أسئلة المسيحية الأولى - عماد الغزالي - بوابة الشروق
السبت 18 مايو 2024 9:06 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

أسئلة المسيحية الأولى

نشر فى : الخميس 19 مارس 2009 - 6:50 م | آخر تحديث : الخميس 19 مارس 2009 - 6:50 م

 «عزازيل» رواية تثير تساؤلات فلسفية ودينية وتكشف الصراع بين كنيسة الإسكندرية وكنيسة أنطاكية فى القرن الخامس الميلادى.

منطقة شائكة تلك التى يقترب منها مؤلف هذه الرواية: وهو باحث متخصص فى التراث ويشغل منصب مدير مركز المخطوطات فى مكتبة الإسكندرية، فالموضوع الذى اختاره لروايته يمس بصورة مباشرة صلب عقيدة «التثليث» ويستعيد الجدل الدامى فى تاريخ الكنيسة حول «ألوهية» المسيح، والذى راح ضحيته كثيرون من العوام والقساوسة، مستخدما عدة حيل فنية سنشير إلى بعضها حالا، كى يتم التعامل مع الرواية فنيا وأدبيا، لا دينيا وتاريخيا، برغم الوثائقية الوفيرة التى لا ينكرها، وبرغم صدقية الوقائع التى لا شك أنه اختبرها بالرجوع إلى المصادر الأصلية ذات الصلة بالموضوع.

يتخفى المؤلف خلف المترجم، ويتخفى المترجم خلف الراوى، والأخير راهب مصرى يدعى «هيبا» ترك مجموعة من اللفائف «الرقوق» تم اكتشافها قبل عشر سنوات فقط بالخرائب الأثرية الواقعة إلى الشمال الغربى من مدينة حلب فى صندوق خشبى محكم الإغلاق، وهى مكتبة بالسريانية، يحكى فيها سيرته وما لاقاه فى حياته من أهوال وما كان شاهدا عليه من حوادث، بما يعنى أن دور المؤلف المترجم يقتصر فقط على الترجمة العربية الأمينة للرقوق، وأنه لم يتدخل بحسب ما يؤكد فى مقدمته إلا لترجمة أسماء بعض المدن القديمة إلى مسمياتها المعاصرة، أو تحويل تواريخ قبطية إلى ما يقابلها من أيام وشهور وسنوات على النحو الذى باتت معروفة به اليوم.

وزيادة فى الإيهام، فإن المؤلف المترجم يتدخل بتعليقات موجزة فى الحواشى لشرح ما يغمض على القارئ فى النص الأصلى، من ذلك مثلا كتابته فى الرق السابع: «أن هذا هو المكتوب فقط فى هذا الرق، وبين السطور شطب كثير ودوائر متداخلة، وعلى الحواف وبأيد مضطربة رسم الراهب هيبا فى الفراغ المحيط بالكلمات صلبانا كثيرة متفاوتة الحجم».
أو أن يكتب فى حاشية أخرى: هذا الموضوع من المخطوطة فيه اضطراب ملحوظ فى رسم الكلمات، أو أن يشرح لنا بوصفه مترجما بعض الكلمات التى ترد فى الرقوق مثل كلمة «متنيح» التى تعنى «متوفى» أو بعض الوصفات الطبية التى يوردها هيبا بوصفه معالجا واستخداماتها، أو يخبرنا أنه بحث عن اسم «هيبا» هذا فى المراجع القديمة والحديثة فلم يجده، وإن تأكد بصورة حاسمة من صدق الواقعة التى أوردها فى رقوقه ودقتها بما يعنى أن الوقائع الواردة صحيحة من الناحية التاريخية، أما ما يخص المؤلف منها وما يتعلق بحياته الشخصية وارتباكاته ومساعيه وآرائه فلا يمكن التحقق من صدقيتها لأنها روايته دون غيره.

وبهذا القدر من الإيهام، فإن على قارئ الرقوق أن يتعامل معها على مستويين، مستوى وثائقى لا يمكن الشك فى محتواه بعدما استوثق المترجم المؤلف شخصيا منه، ومستوى سردى لابد من قبوله كما رواه لنا صاحب الرقوق بوصفه سيرة ذاتية.

