تتر مسلسل بوابة الحلواني: اللي بنى مصر - ياسر علوي - بوابة الشروق
الجمعة 19 أبريل 2024 1:25 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

تتر مسلسل بوابة الحلواني: اللي بنى مصر

نشر فى : الجمعة 21 مارس 2014 - 10:55 ص | آخر تحديث : الخميس 10 أبريل 2014 - 6:43 م

-1-

أقدم لكم اليوم آخر ما لحن العبقري بليغ حمدي، وهو التتر المبهر لمسلسل "بوابة الحلواني" (1992)، كلمات سيد حجاب، أداء علي الحجار، مقام بياتي.

-2-

كأن بليغ حمدي كان يعرف أن هذا سيكون لحنه الأخير، فقام فيه بما يمكن تسميته "جردة حساب وملخص فني" لتجربته اللحنية، ليختصر في هذا اللحن الشجي كل بصماته وعلاماته اللحنية المسجلة. كيف؟

خذوا عندكم:

- هناك أولا في مطلع اللحن، النداء الكورالي بجملة لحنية حرة (أي بدون إيقاع) "بندق ندق بوابة الحياة بالإيدين".

هذه لعبة تكررت في عدد من ألحان بليغ حمدي (مثال: الصيحة التي يفتتح به لحنه الوطني "يا أم الصابرين"، أو الصيحة التي يرددها الكورال بين كوبليهات أغنية مداح القمر "ومنين نجيب الصبر يا أهل الله يداوينا").

- هناك ثانيا، لعبة بليغ المفضلة في استعراض ثراء موهبته، من خلال تلحين الجملة الواحدة بلحنين مختلفين، مرة ليؤديها الكورال، ومرة ثانية ليؤديها المطرب منفردًا.

هذا بالضبط ما فعله بليغ حمدي في الجملة الافتتاحية "اللي بنى مصر كان في الأصل حلواني". فنحن نسمعها بلحنين من نفس المقام (البياتي)، مرة من الكورال، ثم مرة ثانية بصوت علي الحجار.

لاحظوا الثراء: لحنان مختلفان لنفس الجملة، ومن نفس المقام؟ نعم، فبليغ حمدي ليس بحاجة لتغيير المقام ليقدم لنا لحنًا جديدًا لا يقل روعة لنفس الجملة!!

عمومًا، هذا أيضًا تكتيك "بليغي" شهير (فقد قام بنفس اللعبة في الجملة الافتتاحية للحنه الرائع لمحمد رشدي في فيلم "السيرك"، أغنية سالمة يا سلامة، التي نسمع فيها الجملة الافتتاحية مرة من الكورال، ثم يكررها رشدي بلحن مختلف).

- وهناك أخيرًا، لعبة "المعارضة اللحنية" للتراث الشعبي (على غرار المعارضات الشعرية). فبليغ يأخذ جمل تراثية، ثم يعيد تلحينها بطريقته، في إعلان واثق عن قدرته على صنع "تراث موازٍ" للألحان الأصلية.

نجد هذا هنا في جملة "اللي بنى مصر كان في الأصل حلواني" كما نجده في تجاربه السابقة في تلحين جمل شهيرة في الوجدان الموسيقي العربي مثل لحنه لمحمد رشدي "سالمة يا سلامة" (معارضا لحن سيد درويش الشهير) أو في لحنيه "على حسب وداد قلبي" لعبد الحليم و "تحت الشجر" لرشدي (وفي كليهما معارضة لألحان تراثية من صعيد مصر) وهكذا.

بعبارة أخرى، اسمع هذا اللحن الوداعي، تستمع لعرض موجز لأهم ملامح تجربة بليغ حمدي الموسيقية، فتنفتح شهيتك للولوج لعالمه الموسيقي الثري وألحانه الرائعة.

-3-

والحقيقة أن مشكلة بليغ حمدي هي أنه ولد في التوقيت الخطأ!!

صحيح أنه بدأ مبكرا، فلحن باكورة ألحانه لعبد الحليم (أغنية "تخونوه") وعمره 26 عاما، وبدأ التلحين "للست" وعمره 29 عاما، إلا أنه وصل لمرحلة نضجه، التي كان يفترض أن نشهد فيها أشهى ثماره، في منتصف السبعينات، أي في اللحظة التي غيب الموت فيها عبد الحليم حافظ وأم كلثوم، واعتزل عمليا محمد رشدي ومحمد قنديل، وبدأت مرحلة جزر فني في الموسيقى المصرية.

