مخرجات المؤتمرات بين العمومية والعمق - مدحت نافع - بوابة الشروق
الخميس 9 مايو 2024 1:17 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

مخرجات المؤتمرات بين العمومية والعمق

نشر فى : الإثنين 21 أغسطس 2023 - 8:35 م | آخر تحديث : الإثنين 21 أغسطس 2023 - 8:35 م
سألنى صديقى، الاقتصادى والبرلمانى السابق: لماذا جاءت توصيات المحور الاقتصادى للحوار الوطنى باهتة ومفتقرة إلى العمق والتخصص؟! كان ذلك تعقيبا على مخرج «أوّلى» صادر عن أمانة الحوار الوطنى، وتم تداوله إعلاميا بعد رفعها إلى السيد رئيس الجمهورية.
الرد على سؤال الصديق يتفرّع إلى نقاط ثلاث. أولا، ومن حيث المبدأ، فقد كان ومازال رأيى أن الحوار الوطنى هو منصة هامة لتناول الشأن السياسى والمجتمعى العام، ولبحث الخطوط العريضة الحاكمة لفلسفة الحكم والإدارة فى مصر. والملف الاقتصادى على الرغم من تداخله مع شتى الملفات، واتصاله المباشر بأوجاع المواطن العادى والمختص، غير أنه لا يصلح للتداول فى مجالس الحوار المفتوح، ولا يليق به أن يبسط على مائدة الرأى العام، إلا ما يتعلّق برءوس أقلام وعناوين. فالاقتصاد يناقش فى المؤتمرات المتخصصة مثل المؤتمر الاقتصادى الذى عقد برعاية رئاسية، أو ورش العمل التى يدعو إليها معهد التخطيط القومى، ومركز المعلومات بمجلس الوزراء، أو بنوك ومراكز الأفكار الأخرى. القرارات الاقتصادية لا تحب الصخب، ولا تنتعش فى مناخ شعبوى، يخاطب الجماهير بما يدغدغ مشاعرها، ولا تثمر إلا فى تربة من الحقائق الصادمة (فى الغالب) والمؤلمة (أحيانا).
المكاشفة أساس هام لمفتتح أى حوار خاص بالشأن الاقتصادى، والإصلاح المستدام لا يؤسس إلا على أرض صلبة قوامها الشفافية والإفصاح. وعلى الرغم من كل ما سبق فقد حرصت على تلبية الدعوات التى وردتنى للمشاركة فى اجتماعات المحور الاقتصادى، الخاصة بالاستثمار الأجنبى والاستثمار المحلى وأزمات الدين وعجز الموازنة العامة.. ولم يكن رأيى المسبق فى جدوى الحوار الوطنى الاقتصادى مانعا لى عن الحضور والمساهمة بما رأيت، إذ إن ما لا يدرك كله لا يترك كله، وربما أنبت الحوار نفسه مشروعا جديدا لتناول الملفات الاقتصادية فى بيئته النخبوية المناسبة، ومن خلال أدواته التى لا تشترط الديمقراطية بمفهومها التقليدى.
• • •
النقطة الثانية التى أفترض أنها تفسح مجالا للرد المنطقى على سؤال الصديق، هى ما يمكن أن نسميه «فخ التوصيات»، تلك التى نختتم بها أوراق السياسات، وجلسات المؤتمرات والمنتديات، وورش العمل... التوصيات الصادرة عن حوارات مكثّفة عادة ما تتسم بالعمومية والسطحية وأحيانا التنافر! فكلما اتسع المجال لاستيعاب مختلف الآراء المشاركة فى الحوار، كان الوصول إلى قاعدة مشتركة لمساهمات الحضور أمرا شديد الصعوبة. ولأن لكل مشارك فى الحوار الوطنى (باستثناء منصة إدارة الحوار) نافذة زمنية شديدة الضيق (أربع دقائق فقط للحديث) فإن العمومية والسطحية تصيبان مساهمات الأفراد منذ بداية بسطها للحضور، وقبل قيام الأمانة الفنية بمعالجتها بأية صورة. أى أن المشارك نفسه يساهم فى جعل مشاركته لا تعدو أن تكون محض عناوين ورءوس موضوعات، وبعد أن يتدرب على كلمته مرارا، سيجد أنه من المناسب أن يحذف أهم ما فيها (وهو التفاصيل والإضافات الفكرية العميقة) كونها تلتهم زمن الكلمة، ولا تترك لصاحبها فرصة للتطرّق إلى مختلف الأبعاد المطروحة لكل محور.
فى المرحلة التالية للإنصات إلى كلمات الحضور، يتم تحرير المشاركات فى صورة ورقة أو مخرج جامع. وقد يتم تطعيم ذلك المخرج بأوراق بحثية، قام المتحدثون بإعدادها مسبقا وتقديمها للأمانة الفنية للحوار، على الرغم من ضيق الوقت الممنوح لهم منذ تاريخ الدعوة للحضور وحتى موعد عقد الجلسات، وهو فى الغالب أقل من 24 ساعة (فى المشاركات الثلاث التى شاركت بها على الأقل). هذا المخرج الجامع يتحوّل فجأة إلى مزيج غير متجانس من الأفكار ذات الانتماء الاشتراكى والنيوليبرالى والكينزى!.. كما يتعين على المحررين ــ التزاما بمبدأ الحيدة ــ أن يضمّنوا الورقة مختلف الآراء، فتجد مثلا توصية بإلغاء وزارة ما، وتوصية أخرى بتوسيع نطاق وصلاحيات هذه الوزارة!. وعلى متلقى تلك التوصيات أن يوازن بينها، على غير هدى ودون معرفة بالأوزان المرجّحة لهذا الرأى أو ذاك، والتى تنبع فى الغالب من كون صاحب المقترح مختصا وممسكا بناصية موضوع النقاش، أم أنه خلاف ذلك.
