين لا لخدمة الحاكم» In the First Amendment، the Founding Fathers gave the free press the protection it must have to fulfill its essential role in our democracy. The press was to serve the governed، not the governors

***

وبعد..

فللصحافة سلطة، لا يدركها أولئك الذين اعتادوا عليها «داجنة»، لا تكشف المستور، ولا تنطق بما يغضب أولي الأمر، والنفوذ، والسلطان «أصحاب الذهب والسيف». ولكن لا تنسوا أن عدم إدراك الشيء لا يعني عدم وجوده. فما أحدثه الزخم الإعلامي الذي ترتب على اختفاء خاشقجي، أثبت ذلك واضحا وجليا.

لا مكان في عالم اليوم لصحافة أنور خوجة، وسعيد الصحاف. ولا لخطباء معاوية وكل خليفة «متمكن». أحمد سعيد نفسه (رحمه الله) أدرك ذلك وأكده لى (بصدق نبيل يُحترم) قبل أن يرحل.

رحم الله جمال خاشقجي، الذي أحدث بغيابه «إعلاميا» ما ربما لم يحدثه في حياته.

ـــــــــــــــــــــــــــ

لمتابعة الكاتب:

twitter: @a_sayyad

Facebook: AymanAlSayyad.Page

ـــــــــــــــــــــــــــ

روابط ذات صلة:

عن «الإنسان» .. الذي اختفى

الرسالة .. The Post

ما بين الصحفى والسلطة .. ثمن الحرية

«الترامبيون» لا يحبون الصحافة

ـــــــــــــــــــــــــــ

الصور والرسوم:

١ - صفحة الرأي في الواشنطن بوست (١٢ أكتوبر ٢٠١٨)

٢ـ «كارين عطية» Karen Attiah محررة الرأي بالواشنطن بوست

٣ـ صحف

٤ـ تقرير سيمور هيرش عن فضائح التعذيب في سجن أبو غريب (النيويوركر ١٠ مايو ٢٠٠٤)

٥ـ أفيش فيلم The Post

أيمن الصياد  كاتب صحفى
التعليقات