مستقبل ثورة يناير - عبد الله السناوي - بوابة الشروق
الثلاثاء 23 أبريل 2024 10:04 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

مستقبل ثورة يناير

نشر فى : الأحد 21 يناير 2018 - 9:30 م | آخر تحديث : الأحد 21 يناير 2018 - 9:30 م
بقدر الآمال التى حلقت فى ميدان التحرير قبل سبع سنوات تتبدى الآن حيرة التساؤلات فى المشهد العام.
هل ماتت ثورة «يناير» بالسكتة التاريخية وانقضى أثرها إلى الأبد.. أم أننا مازلنا فى منتصف العرض التاريخى والمستقبل أمامها؟
التعجل بالأحكام الأخيرة قبل أن يأخذ التاريخ وقته وتبلغ التفاعلات مداها خطيئة سياسية متكاملة الأركان.
لم تكن «يناير» أول ثورة تختطف مبكرا، أو تجهض مؤقتا، فقد لقيت الثورة الفرنسية المصير ذاته دون أن تفقد قدرتها على الإلهام حتى حققت أهدافها بعد رحلة معاناة طويلة ومؤلمة.
الكلام المبكر عن انقضاء أثرها فيه إنكار لدروس التجربة المصرية على مدى مائة عام عرفت التراجعات قبل النهوض من جديد.
فى ثورة (١٩١٩) سقط نحو (٨٠٠) شهيد وأصيب (٦٠٠) جريح.
تلك الأرقام تقارب بصورة مدهشة أعداد الشهداء فى ثورة «يناير»، لكن أرقام الجرحى والمصابين تتضاعف فيها.
لم تكن وسائل الإعلام الحديثة قد نشأت بعد، ولا عرفت مصر الإذاعة وقتها.. كانت الصحف الوطنية محدودة التوزيع والتأثير فى مجتمع تتفشى به الأمية، لكنه قرر أن يثور وأن يدخل القرن العشرين من بوابة الاستقلال والدستور.
لم تكن هناك ــ فى ذلك الوقت ــ منظمات حقوقية، أو نقابات مهنية تدافع عن حرية التعبير وحق التظاهر السلمى، لكنه مارس ذلك الحق طلبا لامتلاك مقدرات بلاده.
بذات القدر فى عصور مختلفة وسعت «يناير» مجال المشاركة السياسية إلى حدود غير مسبوقة تحت ضغط المليونيات ووسائل الاتصال الحديثة، وطرحت قضية العدالة الاجتماعية بصورة جديدة على رأى عام لم يعد يتقبل أو يستسيغ تنكيل السلطات بالمواطنين وإهدار الكرامة الإنسانية.
الإنجازات الفعلية ليست كبيرة بالنظر إلى حجم التضحيات التى بذلت، لكن شيئا ما تحرك فى عمق المجتمع يصعب أن يعود مرة أخرى إلى المربع رقم واحد.
فى ثورة (١٩) كان حجم التضحيات مقيسًا بحجم السكان كاشفا لعمق تجربتها وصلابة شعبها الذى خرج طالبا الاستقلال والدستور، غير أن مسارها السياسى ارتبك ونتائجها تعثرت لأربع سنوات كاملة حتى وضع دستور (١٩٢٣).
وقد جرى بعد ذلك الالتفاف على الحكم الدستورى وإقصاء حزب «الوفد» عن السلطة لأغلب سنوات ما بين ثورتى (١٩١٩) و(١٩٥٢).
التحدى نفسه فى أوضاع جديدة يعترض ما طالبت به «يناير»، حيث إنجازها الرئيسى دستور (٢٠١٤)، الذى يعد من أفضل الدساتير المصرية على مدى العصر الحديث.
لا يمكن الادعاء أن هناك احتراما للدستور، أو إنفاذا لأحكامه.
ثورة «يناير» تعنى اليوم: الدفاع عن الدستور قبل أى شىء آخر، فجوهره الانتقال إلى دولة مدنية ديمقراطية حديثة تحفظ الحريات العامة وتصون حقوق المواطنة.
أحد أسباب السهولة النسبية، التى اختطفت بها «يناير»، أنها لم تدرك موقعها فى التاريخ المصرى ولا تراكم خبرة ثوراتها، كأن التاريخ بدأ من عندها.
كانت ثورة (١٩) بنت عصر ما بعد الحرب العالمية الأولى وما طرحه من مبادئ تتعلق بحق تقرير المصير.
وقد مثلت بالعمق استطرادا للحركة الوطنية المصرية، التى جدد روحها الزعيم الشاب «مصطفى كامل» بعد سنوات من هزيمة الثورة العرابية واحتلال مصر عام (١٨٨٢).
