الترام رقم 7 - عاطف معتمد - بوابة الشروق
الإثنين 3 يونيو 2024 8:58 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الترام رقم 7

نشر فى : الثلاثاء 20 فبراير 2024 - 6:40 م | آخر تحديث : الثلاثاء 20 فبراير 2024 - 6:40 م

عثرت فى كتاب قديم على صورة من أيام دراستى للدكتوراه فى روسيا، تاريخ الصورة يناير 1998.
كان قد مضى شهران منذ وصلت إلى هذه المدينة المقطوعة فى كتلة من الجليد. لم أشهد فى «سان بطرسبرغ» شمسا، أرفع رأسى كل صباح مناديا السماء دون استجابة: قليل من الشمس هنا يا إلهى!
معدل التقدم فى تعلم اللغة الروسية يسير ببطء السلحفاة.
نصحنى فيكتور أليكسندروفيتش ــ مدير قسم الطلاب الوافدين فى الجامعة ــ قائلا: «ليس أمامك سوى أن تسكن مع عائلة تؤجر غرفة فى شقتها، وهناك تشاركهم حياتهم وتعرف لغتهم».
على هذا النحو، تركت السكن الجامعى ونقلت كتبى وأوراقى إلى غرفة استأجرتها فى بيت عائلة السيدة جالينا نيكالايفنا.
تطل غرفتى على زقاق ضيق متصل بشارع «ماراتا» المنتهى بدوره إلى الشارع الكبير «نيفسكى براسبيكت»، البيت هنا غير بعيد عن موقف الترام رقم 7 الذى يوصلنى للجامعة فى غضون 20 دقيقة.
تبدو جالينا طيبة كريمة رغم شرودها، استهلت أول يوم فى معيشتى فى بيتها قائلة: «يمكنك أن تنادينى «جاليا»، كل شىء فى البيت رهن تصرفك، الجالس هناك فى المطبخ ابنى سيرجى...أرجو ألا تنزعج من غرابة أطواره وجفاء سلوكه هذه الأيام، لقد استدعوه للتجنيد هذا الشهر، أظنك تتابع الحرب فى الشيشان...كثير من رفقاء سيرجى ممن سبقوه إلى هناك إما وقعوا فى الأسر أو لقوا حتفهم فى الكمائن التى نصبت لهم فى جروزنى.. قلبى يحدثنى أنه إن ذهب لن يعود».
سرعان ما رحل سيرجى إلى الشيشان، ظلت جاليا حبيسة غرفتها لا أسمع لها صوتا. بدأ الجيران يتوافدون للتخفيف عنها، جلبوا معهم أصنافا من طعام وشراب وفاكهة.
يعرف من عاش فى هذه البلاد أن أغلى هدية يمكن أن يجلبها ضيف إلى بيت روسى شتاء هى فاكهة البلاد الجنوبية. تبدو هذه الفاكهة على المائدة رسلا من الفردوس وثمارا من الجنة.
دعتنى جاليا لمشاركتهم الجلوس فى المطبخ: قدس أقداس البيت الروسى. المطبخ هو ذاته غرفة طعام، وهو ملتقى الحديث حول المدفأة، وهو التئام شمل الأصدقاء.
رأيت فى مطبخ جاليا السماور الذى تعلمنا اسمه ورسمه فى دروس اللغة بالجامعة، ذلك الوعاء المعدنى الذى يحتفظ دوما بالماء المغلى لإعداد الشاى.
بعد أن تكررت الزيارات إلينا دعانى الجيران لمشاركتهم حفلا عائليا فى الطابق العلوى. ما إن صعدت مع جاليا إلا وتبارى الجميع لإسعادها غناء ورقصا وعزفا على البالالايكا.
يوما بعد يوم اعتدت على الحياة فى بيت جاليا، كان كل شىء هنا لطيفا مرتبا. صحيح أن البيت كئيب بما يليق برطوبة الطابق الأرضى وبحزن امرأة تجاوزت الستين هجرها زوجها، إلا أن الأمر لم يخل من بعض أسباب حياة.
