دلالات الأرقام - مدحت نافع - بوابة الشروق
الخميس 9 مايو 2024 2:39 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

دلالات الأرقام

نشر فى : الإثنين 19 سبتمبر 2022 - 8:30 م | آخر تحديث : الإثنين 19 سبتمبر 2022 - 8:30 م
إذا كانت الأرقام تنطق بالحقيقة، فإن ضبط تلك الأرقام يكون أمرا ضروريا لاستجلاء الحقائق. وإذا كانت المؤشرات الاقتصادية التى تعلنها الحكومات هى مقدمات ضرورية لتشخيص وتحليل الوضع الاقتصادى للدولة، فإن ذلك التشخيص هو النواة الأولى للوقوف على طبيعة المخاطر والأزمات، والتى بدونها تصبح جميع محاولات الخروج من الأزمة ضربا من العبث.
مثلا، ما هى دلالة نسبة 40% التى يحتلها الغاز الطبيعى الروسى من استهلاك أوروبا؟ إنها تعكس درجة كبيرة من تركز المخاطر فى يد دولة واحدة، وهى دولة يسودها نظام سياسى سلطوى، ومن ثم فإن درجة التركز تكون أكبر ودرجة المخاطر بالتبعية؛ لأن قرار قطع الغاز عن أوروبا يتوقف بنسبة 40% على رجل واحد!. كان ذلك البيان متاحا للكافة قبل اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، وكانت إدارة الرئيس الأمريكى السابق «دونالد ترامب» أول من نادى أوروبا بضرورة البحث عن بدائل للغاز الروسى، حيث اعتزمت فرض عقوبات على مشروع «نورد ستريم» لتصدير الغاز من روسيا الاتحادية، وعندها خاطبت الإدارة الأمريكية قطر لزيادة طاقاتها التصديرية لأوروبا، لتزيد حصتها السوقية من الغاز المصدر إلى القارة العجوز عن الـ5% التى كانت عليها آنذاك وأظنها ما زالت.
إذا كانت أوروبا بقيادة ألمانيا (الأكثر احتياجا للغاز الروسى والأكبر وزنا وثقلا فى الاتحاد الأوروبى) لم تتحرك للاستفادة من هذا البيان الخاص بنسبة الغاز الطبيعى المستورد من روسيا، فإن أوروبا كلها أصبحت مضطرة للتعامل مع أزمة شتاء مظلم بارد، ومصانع متوقفة، وارتفاع فى فاتورة الغاز بلغ فى ألمانيا عام 2021 وحدها ما يقرب من 400%. أما التعامل المبكر مع احتمالات انقطاع مصادر الطاقة حتى قبل أن تندلع الحروب وتستعر التوترات، فهو ما يميز «إدارة المخاطر» عن «إدارة الأزمات».
• • •
على الصعيد المحلى فإن رئاسة الوزراء فى مصر قد صدر عنها أخيرا «إنفوجراف» هام للغاية، يقارن بين الأداء الاقتصادى فى عام 2021/2022 ونظيره فى عام 2013/2014 والذى طغى عليه حكم جماعة الإخوان (لا أعاده الله). مناط أهمية هذا التحليل أنه يستعرض بلغة الأرقام والمؤشرات الوضع الاقتصادى الكلى لمصر. ولأن لكل تحليل معلوماتى مفاتيح مثل مفاتيح الخرائط، فإن التحليل المنشور قد ارتكز على مفتاح أساس وهو الناتج المحلى الإجمالى لمصر. هذا البيان الذى سجل نموا سنويا 6.6% مقارنة بـ 2.9% عام 2013/2014، هو ذاته الذى صار مقاما لمختلف المؤشرات الكلية المستدل بها على تطور الأداء الاقتصادى لمصر خلال ثمانية أعوام. الدين العام مثلا ينسب إلى حجم الناتج المحلى الإجمالى، وكذلك عجز الموازنة، وإيراداتها ومصروفاتها... إلى غير ذلك من بيانات يفضل أن نقرأها كنسبة مئوية أو بالمقارنة بتاريخ سابق أو بلد آخر من أن تقرأ كرقم مطلق لا دلالة له. غير أن هذا الأمر يجعل جميع البيانات موقوفة على دقة هذا المقام، حتى تساعد قراءة المؤشرات على فهم الواقع وتشخيص الداء قبل كتابة روشتة العلاج. فإذا كانت جميع البيانات المستخدمة فى العرض سليمة ومدققة خلال هذا البيان، فإننا نكون بصدد مشكلة حقيقية. ولأن الناتج المحلى الإجمالى بالأسعار الجارية لا يعكس أى تطور حقيقى فى حجم الاقتصاد وقوته، لأنه عرضة لمعدل التضخم الذى يمكن أن يغير دلالته تماما، فإن كل ما سبق أن ذكرناه عن الناتج المحلى الإجمالى ينسحب بالضرورة على معدلات التضخم.