هكذا كانت ثورة يوليو بنت عصر ما بعد الحرب العالمية الثانية ودعوات التحرر الوطنى، التى شملت العالم الثالث بأسره، ومطالب العدالة الاجتماعية، التى سادت مصر فى أربعينيات القرن الماضى.
بذات المعنى كانت «يناير» بنت عصر ثورة المعلومات والاتصالات الحديثة، وهو عصر أفضت وسائله إلى اعتقاد راسخ لدى الأجيال الجديدة بأن مصر تستحق نظاما أفضل، وهى الأجيال ذاتها التى تقدمت مشهد الثورة وأسبغت عليه مظهرا حديثا أبهر العالم، قبل أن يتم التشهير بها إلى حدود التحطيم الممنهج.
بأية رؤية منصفة فـ«يناير» تجربة كبرى افتقدت إلى مقومات أساسية تمنع اختطافها مرتين.. الأولى، من جماعة «الإخوان».. والثانية، من الماضى الذى ثارت عليه.
لم تبرز من صفوفها قيادة لها قوة المرجعية، تحدد الأولويات وتقود التحركات، فأصبح كل شىء خاضعا لانفعالات اللحظة وعشوائية التصرف.
كان ذلك عكس ما جرى فى ثورة (١٩) حيث برزت شخصية «سعد زغلول»، الذى تمكن بقدراته السياسية والخطابية أن يعبر عنها وأن يكون رمزها الأكبر.
عندما أخفقت ثورة (١٩) فى أن تحقق هدفيها الرئيسيين: الاستقلال والدستور، فالأول أُجهض عمليا والثانى جرى الانقلاب عليه، بدأت مصر تنتفض من جديد.
فى عام (١٩٣٥) خرجت مظاهرات حاشدة تحتج على تصريح بريطانى بأن مصر لا يصلح لها دستور (١٩٢٣) ولا دستور (١٩٣٠).
فى تلك المظاهرات تواصل عطاء الدم المصرى.
وفى عام (١٩٤٦) خرجت مظاهرات حاشدة أخرى من أجل مطلب الاستقلال أفضت إلى شهداء جدد من بينهم (٢٣) شهيدا فى ميدان «الإسماعيلية»، وهو ذاته الميدان المعروف الآن باسم «التحرير»، وأصيب فى هذه الموقعة (١٢١) جريحا.
بعد أيام فى الإسكندرية سقط (٢٨) شهيدا و(٣٤٢) جريحا.. المدينة ذاتها قدمت شهداء آخرين فى «يناير»، كما مدن مصرية عديدة.
كانت التضحيات، التى بذلت عام (١٩٤٦)، إيذانا بميلاد جيل جديد، وهو واحد من أهم الأجيال فى تاريخ مصر المعاصرة، حمل السلاح فى منطقة قناة السويس ضد قوات الاحتلال، ساهم فى تطوير الخريطة الفكرية والسياسية وقام بثورة جديدة فى يوليو (١٩٥٢).
تصدر طليعتها ــ هذه المرة ــ «الضباط الأحرار»، وهى واحدة من أعظم الثورات المصرية وأبعدها تأثيرا.
وقد قادت بزعامة «جمال عبدالناصر» حركات التحرر الوطنى فى إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، وقامت بأوسع حركة تغيير اجتماعى فى التاريخ المصرى كله، وبرز الدور الإقليمى لمصر فى عالمها العربى، أصابت وأخطأت، ولكن إنجازاتها كانت ظاهرة ولا مثيل لها فى قضيتى الاستقلال الوطنى والعدالة الاجتماعية.
غير أن ثغرات نظامها السياسى الفادحة خذلت الأحلام الكبرى التى تبنتها، وجرى الانقضاض عليها من «كعب أخيل» ــ على ما تقول الأسطورة الإغريقية من نقطة الضعف عند البطل التراجيدى.
«يناير» تبنت أهداف «يوليو» فى العدالة الاجتماعية، لكنها لم تحدد ما تقصد، وركزت على قضية الديمقراطية، وهذه إحدى ثغرات «يوليو»، لكن بلا دليل عملى يمنع توظيف الغضب لغير قضيته ويحول دون أى ارتدادات حادة.
تراجيديات الثورات ــ بالآمال العريضة التى تسقط من حالق ــ لم يمنع فى أى وقت اتصال فعل الحركة الوطنية جيلا بعد آخر للتصحيح وتعلم الدروس، وهذا ما يجب أن تحتذيه الأجيال الجديدة.