ليت للبرَّاق عينا - محمد المخزنجي - بوابة الشروق
السبت 4 مايو 2024 12:22 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

ليت للبرَّاق عينا

نشر فى : الخميس 20 أكتوبر 2011 - 10:00 ص | آخر تحديث : الخميس 20 أكتوبر 2011 - 10:00 ص

فى سن مبكرة سمعت هذه القصيدة التى غنتها أسمهان من ألحان القصبجى، وكنت صغيرا وغير عارف بقصة القصيدة التى تُظهر المعنى المقصود منها، فلم يرسب فى وعيى إلا أن شطرة البيت الأول الأولى «ليت للبرَّاق عينا فترى» تنعى على بعض من «يُبرِّقون» بعيون وِساع، أنهم يظلون عميانا لا يرون الحقائق برغم التحديق والتبريق!

 

وبرغم تعرُّفى على قصة القصيدة فيما بعد، إلا أننى ظللت معتزا بالمعنى الذى عثرت عليه وأنا صغير، فقد كان هذا المعنى يسارع نحوى فى مواقف كثيرة، مثبتا أن هناك عيونا تحدق فلا ترى، وأبصارا تمعن لكنها لا تدرك.

 

ألوان من العمى وجدتها لدى المرضى النفسيين، وبعض المحسوبين على الأصحاء، ومن النوع الأول أتذكر صبيا فى نحو السادسة عشرة، كان يتردد على العيادة الخارجية فى مستشفانا الحكومى، مريضا بفصام المراهقة «هيبى فرينيا»، وكنت أتعاطف معه وأحبه كثيرا، لطرافته وجماله برغم مرضه المأساوى المبكر، فهو أسمر ومحدد الملامح كأنه مرسوم، وله عينان سوداوان واسعتان بالغتا الجمال، لكن مرضه أقحل حصيلة الكلمات فى عقله.

 

كان يأتى وحده دون مُرافِق للمراجعة نصف الشهرية، فأُجلسه إلى جوارى طوال وقت العيادة، لأنه لم يكن يربك العمل ولا يزعج المراجعين وجُلّهم من الفقراء الذين على عكس الأغنياء، لا يخجلون من أمراضهم النفسية ويتعاملون معها كمِحن صحية، شأنها شأن أمراض الأمعاء أو القلب أو العظام، وهى رؤية متقدمة جدا تحاول برامج التوعية الصحية فى أرقى بلدان العالم أن تثبتها فى أذهان أفراد المجتمع لمحو «الوَصْم» الذى يلحق بالمرضى النفسيين فينفيهم خارج النسيج الاجتماعى وخارج إنسانيتهم.

 

هذا الفتى الجميل المسكين، ولنسمِّه «سمير»، كنت أعطيه كراسة وقلما ليكتب لى ما حدث له منذ آخر «كشف»، ولم يكن يكتب عبر عشرات الصفحات التى يملؤها فى كل جلسة غير عبارة مكررة: «أبويا برَّق لى وهو بيزعق، قمت مبرق ومزعق له»! وكنت بين الحين والحين ألتفت إليه سائلا «وبعدين يا سمير»، فيخبرنى بما حدث مكررا العبارة نفسها بينما عيناه الجميلتان تعبِّران بمصاحبة الكلام عن تبريقة أبيه وتبريقته المضادة، فى تجسيد يدمج بين المأساة والملهاة، فأضحك حتى تدمع عيناى، وأتوصل ذاتيا إلى رؤية للمرض النفسى وجدتها فيما بعد متبلورة عند الطبيب النفسى المجرى العالمى «إشتيفان ينديك» فى كتابه الشهير «الإنسان والجنون».

 

لم يكن سمير وهو يُبرِّق يرى إلاّ تلك الصورة التى انطوت عليها نفسه وتجمدت فى داخله المتصحر بفعل هذا النوع الساحق من المرض العقلى، ولابد أنها كانت صورة مرتبطة بالعقدة الجوهرية فى صيرورة مرضه والقائمة على الخلل فى علاقة الأب بالابن الذى كان مُؤهَّلا ومُؤهَّبا للفصام. وهى الآلية نفسها التى ينطوى عليها كل جنون، فالمريض النفسى غير المتوافق فى علاقته بالعالم الخارجى وقوانينه لسبب أو لآخر، يصطنع لنفسه عالما موازيا فى داخله وقانونا خاصا بهذا العالم المُتوهَّم، وهو برغم عينيه المفتوحتين على العالم الخارجى يكاد لا يرى إلا عالمه الداخلى ولا يخضع إلا لقوانينه. هذه هى مأساة المجانين.. وطائفة من «العقلاء» أيضا!