لتبسيط ذلك دعونا نتخيل أن إجمالى ما أنتجه المجتمع من سلع وخدمات عن العام الماضى بالأسعار الجارية هو تريليون جنيه، وأن ما تم إنتاجه بنهاية العام المالى التالى هو 1.1 تريليون جنيه بأسعار السوق (الجارية) فهذا يعنى أن معدل النمو فى الناتج المحلى الإجمالى بأسعار السوق هو 10%. فلو أن معدل تضخم الأسعار خلال ذات الفترة كان 15% فإن معدل النمو «الحقيقى» فى الناتج المحلى الإجمالى يكون بالسالب، لأن تضخم الأسعار قد أكل بالفعل نسبة النمو البالغة 10% وأكل فوقها 5% من قيمة ما تم إنتاجه هذا العام مقارنة بالعام الماضى. لذا فلو أن تقديرات الناتج المحلى الإجمالى سليمة ومدققة بالأسعار الجارية، فإن تقديرات معدل التضخم يمكنها أن تقضى على مصداقية هذا البيان، ومن ورائه مختلف المؤشرات التى اتخذته مقاما ونسبت إليه.
لا يعنى ما سبق التشكيك فى دقة تقديرات أى من البيانات التى يتم إعلانها، ولكن الاعتمادية المتبادلة للبيانات يجعلها بنيانا واحدا لا يجوز إهمال أى من أجزائه. هذا يدعونا إلى التأمل فى جدول تم تداوله حديثا (بتاريخ 8/9/2022) للاقتصادى الأمريكى «ستيف هانكى» أستاذ الاقتصاد بجامعة «جونز هوبكنز» الأمريكية، وهو الجدول الذى تضمن تقديرات لمعدلات التضخم بعدد من الدول، قائمة على تعادل القوى الشرائية، وحسابات سعر الصرف الحقيقى، وقيمته فى السوق السوداء، بالمقارنة بمعدلات التضخم الرسمية المعلنة فى كل من تلك الدول. وقد كانت مصر واحدة من الدول التى تضمنها جدول «هانكى» بمعدل تضخم سنوى قدره بنسبة 34% مقارنة بمعدل تضخم رسمى معلن بلغ فى أغسطس الماضى 14.58%. هذا التفاوت بين البيان الرسمى وتقديرات الاقتصادى الأمريكى نلاحظه فى عدد من الدول ومنها سريلانكا مثلا، التى سجلت وفقا له معدل تضخم بلغ 106% مقارنة بنسبة معلنة بلغت 64.30%.
وإذ وجب التنويه إلى أن صدور تلك التقديرات عن أستاذ مرموق بجامعة مرموقة لا يكفى للوثوق به كبديل معتبر لتقديرات معدلات التضخم، فإنه يتعين البحث فى منهجية مؤشراته، والوقوف بدقة على أسباب التفاوت فى التقدير، التى وإن لم تعكس بشكل كامل الفرق بين معدلات التضخم الرسمية والواقعية، فإنها ربما (ولا أجزم بغير دراسة) عكست جانبا من حقيقة ذلك التفاوت المحتمل. هذا يعيدنا إلى مطالبتى الدائمة لوزارة التخطيط ومن تحتها الجهاز المركزى للتعبئة العامة والإحصاء، بأن تفصح بوضوح عن أية تغييرات فى منهجية حساب معدلات التضخم، عساه يكون من شأنها تخفيض ذلك المعدل (قبل الأزمة الأوكرانية الأخيرة) إلى ما دون الرقمين below the two digits أى ما دون 10%، وهى مسألة لا تحدث فجأة ولا يمكن العبور فوقها دون احتفال وتبرير، علما بأن مصر استمرت لسنوات تعانى التضخم المزمن المتسبب فيه جانب الطلب فى الأساس، والذى لا يقل عن الرقمين إلا فيما ندر.
قراءة الأرقام أيضا يجب أن تكون شفافة وغير انتقائية. ففى عرض بيانات الإنفوجراف المشار إليه سابقا لاحظت أن نسبة المصروفات العامة إلى الناتج المحلى الإجمالى قد انخفضت خلال فترة المقارنة، الأمر الذى وصفه الشرح المرافق بأنه تحسن فى أداء المالية العامة بترشيد النفقات. بينما كان تراجع نسبة الإيرادات العامة إلى ذات المقام (الناتج المحلى الإجمالى) مؤشرا سلبيا، لجأ الشرح المرافق إلى تبريره بالزيادة الكبيرة فى الناتج المحلى الإجمالى رغم زيادة الإيرادات! الكيل هنا بمكيالين يضعف من مصداقية البيانات والمؤشرات، ويعطى انطباعا بأن صاحبها يريد أن ينتقى منها ما يناسب استنتاجاته، حتى ولو لم يكن هذا مراده.
• • •
لن تكون هناك دراسة جادة للأزمات الاقتصادية، ولن يجدى حوار اقتصادى نخبويا كان أو شعبويا إلا بتشخيص صادق للوضع الراهن، ومكاشفة مخلصة منزهة عن أى تحيز لوجهة نظر، أو أية محاولة لتبرير قرار خاطئ. لا يوجد فى التاريخ قرارات مثالية خالية من الأخطاء، بل إن خلو السلوك الاقتصادى من الخطأ يجعله ناقصا معيبا، بمعايير بشرية الفرد الاقتصادى، التى تميزه بكل تأكيد عن الآلة الصماء.
مدحت نافع خبير الاقتصاد وأستاذ التمويل
التعليقات