باختصار، شاءت ظروف بليغ أن تكون موهبته الكبرى في أوجها عندما بدأ الانحدار الموسيقي منذ نهاية السبعينات. فكيف قاوم بليغ؟

-4-

واصل بليغ حمدي من ناحية تجربته الفذة مع شريكة دربه الفنانة العظيمة وردة. لكنه بدأ، بالتوازي مع ذلك، مرحلة تجريب مع أصوات جديدة، قدم خلالها للمستمعين أصواتا رائعة مثل عفاف راضي (انظر بشكل خاص تجربتهما في الفيلم الاستعراضي العظيم "مولد يا دنيا"، التي تستحق عودة لها في مقال قادم)، وعلي الحجار، الذي قدمه بليغ حمدي بالفالس الرائع "على قد ما حبينا".

ومن أهم ما قام به بليغ حمدي، في مرحلة التجريب هذه، جهده الريادي لتلحين الدراما من خلال التتر الرائع لمسلسل المشربية، أول مسلسلات العظيم أسامة أنور عكاشة، والذي مثل إعلانا مبكرا على أن تترات المسلسلات ستكون المتنفس الأساسي لمقاومة موجة الانحدار والسوقية التي هيمنت على "سوق الكاسيت" من الثمانينات (يمكن للقارئ المهتم بمسألة دور تترات المسلسلات وقيمتها كلون موسيقي، الرجوع لمقال سابق في هذه السلسلة عن تتر مسلسل ليالي الحلمية، وفيه تفصيل لهذه المسألة).

-5-

على أية حال، فإن أهمية هذا اللحن الجميل لتتر مسلسل "بوابة الحلواني" لا تقتصر فقط على كونه ملخصا فنيا لتجربة بليغ حمدي، ومدخلا ممتازا لعالمه الموسيقي، وإنما أيضا لأننا أمام نص شديد الجمال أبدعه أحد عمالقة الكتابة لهذا اللون الغنائي، وهو المبدع العظيم سيد حجاب.

-6-

فمشكلة الكتابة للدراما هي أن الشاعر ليس حرا في اختيار ما يحلو له من معاني، وإنما "مربوط" بالسياق الدرامي للمسلسل، ومطالب باختصار خلاصاته في كلمات التتر. وهذا بالضبط هو ما فعله سيد حجاب هنا.

فمن حيث المضمون، توجز الكلمات ببلاغة، الفكرة المركزية للمسلسل: "بوابة الحياة" والمستقبل، التي يفتحها الأولاد الطيبون (البناءون، حفارو قناة السويس).

نحن هنا أمام ما يعرف "بالتأريخ من أسفل"، أي الكتابة التاريخية التي تنظر للتاريخ بوصفه صنيعة الشعوب لا الأبطال (هذه هي مدرسة المؤرخ الفرنسي الكبير فرناند برودل، والمؤرخ البريطاني الفذ إريك هوبسباوم وغيرهما).

نجد منطق هذه المدرسة في التغني بالأولاد الطيبين، والحلواني الذي بنى مصر (وهي استعارة شهيرة في الوجدان المصري، لا تعكس فقط احتفاء بالمنتج النهائي –مصر- الذي لا يصنعه إلا "حلواني"، وإنما تفضل أن تنسب فضل بناء مصر لهذا الابن المجهول، الحلواني، وليس لإلهام بطل أو زعيم!!).

ويتكرس نفس المعنى في الحديث عن هذا الحلواني المجهول، واسمه المنقوش على البوابة، "لازال ولا زايل". هذا الحلواني المغمور، وليس أي "زعيم خالد" هو الذي يؤرخ له هذا المسلسل، وهو الذي تركز عليه كلمات سيد حجاب ببصيرة ثاقبة.

-7-

هذا عن المضمون، أما الشكل، فانظروا لهذا الاستعراض الاستثنائي لقدرات سيد حجاب الشعرية:

- يتكون المذهب من نداء افتتاحي بشطرين متطابقي القافية (بندق ندق بوابة الحياة بالإيدين/ قومي افتحي لولادك الطيبين)، يليه إعلان، بصيغة قاطعة لا لبس فيها، عن الخلاصة الأساسية لكل المسلسل (اللي بنى مصر كان في الأصل حلواني.. وعشان كده مصر ياولاد حلوة الحلوات). هذه الخلاصة ستمثل القاعدة التي تبنى عليها الكوبليهات الثلاثة للأغنية.

- في الكوبليه الأول، الذي يضم حيثيات الحكم/الخلاصة القاطعة في مطلع القصيدة بأن مصر "حلوة الحلوات"، يقدم سيد حجاب تجربة شعرية شديدة الطرافة.

فالكوبليه يبدأ وينتهي دون فعل واحد!! أحد عشر اسما وصفة متتاليين (من أول "وادي وبوادي"....وحتى "ابتهالات")، لا يفصل بينها سوى حرف العطف "الواو"، وبدون فعل واحد من أول الكوبليه لآخره.