 

فى فقرة من مقالة الأسبوع الماضى عرضت لحالة أحد ضحايا ماسبيرو من الأقباط اعتبرتها دالة على مأساة ما حدث، ورأيت فيها «عارا ينتهك الفضيلة الدينية ويحط بالسمو الوطنى والحس الإنسانى لأى مصرى»، وبرغم إسنادى المأساه فى هذه الحالة لتصرف فردى لجندى بسيط وبائس فى النهاية، إلا أننى رأيتها دالة على كل الموقف المشحون باحتقان طائفى وتعصب يستوجبان المحو، وكانت أولى خطوات المحو التى اقترحتها هى: اعتذار من المجلس الأعلى للقوات المسلحة، ولم أقل أبدا أنه اعتذار عما ارتكبه هذا المجلس الذى لم أُخف تقديرى لدوره الحاسم فى الثورة وإنقاذ «الدولة» المصرية من التفكك بعد مؤامرة الانهيار الأمنى وحتى الآن. وقد أوردت هذا التقدير بوضوح فى متن المقال وفى خاتمته، برغم أننى كتبت مقالى وأرسلته للنشر قبل أن ينعقد المؤتمر الصحفى للمجلس العسكرى.

 

وعلى ذِكر ذلك المؤتمر الصحفى، فقد رأيت بعين فراسة أزعم أن لدىَّ شيئا منها، أن اللواءين عادل عمارة ومحمود حجازى كانا صادقين تماما برغم عدم الاحترافية الإعلامية فى حديثهما، بل إن غياب هذه الاحترافية كان مما عزز إحساسى بصدق الرجلين، ومن ثم فإننى مقتنع بأن ما وقع من هرس المدرعة العسكرية لعدد من المتظاهرين لم يكن عمديا ولا مُمنهَجا، وأنه خارج أخلاق العسكرية المصرية حتى فى الحروب ضد الأعداء، كما أننى مقتنع تماما بأن القوات المسلحة لم تطلق النار على المتظاهرين، وأن هناك طرفا ثالثا أطلق النار على المتظاهرين الأقباط والسلميين وجنود الجيش معا لتأجيج الفتنة وإحراق مصر.

 

فى مقالى السابق الذى لا أتراجع عن جوهر محتواه أوردت خطوات أخرى غير واجب الاعتذار لمحو عار الكارثة والحئول دون تكرارها، وكانت: العمل على وضع دستور جامع لدولة مدنية ديمقراطية لا يتغول فيها أحد على أحد، وتكوين وزارة إنقاذ يكون الأمن مشروعها القومى الأول، وإقالة محافظ أسوان الذى تكررت أخطاؤه السياسية وأخل بهيبة الدولة التى يمثلها عندما برر لبعض المصريين أن يكونوا بديلا عن الدولة فى أمر يخص مصريين آخرين، وإصدار قانون لمنع التمييز وتغليظ عقوبة التحريض الدينى المثير للفتنة الطائفية أيا كان الطرف الذى يصدر عنه ذلك التحريض. فلماذا هاج عش دبابير المتعصبين فى حملة هجوم ملىء بالسباب والكذب والتأويل الشائه يتقصدنى، ضمن سيل التعليقات على مقال الأسبوع الماضى بالموقع الالكترونى للشروق؟

 

فى ضوء ما أوضحته عن العيون التى تنظر فلا ترى والبصائر التى تَعمى عما يخالف المتيبس فى دواخلها، أكتشف أننى ربما عرَّيت شيئا من خبايا التعصب النفسية بإخضاعه لمفهوم «سيكلوجية العصابة»، ولست أغالى أبدا إن قلت إن عصابات التعصب الفكرى أو الأيديولوجى أو الدينى ليست بعيدة أبدا عن عصابات الإجرام الجنائى، فالعنف فى القول يمكن أن يقفز إلى عنفٍ مادى فى لحظة أو على الأقل يحرِّض عليه، لأن المتعصب لا يرى فيمن يخالفه إلا عدوا يستحق التدمير!