أما إذا تنازل المحررون للمخرَج الجامع عن حيدتهم، وركّزوا على مقترحات محددة دون غيرها، مع استبعاد التنافر بين التوصيات المختلفة، فيثور عندها مشكلة أخرى، تتمثّل فى المبادئ والمعايير التى تأسس عليها ذلك الاستبعاد. وربما تسبب ذلك فى أزمة لا يريدها أبدا رعاة الحوار، مدارها استشعار البعض بالإقصاء والإهمال لمقترحاتهم ومشاركتهم فى الحوار الوطنى.
المشكلة السابقة ليست مرتبطة بالحوار الوطنى خاصة، ولا بمخرجاته النهائية أو المرحلية، لكنها مشكلة مرتبطة بمعظم المخرجات العلمية لأى تجمّع فكرى، حتى وإن اقتصر على النخبة والمتخصصين. من هنا كانت أهمية تشكيل مجموعات بحثية شديدة المهارة والتنوّع والخبرة، للتعامل مع فوضى الزخم الناشئ عن اختلاف المساهمات الفكرية للأفراد والمؤسسات، المشاركة بشكل عام. لذا فإن نجاح المؤتمرات المتخصصة يتوقف إلى حد بعيد على إصدار أوراق متنوّعة ونسبتها إلى أصحابها، وفق مبادئ موضوعية وشكلية لا يجوز للمشاركين الخروج عليها. تلك الأوراق يتعين مراقبة آلياتها التطبيقية، ووضع ضوابط لمتابعة ذلك التطبيق، ثم إعداد تقارير متابعة تصلح للعرض والمناقشة فى جولات تالية للنقاش.
وعلى الرغم من تلافى المؤتمر الاقتصادى المنعقد فى 23 ــ 25 أكتوبر من العام 2022 للنقطة الأولى فإن التوصيات التى خرجت فى نهاية اليوم الثالث للمؤتمر اتسمت بالعمومية والسطحية، إلى الحد الذى جعل السيد رئيس الجمهورية يصرّح بأن طلبة الفرقة الأولى كلية الاقتصاد والعلوم السياسية يمكنهم إعداد تلك التوصيات. وقد اتفقت مع السيد الرئيس فى هذا الطرح، خاصة أن التوصيات الصادرة عن المؤتمر لم تختمر فى وعائها المناسب، الذى لم يكن لينتج شيئا يذكر قبل مضى سويعات على انتهاء آخر جلسات المؤتمر. بل إن ذلك الوعاء ربما كان من المناسب أن يظل منعقدا فى صورة ورش عمل متخصصة، لأسابيع لاحقة على ختام المؤتمر قبل صدور أية توصيات، وهذا ما تناولته فى مقال فى حينه، ورأيت أن مجلس الوزراء قد تداركه نسبيا من خلال لجان وجلسات متخصصة، احتضنها فى وقت لاحق.
• • •
النقطة الثالثة للرد على صديقى، المستاء آنفا من سطحية المخرج الاقتصادى لجلسات الحوار الوطنى، هو ما انتبه إليه الصديق نفسه بعد التحرّى، من كون فعاليات الحوار الوطنى لم تنته بعد، وأن العمل الحقيقى للمحور الاقتصادى على وجه الخصوص سيكون من خلال ورش العمل التى بدأت فى الانعقاد بالفعل بمقر الأكاديمية الوطنية للتدريب. لكننى أتمنى ألا تكون جلسات تلك الورش مجرّد نسخة مصغّرة من جلسات الحوار نفسه، وأن تؤسس على خلفية أوراق عمل يعرضها أصحابها بعد تحكيمها من هيئة علمية متخصصة، وتكون مجالا خصبا لحوار علمى وعملى لا مكان فيه لغير الاقتصاديين، إلا على سبيل الإنصات والمشاركة الهامشية لترشيد الأفكار من الناحية القانونية والتشريعية والسياسية، كلما لزم الأمر.
• • •
يمكن إذن للحوار الوطنى أن يخبرنا أى شكل للاقتصاد نريد، خلال الفترة القادمة، وأى أولويات اقتصادية يجب أن نعمل فى ضوئها، وأى فلسفة اقتصادية تحكم عمل المؤسسات والهيئات.. لكنه لن يخبرنا بالحلول المجرّبة والتنبؤات العلمية، والنماذج القابلة للتطبيق. لن يخبرنا بروشتة الخروج التفصيلية من أزمات الفقر والديون والتضخم، ولا بأدوات إدارة المخاطر التى يتعين على الحكومة اتباعها لدى التعامل مع مختلف التحديات الاقتصادية الدولية والإقليمية والمحلية. الحوار الوطنى حالة جيدة للحراك السياسى والمجتمعى. وتنوير مطلوب للمجتمع بأهمية المحور الاقتصادى، الذى ينبغى على الدولة أن تديره بمشاركة فاعلة للاقتصاديين من أهل الاختصاص والخبرة والتميّز.
مدحت نافع خبير الاقتصاد وأستاذ التمويل
التعليقات