فبعد هذا السرد المبهر لأسماء وصفات بدون أي أفعال، يختتم الكوبليه قائلا (وعشان كده –أي لأجل هذه الصفات المتتالية- مصر يا أولاد، حلوة الحلوات)، فيعيدنا لنفس قافية المذهب، الذي يتكرر بين الكوبليهات.

(بالمناسبة، استخدم سيد حجاب هذه الحيلة، أي بناء كوبليه كامل من جمل اسمية وبدون أفعال، في قصيدة لاحقة غناها أيضا علي الحجار من ألحان عمار الشريعي، هي قصيدة "هنا القاهرة").

- أما الكوبليه الثاني، فيتكون من بيتين تتطابق قوافيهما صدرا وعجزا. هكذا نجد تطابقا بين قوافي الشطر الأول/صدر البيتين "ولداه/بلداه"، والشطر الثاني/ عجز البيتين "لا زايل/المايل"، قبل أن نختم الكوبليه بالخلاصة العتيدة (وعشان كده مصر ياأولاد... الخ).

- وأخيرا، نجد بناء أغرب في الكوبليه الثالث. فهناك أولا 3 أبيات موحدة القافية (باحبي/صاحبي/طاح بي)، ثم بيت رابع يعود بنا لقافية النداء الذي بدأت به القصيدة (ونعود سوا نطوي الأنين بالحنين، على وزن "بندق بوابة الحياة بالإيدين")، ثم نعود ونكرر البيت المركزي للقصيدة، وخلاصتها الكبرى: وعشان كده مصر يا أولاد.. حلوة الحلوات!!

-8-

نحن إذن أمام بناء شعري مركب: بداية مزدوجة للمذهب (الأولى هي النداء على بوابة الحياة، ثم البيت المركزي "اللي بنى مصر كان في الأصل حلواني")، ثم 3 كوبليهات، لكل منها بناء مختلف، ولا يحفظ وحدة القصيدة سوى أمران: الأول هو النهاية الموحدة لكل الكوبليهات (الخلاصة المركزية للقصيدة بأن مصر "حلوة الحلوات")، والثاني هو أن الكوبليه الأخير يعيدنا، قبل أن ينتهي مباشرة، للبدايات الأولى للقصيدة (من خلال تطابق قافية "ونعود سوا نطوي الأنين بالحنين" مع النداء الافتتاحي "بندق بوابة الحياة بالإيدين/قومي افتحي لولادك الطيبين").

-9-

هذا البناء المركب لا يحتمل تعقيدا إضافيا في اللحن. لهذا اكتفى بليغ حمدي (بجانب "تلخيص" تجربته اللحنية وحيله الموسيقية المفضلة كما أوضحنا)، بصياغة اللحن بالكامل في مقام البياتي الشجي، مع نقلة قصيرة جدا في كل كوبليه، تذهب إلى مقام الحجاز، ثم تعود فورا إلى البياتي.

بعبارة أخرى، لا يغرقنا بليغ حمدي في تنوعات مقامية معقدة. فاللحن مقصود أن يكون سهلا، وشعبيا (يتناسب مع رواية "التاريخ من أسفل"، تاريخ الشعوب والبنائين/ الحلوانية المجهولين والمغمورين)، ومكتفيا بتكثيف تجربة بليغ حمدي اللحنية ومسيرته الموسيقية في هذا اللحن، في تواز طريف جدا مع تكثيف الكلمات لقصة بناء مصر على يد أجيال من البنائين المغمورين.

-10-

أما عن التوزيع العظيم لعمار الشريعي، فبديع فعلا. استيعاب كامل لمنطق بليغ حمدي، وأهدافه في بناء هذا اللحن البسيط، الشعبي والشجي، الذي "يلخص" تجربته ويقدم عصارة فنه في لحنه الوداعي. لي هنا ثلاث ملاحظات:

الأولى تتعلق بالسيطرة الكاملة لآلتي العود والكولة (الناي الفلاحي). لا نسمع عزفا منفردا إلا على هاتين الآلتين، شديدتي العذوبة والمصرية.

يقوم عمار الشريعي بنفسه بالعزف الشجي على العود، بدون فذلكة، وباستخدام تقنية النقر المتقطع على الأوتار –بحيث نسمع النغمات بشكل متقطع، يبرز كل نوتة موسيقية بشكل واضح ومنفصل، بحيث نركز مع مضمون اللحن وليس مع تقنية العزف وزخرفاته- بدلا مما يعرف بتقنية "الفردشة"، وهي طريقة في العزف لا تقدم نوتات منفصلة، وإنما نغمات متصلة، نجدها مثلا في أداء عمار الشهير لموسيقى مسلسل رأفت الهجان القائمة على جمل متصلة طويلة على العود عكس ما نسمع هنا.