 

كما لم تعدَم التعليقات المتعصبة المقيتة تنويعا رديئا آخر، فثمة متعصب مسيحى اهتبلها فرصة لينال من المسلمين والإسلام بالكذب والركاكة. وما هؤلاء جيمعا من متعصبين محسوبين على الإسلام وآخرين محسوبين على المسيحية إلا عميان بعيون وقحة التحديق، وبصائر مطموسة سلبها التعصب كل نور. فهم أرباب سوابق عِصابية نفسية تخفى تكوينات عدوانية فى داخلها، وهى فى تعصبها تذكى ذواتها على الله والناس والوطن، وتلعب لعبا إجراميا بنار أوشكت أن تحرق مصر فى ليل أسود القلب لا ينبغى أن يتكرر.

 

لقد كان المعنى الحرفى للشطر الأول من البيت الأول فى قصيدة «ليلى العفيفة» تبعا للقصة الماثلة وراء القصيدة، هو مناداة ليلى بنت لكيز بن مرة بن أسد بن ربيعة لابن عمها وحبيبها «أبونصر البرَّاق» فارس ربيعة وفاتكها المغوار، لكى يأتى وينقذها من براثن ابن كسرى ملك فارس الذى اختطفها لفرط جمالها طامعا أن تلين له وترضى، لكنها ظلت تقاوم وتكابد متعففة حتى أدركها حبيبها البَرَّاق وأنقذها فحقَّت له حبا وكرامة. وها هى مصر قد عاث فيها التعصب وتجذرت الفتنة وتكررت حرائقها. وفى هوجة كل حريق يندس من يطلقون الرصاص أو يطعنون أو يدمرون، تنفيذا لمخطط فوضى يبتغيها شياطين عدة، يحلمون بعودة عصابة فساد حكم مبارك، أو يُنهِكون قوى هذا البلد لتقر عين إسرائيل، أو يُفشِلون نموذج ثورة يخشى طغاة الأقارب والأباعد من نجاحها حتى لا تغرى بنموذجها شعوبهم. فهل من فارس كالبَرَّاق يدركها؟!

 

نعم، الفارس موجود، فقط عليه أن يتعرف على ذاته مترامية القدرات، ويجمع إليه أطرافه من جيش مصر الوطنى وقواه الديموقراطية النابذة للتعصب والفتنة والاستقواء البذىء بالخارج والعمالة لعرب أو عجم. فارس تدرك بصيرته أن أول الفوضى هوجة يثير غبارها ويطلق شررها متعصبو الأقوال قبل الأفعال. فلنتوافق على هدنة لا تتيح لقوى الغدر فرصة التسلل فى زحامنا وإطلاق الرصاص علينا جميعا وإحراق بيتنا المشترك.

 

هدنة ولو لشهور ستة تتوقف فيها «هوجة» التظاهرات مقابل تعهد واضح من المجلس العسكرى بإعادة بناء جهاز الأمن وتدعيم قواه كمشروع قومى عاجل يكف يد البلطجة ويحرس سيادة القانون، مع تشكيل حكومة إنقاذ جريئة كاملة الصلاحيات تضع جدولا زمنيا لمعالجة اختلالات العدل الاجتماعى الملحة والفاضحة، وتُشعر فقراء الناس خاصة بجدوى الصبر وصدق الأمل. ولا أظن أن ذلك يغنى عن الشروع فى وضع دستور جامع لدولة مدنية حديثة تحترم الهوية الدينية للأغلبية المسلمة ولا تعصف بالخصوصية الدينية للأقباط، وتكون حقوق المواطنة وحقوق الإنسان هى مناط العدل بين كل بنيها. و..

 

«ليت للبرَّاق عينا فترى ما ألاقى من بلاء وعنا»

محمد المخزنجي كاتب مصري كبير ، وطبيب أمراض نفسية ، ولد في المنصورة ، وعمل في مجلة العربي الكويتية ثم تفرغ ككاتب حر ، يُعتبر من أبرز كتاب القصة في العالم العربي ، وله إسهامات متفردة في الكتابة العلمية وأدب الرحلات والمقال الصحفي .