والحقيقة أن القدرة الفنية العالية للمؤلف تتبدى فى هذا المزج البديع بين المستويين، بلغة جميلة وأسلوب لا يخلو من تشويق وحرفية.

يبدى المؤلف «تعاطفا واضحا مع «النسطوريين»، وهم أتباع «نسطور» القس الأنطاكى الشهير من بلدة «جرمانيقى» وهى بلدة فى الشام صارت تعرف اليوم باسم «مرعش» وهم يرفضون الفكرة القائلة بألوهية المسيح، فهو برأيهم مولود من بشر، والبشر لا يلدون آلهة. يقول نسطور مخاطبا «هيبا»: كيف نقول إن السيدة العذراء ولدت ربا، ونسجد لطفل عمره شهور لأن المجوس سجدوا له، المسيح معجزة ربانية، إنسان ظهر لنا الله من خلاله وحل فيه ليجعله بشارة الخلاص وعلامة العهد الجديد للإنسانية.

وكانت آراء نسطور تلك هى التى أدت إلى عزله من الأسقفية ونفيه بقرار من المجمع المقدس الذى انعقد فى مدينة «أفسوس» بروما، وشهده الامبراطور الرومانى نفسه فى 27 سبتمبر من عام 431 ميلادية.. «وهى السنة المشئومة التى حرم فيها وعزل الأسقف المبجل» نسطور «واهتزت أركان الديانة، بحسب ما يقول «هيبا». ومثّل عزل «نسطور» ونفيه انتصارا لكنسية الإسكندرية برئاسة الأسقف «كيرلس» فى مواجهة كنيسة أنطاكية، متأسيا بما فعله قبله الامبراطور «قسطنطين» الذى عرف فى تاريخ الكنيسة بمحبوب الإله وحامى الإيمان ونصير يسوع، والذى سبق له أن حرم الأسقف «آريوس» لقوله إن المسيح إنسان لا إله، وأن الله واحد لا شريك له فى ألوهيته قبل «نسطور» بنحو مائة عام، وقد جرى ذلك فى المجمع المسكونى الذى عقد فى مدينة «نيقية» الواقعة اليوم على حدود تركيا، والتى صارت تعرف باسم «أزنيق» عام 325 ميلادية.

وما جرى من الإمبراطور «قسطنطين» برأى «نسطور» كان تلبيسا. يقول نسطور مخاطبا هيبا: إبليس هو المحرك الرئيسى لكل ما جرى، وأعنى بإبليس شيطان السلطة الزمانية التى تغلب سكرتها الناس، فينازعون الرب فى سلطانه ويتمزعون فيما بينهم فيفشلون وتذهب ريحهم بددا، تغلبهم أهواؤهم فيتحامقون ويخالفون روح الديانة سعيا لامتلاك حطام الدنيا الفانية.

وبرأى «نسطور» فإن قسطنطين بعدما فرغ من تثبيت سلطته بالحرب ضد قدامى رفاقه العسكريين، أراد الظفر بالولاية الدينية على رعاياه، فدعا كل رءوس الكنائس للمجمع المسكونى وأدار جلساته وتدخل فى الحوار اللاهوتى ثم أملى على القساوسة والأساقفة القرارات.

وبرغم أنه وصف الخلاف بين الأسقف «آوريون» وأسقف الإسكندرية فى زمانه «إسكندر» حول طبيعةالمسيح بأنه تافه وسوقى وأحمق ووضيع، فإنه انتصر لأسقف الإسكندرية ليضمن قمح مصر ومحصول العنب السنوى.
وتحتشد الرواية بصور عديدة للمذابح التى جرت فى الإسكندرية، والأهوال التى لاقاها الوثنيون واليهود على أيدى المسيحيين، حين صارت المسيحية هى ديانة الامبراطورية الرومانية الرسمية وغالبية العائشين فى الإسكندرية.
ولعل مشهد سحل «هيباتيا» أستاذة الرياضيات المشهورة والجميلة أيضا فى شوارع المدينة، ثم حرقها بعد أن تمزقت أعضاؤها وانسلخ جلدها عن لحمها، وكذلك قتل أسقف المدينة «جورج الكبادوكى» الذى مزقته جماعة «محبى الآلام» بالسواطير فى الحى الشرقى عام 361 ميلادية، أبلغ الدلائل على الوحشية التى تعاملت بها كنيسة الإسكندرية مع مخالفيها.
أما قتل «هيباتيا» فقد جرى فى أعقاب خطبة حماسية للأسقف «كيرلس» ارتجت لها الجموع التى احتشدت لسماعها وآثارها ما قاله عن تطهير المدينة من الوثنيين واليهود كى لا يبقى فيها غير شعب الرب.