أما العزف البديع على الكولة فيؤديه العازف المقتدر عبد الله حلمي، سيد العازفين على هذه الآلة الفلاحية الشجية.

الملحوظة الثانية، تتمثل في اقتصار الكورال على الرجال فقط، وهو اختيار واع من الموزع، يعكس بدقة –وببساطة عبقرية- التجربة التاريخية لعمال السخرة الذين استجلبوا من الوادي لحفر القناة، وكانوا جميعا من الذكور.

أما الملحوظة الثالثة، فهي أن الصوليست العظيم، علي الحجار، يؤدي المذهب بالكامل مع الكورال (يستطيع المستمع المدقق أن يميز صوت علي الحجار في الكورال، خاصة في النداء الافتتاحي)، وهي تجربة طريفة وغير شائعة، أن يكون الصوليست جزءا لا يتجزأ من الكورال طوال اللحن، بما يضفي سلاسة إضافية على النقلات بين الجمل التي يؤديها الكورال، والجمل التي يؤديها علي الحجار بمفرده.

-11-

نصل للأداء العظيم لعلي الحجار، أحد أجمل أصوات مصر في الربع الأخير من القرن العشرين، وأهم من أدى هذا اللون الغنائي (تترات المسلسلات) في نظري.

هذا اللحن وضع في مطلع التسعينات، وهو العقد الذي كان علي الحجار فيه قد تجاوز غرامه في بداياته بالمبالغة في استعراض مساحاته الصوتية (تذكروا مثلا أدائه "لجفنه علم الغزل" أو"داري العيون")، وأصبح واثقا من قدراته التطريبية والتعبيرية، ومؤديا بطلاوة وثقة وقدرة استثنائية على التعبير عن المعاني والحالة الوجدانية التي يتضمنها اللحن.

-12-

عموما، وقبل أن أختم المقال، وما دمنا نتكلم عن تجربة بليغ حمدي في تلحين الدراما، فسأترككم مع لحنه الدرامي الافتتاحي، التتر الرائع لأول مسلسلات أسامة أنور عكاشة "المشربية"، من كلمات الشاعر العظيم عبد الرحيم منصور، والأداء المبدع لتوفيق فريد الذي ظهر في السبعينات كصوت واعد من مدرسة المايسترو العظيم حسين جنيد، الذي قدم في فرقة أم كلثوم كل الأصوات المهمة التي ظهرت في نهاية السبعينات (على الحجار ومحمد الحلو وسوزان عطية وتوفيق فريد).

للأسف توفيق فريد لم يكن مهيئا، بملامحه المحلية جدا وهيئته التقليدية من حيث الزي وطريقة تصفيف الشعر...الخ، للمنافسة في عصر باتت الصورة فيه أهم من الصوت (عصر الفيديو كليب، وما أدراك ما الفيديو كليب)، فاختفى تقريبا ولم نسمع منه كل ما كان لديه.

-13-

ملحوظة أخيرة، أنصح كل من لم يشاهد مسلسل "المشربية" بمشاهدته (وهو متوفر على يوتيوب)، فهو تجربة طريفة تقدم ما يمكن تسميته "بالمخطوطة التأسيسية blueprint" للمشروع الدرامي لأسامة أنور عكاشة.

ففيه ستجد كل المكونات التي بنى عليها عكاشة مشروعه الدرامي. ستجد مثلا غرامه "بدراما المكان" الذي برز لاحقا في ليالي الحلمية، وستقابل شخصية البطل الشعبي الذي يختصر غرام المؤلف الدائم بما يعتبره "الجوهر المصري الأصيل"، وهي هنا شخصية "عباس قورة" التي أداها شكري سرحان، ثم ظهرت طبعات لاحقة منها في مسلسلات أسامة أنور عكاشة، من زينهم السماحي لحسن أرابيسك لأبي العلا البشري...الخ، وستجد أخيرا الإشارة لفن "الأرابيسك" كاستعارة عن الأصالة، كما تشير كلمات عبد الرحيم منصور، وكما تظهر لاحقا في مسلسل أرابيسك الشهير..

باختصار، ستجد هنا عرضا مكثفا للمشروع الدرامي الذي "فرده" أسامة أنور عكاشة في مسلسلاته التالية!!

استمتعوا وتسلطنوا.. وآمل أن يفتح هذان اللحنان شهيتكم لاستكشاف البعد الأقل شهرة في أعمال العبقري بليغ حمدي، وهو ألحانه الدرامية العظيمة، بدءا من تتراته الرائعة ووصولا لألحانه للأفلام الغنائية. وعلى وعد بزيارات أخرى تستكشف مختلف أوجه العالم الموسيقي للمبدع الكبير بليغ حمدي.

ياسر علوي  كاتب وأكاديمي مصري
التعليقات