فى أمسيات الشتاء ومطلع الربيع لم يكن فى قدس الأقداس سوانا، كانت تحكى وتحكى وتحكى، هى على يقين أن لغتى البدائية لا تسعفنى كى أفهم كثيرا مما تبوح به ذكرياتها، لكنها مع ذلك كانت تروى تفاصيل مدهشة.
كنت أهز رأسى وكأننى أفهم كل ما تقول، وحين كنت أبتسم أو أرسم على وجهى كذبا علامات اهتمام بذكرياتها يغمرها فرح طفولى وتجدد أكواب الشاى الطازج من السماور وتستبدل أطباقا صغيرة بأخرى من مربى التوت البرى الأحمر الذى كانت قد جهزته الصيف الماضى.
فى نهاية الأشهر الست تحسنت لغتى وحان وقت عودتى للسكن الجامعى. انقطعت أخبار سيرجى منذ الشهر الماضى، شاشات التلفاز تعرض لقطات من الحرب الدائرة فى القوقاز فيزداد رعب الناس فى البيوت، جروزنى تتحول إلى حمام دماء ومدينة أشباح والجثث فى كل مكان.
لاحظت فى آخر يومين أن جاليا توقفت عن الكلام معى، بدأت تطيل النظر فى صورة معلقة فوق تلفاز معطوب قرب النافذة. الصورة بتاريخ أبريل 1941 لشاب وسيم ممشوق فى زى عسكرى.
ليتنى ما سألتها عن صاحب الصورة! «هذا شقيقى بافل زمن حصار الجيش النازى لمدينتنا قبل 56 عاما، كنت وقتها طفلة فى الخامسة. آخر مرة رأيت فيها بافل كنت أقف مع شقيقتى خلف أمى فى الممر الذى تدير له ظهرك الآن. كادت المدينة تسقط ليلتها، القتلى فى كل مكان، الجوعى يموتون كل يوم، كان الجحيم ثلاثيا: ثلوج ونيران ومجاعة. جاء بافل يقف عند الباب يطلب من أمى دفئا وطعاما وراحة لبضع ساعات.
حالت أمى بينه وبين الدخول، سدت بذراعيها الباب قائلة:
أتريدهم أن يقتلوا أخوتك فى هذا البيت، لقد مر علينا رجال الحزب وحذرونا، قالوا لو أخفيتم جنديا عائدا من الجبهة فالإعدام مصيركم جميعا، أنت تعرفهم، قتلوا كل من فى البيت المقابل حين استراح عندهم ابنهم الأسبوع الماضى. قبلت أمى يده مرتين وقالت له عد من حيث أتيت يا بافل، ارحم أخوتك الصغار» مضت جاليا تكمل حديثها: «حين جاء الصباح، فتحت أمى الباب سعيا وراء طعام يسد جوع بطوننا، لكنها صرخت عند الباب صرخة الموت، كان بافل قد سقط بين يديها جثة متجمدة داخل الممر، لم يكن قد عاد إلى خط النار، ظل طيلة الليل واقفا مستندا على الباب حتى تسمر ميتا فى مكانه من شدة البرد ».
كنت قد حزمت حقيبتى وكتبى، وكانت قصة بافل هى آخر ما سمعت فى قدس الأقداس فى بيت جاليا.
لملمت أوراقى عائدا إلى سكنى فى الجامعة، مشيت على مهل فى الممر، تلمست برفق الباب الذى مات عنده بافل...لم أجرؤ على النظر خلفى لأرى جاليا...
حين غادرت بيت جاليا، لم أكن أنا ذلك الفتى الذى جاء هنا قبل نصف عام،
مشيت على غير هدى، ركبت الترام رقم 7.

عاطف معتمد الدكتور عاطف معتمد
التعليقات