يبحث عن رئتيه؟ - محمد المخزنجي - بوابة الشروق
الأربعاء 1 مايو 2024 9:15 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

يبحث عن رئتيه؟

نشر فى : الخميس 22 مارس 2012 - 8:00 ص | آخر تحديث : الخميس 22 مارس 2012 - 8:00 ص

فى شتات الفوضى والعشوائية المتغلغلة والضباب السياسى المتكاثف فى الأفق، ومع إساءة استخدام أدوات الحراك الاجتماعى والسياسى من الجميع تقريبا، وإن بدرجات متفاوتة، فإن الكاتب الذى يصر على استقلال رأسه ولا يدَّعى أنه محلل سياسى ولا خبير استراتيجى، يجد نفسه فى موقف الحيرة، ولا يكون أمامه إلا أن يستفتى قلبه، ويتلمَّس حسه، وهذه ليست كما يبدو أدوات استكشاف غير موضوعية، بل هى فى قناعتى أدوات إضاءة علمية وموضوعية تماما، فأينشتاين مثلا كان يستدل على صحة النظريات العلمية بجمالها، وخبرات الطب النفسى توصى بأن يتبع الطبيب «إحساسه» عندما يغم عليه التشخيص ولا يجد فى مريض فصامى، على سبيل المثال، أيا من الأعراض والعلامات الكبرى للفصام، لكنه ( يُحسّ ) بأن بينه وبين المريض حائلا خاملا وباردا ما، وتعبير «الإحساس بأن هناك حاجزا زجاجيا يفصله عنك» موجود فى المراجع ومتداول بين الممارسين كمؤشر للتشخيص. وسأحكى فى ذلك حكاية، لأن فى كل حكاية سعيا، وفى كل سعى فرصة للحصول على طريق.

 

كنت طبيب العيادة الخارجية لقسم النفسية بمستشفى المنصورة العام فى ذلك اليوم عندما جاءنى طبيب امتياز يفكر فى اختيار نيابة الأمراض النفسية ويريد أن يتعرف على واقع التخصص من خلال مشاهدة عَيانية بصحبتى، وعبَّر عن خشيته أن يكون وجوده معى عائقا لاسترسال المرضى أمامى، فطمأنته أن ذلك لن يحدث، فالمرضى النفسيون الفقراء وذووهم فى هذه العيادات مختلفون تماما عن غيرهم فى هذا الشأن، فهم يتعاملون مع المرض النفسى بإفصاح ودون تكتم أو شعور بالعار كالذى ينتاب الشرائح الاجتماعية ذات الثروة والجاه والنفوذ، فالفقراء فى ذلك متقدمون جدا من حيث الوعى الإنسانى بالمرض النفسى، يتقبلونه كألم ويسعون للخلاص منه بأمل، كأى مرض عضوى من أمراض شقائهم التاريخى، ومن ثم يساعد بعضهم بعضا فى مواساة مرهفة دون أن تكون إنسانيتهم مكبلة بذلك الإحساس الطبقى بالعار، ولذا تكون عيادات الأمراض النفسية للفقراء أقل كآبة وأكثر انفتاحا، ولا تخلو من لمحات مرح ولمسات لطف وبوارق دهشة!

 

بعد مرور غير ملفت لعدة حالات تتراوح بين العُصاب الساكن والمرض العقلى المستقر، أبدى الطبيب المتدرب قلقه لغياب الغرابة المتوقعة فى الأمراض العقلية، وكان معظم مرضى ذلك اليوم ممن يأتون لصرف أدويتهم الشهرية أو نصف الشهرية دون أن يبدو عليهم أى ملمح ظاهر للمرض النفسى، ثم جاء «أفندى أبهة» متأنق، ببدلة كاملة وربطة عنق وحذاء ملمَّع، وجلس ولم يكن ممن ترددوا على العيادة من قبل، وبعد استيفاء كل جوانب الاستكشاف لم يظهر أى دليل على وجود أى خلل نفسى لديه، مما جعل الطبيب الصغير يبتسم بإحباط وحيرة ولسان حاله يقول «هل هذا كل شىء؟».

 

أعدت محاولة سبر أغوار الرجل ولم أوفق فى العثور على أية نأمة نفسية أتكئ عليها لتشخيصه كمريض نفسى برغم (إحساسى) أن به شيئا ما غير سوى، ثم لاحظت أن معه أكثر من علبة سجائر وأكثر من علبة كبريت، فقلت له «واضح إنك مدخن تقيل؟»، فأجابنى «انا ما بادخنش ولا عمرى دخنت بس غاوى أجمع العلب الفاضية»، وبدأ يُخرِج من جيوب بدلته مزيدا من علب السجائر الفارغة وعلب الكبريت الخالية ويصفّها على المكتب فى قطارين طويلين بيننا، وبدأت ملامح الدهشة ترتسم على وجه الطبيب الصغير بجوارى، ثم كانت الصاعقة عندما سألت الرجل «طيب انت جاى هنا ليه»، فكانت إجابته: «عايز اعمل أشعة على الصدر أعرف إذا كان لسه عندى رئتين والاَّ لأ لأنى خايف مايكونش عندى رئتين واتخنق فجأة». ووجدت عينَّى الطبيب الشاب الواسعتين تتسعان أكثر، فى قفزة مباغتة من الدهشة إلى الذهول، ثم تضاعف ذهوله والرجل المتأنق يضيف بكل جدية: «أصل فيه شبح بيطاردنى علشان يشفط الرئتين من صدرى على غفلة».

 

كان الرجل يعانى من خلل فى «سمة» نفسية واحدة، بينما كل أركانه الباقية سليمة، وهى حالة تتماس مع الفصام الخيلائى أو جنون العظمة، لكنها برغم محدوديتها وخفاء اكتشافها تمثل خطورة هائلة على المجتمع فى بعض صورها المتجاوزة للحدود الفردية، فمنها يأتى الأنبياء الكذبة والمهديون المنتظرون المزيفون والزعماء الفاشيون والمُنظِّرون المتشنجون وقادة التمردات الفوضوية والدعاة المتطرفون، وغيرهم ممن يكثر ظهورهم فى أزمنة الهياج والفوضى والعشوائية والتعصب والتخلف، وهل نحن الآن فى غير ذلك؟

 

هذا السؤال سألته لنفسى وأنا أرى انهمار هذه النماذج علينا، كمثال الطبيب «الثورى» المزيف الذى ادعى أن هناك أكثر من ألف شهيد فى أحداث مجلس الوزراء وأن الضرب كان بأسلحة كيماوية مُحرَّمة دوليا وبالفسفور الأبيض، ووجد من يصدقه! ومثله «نائب» حزب النور السلفى الذى أراد أن يغطى عملية تجميل لأنفه فاصطنع كذبة إجرامية نشرت الفزع الأمنى بين الناس واستهلكت طاقة الشرطة التى نحن فى أحوج ما نكون إليها وزجَّت بثلاثين من الأبرياء فى معاناة التوقيف للاشتباه. وهذان مجرد نموذجين بائسين إذا نظرنا إليهما من زاوية التعاطف الإنسانى والعطف الطبى، لكن طفوهم على سطح الأحداث العامة ومواقع التأثير السياسى هو مؤشر على أننا لسنا فى لحظة سويَّة أبدا، وأخطر ما فى عدم سويتها هو هذا الاندفاع متعدد الأطياف للحصول على القوة وإزاحة الحق، وبكل الوسائل الملتوية واللئيمة للتربح السياسى والاجتماعى فى هذا الضباب الذى لا أعرف كيف ومتى سيكون الخروج منه.

 

ليس أى خروج بأى شكل، ولكن الخروج السوى الذى يقر بأن الحق الحقيقى ليس فقط الدفاع عن حقوق الذات بل صيانة حقوق الغير كمواطنين وبشر على هذه الأرض، وهو خروج يصنع قطيعة مع جنوح الأمس المريض الذى كان شعاره الفاسد والمفسد «ياالله نفسى» و«اللى تكسب به العب به»، ولن تكون هناك سوية، فى رأيى المتواضع، إلا بالوقوف على أسس دستورية راسخة من مقومات الدولة الحديثة التى تحترم كرامة «كل» مواطنيها، ومن ثم لا تتغاضى عن مقومات مدنية الدولة القائمة على مبادئ تداول السلطة وسيادة القانون واحترام كرامة الإنسان وإعلاء شأن حقوق المواطنة ونبذ التسلط أيا كانت منابعه، وهى أمور تتوخاها طموحات الدولة الناجحة والناهضة والتى لا يختلف عليها كل الأسوياء من كافة الأطياف الوطنية، فى إطار الاعتدال والتوسط الحميدين والعاقِلَين دينا ودنيا.

 

لنصر على هذا وندافع عنه، وإلا سنجد أنفسنا يوما رهائن لهاجس الاختناق، مستبدلين تسلط الأمس الدنيوى المافيوى، بتسلط جديد مدجج بأشد أسلحة الطغيان استباحة لمن يخالف أهواءه وشطط تأويلاته. ويومها سيكون المصريون جميعا كذلك الرجل الذى يجمع العلب الفارغة ليملأ بها وحشة خوائه، مسكونا بوهم شبح يطارده ويريد «شفط» رئتيه فى غفلة! إلى أين يمضون ونمضى جميعا بمصر؟ مصر الكبيرة العريقة الصابرة المبدعة المتسامحة المؤمنة الفنانة الحنَّانة الرؤوم، درَّة الشرق، إلى أين يا مجلس قيادة الجيش المصرى ويا فرقاء السياسة العقلاء ويا عموم المصريين.. إلى أين؟

 

 

لمحة وعزاء: فى تعليق من صديق الصبا العزيز الدكتور عامر سنبل على إحدى مقالاتى المناهضة للمقامرة النووية، قال أخذا عن كتاب «مقدمة فى فقه اللغة» للدكتور لويس عوض: «كلمة نيت فى اللغة المصرية القديمة تعنى الطبيعة أو الله، واشتُقت منها كلمة النواة،وبالطبع كلمة النيل، وشنودة، حيث شو: عبد، ونودة: الله، فمعناها عبدالله، ودخلت الكلمة العربية برسمها ومعناها حيث حرف النون بداخله نقطة تمثل النواة، ومن الواضح ان أصل كلمة نواة كانت حرف النون فى جميع اللغات فى الشرق الأوسط وأوروبا». وفى ضوء هذه اللمحة للعزيز عامر، أعبر عن أحرِّ تعازىَّ لمصر كلها ولإخوتنا الأقباط خاصة، فى فقيد الحكمة والوطنية والشجاعة النبيلة والصبر الجميل البابا شنودة، أو عبدالله تبعا للجذر اللغوى، وما نحن جميعا إلا عبيد الله، «الإله الواحد الذى نعبده جميعا» على حد تعبير البابا شنودة نفسه فى إحدى خطبه البليغة.

محمد المخزنجي كاتب مصري كبير ، وطبيب أمراض نفسية ، ولد في المنصورة ، وعمل في مجلة العربي الكويتية ثم تفرغ ككاتب حر ، يُعتبر من أبرز كتاب القصة في العالم العربي ، وله إسهامات متفردة في الكتابة العلمية وأدب الرحلات والمقال الصحفي .