كتب «هيبا» فى رقوقه:
«سحبها بطرس من شعرها إلى وسط الشارع وحوله أتباعه من جند الرب يهللون. حاولت هيباتيا أن تقوم برفسها أحدهم فى جنبها، فتكومت ولم تقو على الصراخ. أعادها بطرس إلى تمددها على الأرض بجذبة قوية من يده الممسكة بشعرها الطويل. الجذبة القوية انتزعت خصلات من شعرها فرماها، وأمسك شعرها بكلتا قبضتيه وسحبها خلفه، ومن خلفه أخذ جنود الرب يهتفون هتافه ويهللون له وهو يجر ذبيحته».

وحين حاولت «أوكتافيا» إنقاذها بأن ألقت بنفسها فوقها لتحميها، اندست فيها الأذرع فرفعتها عن «هيباتيا» وألقتها بقوة على جانب الطريق، اصطدم رأسها بالرصيف وانسحج وجهها فتلطخ بالدم والتراب، حاولت المرأة أن تقوم فضربها أحدهم على رأسها بخشبة عتية بأطرافها مسامير فترنحت المرأة وسقطت من فورها على ظهرها والدم يتفجر من أنفها وفمها ويلطخ ثوبها.

أما«هيباتيا» فقد صرخت عجوز من بعيد «اسحلوا هذه العاهرة، فانطلقت الأيدى تنزع عنها رداءها حتى صارت عارية تماما ثم أتوا بحبل خشن ولفوه حول معصمها وأخذوا يجرونها فى شوارع الإسكندرية، ثم أمسكت الجموع بأصداف البحر وراحوا ينزعون به لحمها قطعة قطعة حتى إذا بلغ نحيبها من فرط الألم عنان السماء، وحين سنت صرخاتها، ألقوها فوق كومة كبيرة من قطع الخشب ثم أشعلوا النار.

ما يسرده «هيبا» فى رقوقه من وقائع تتجاهلها بعض الكتب التى تؤرخ للكنيسة، وتذكرها بعضها بتأويل مختلف، فالأسقف «ثيو فيلوس» أسقف الإسكندرية (385م) نما فى جو من العلم والفضيلة، وانتشرت المسيحية فى عهده، حيث بنى عددا من الكنائس لتفى بحاجة المؤمنين فى المدينة، وأنشأ عددا كبيرا من الأديرة واستولى على المعابد المصرية ومنها معبد السيرابيوم العظيم بالإسكندرية وحولها إلى معابد مسيحية، وهى أعمال من وجهة نظر هؤلاء المؤرخين عظيمة وتستحق الثناء.

أما ابن أخيه «كيرلس الأول» فهو دارس للعلوم الطبيعية والفلسفية واللاهوت، وقد ارتقى كرسى البابوية فى العام 412 ميلادية.. وفى أيامه ظهرت بدعة نسطور أسقف القسطنطينية والتى مؤادها أن للسيد المسيح أقنومين أحدهما إنسانى والآخر إلهى، وأن السيدة العذراء ليست والدة الإله بل والدة المسيح، ودحض البابا كيرلس هذه البدعة وأثبت الإيمان الأرثوذكسى الصحيح وهو أن للسيد المسيح أقنوما واحدا دون اختلاط أو امتزاج أو استحالة وأن السيدة العذراء تدعى بحق والدة الإله.

وفى الوقت الذى يظهر فيه «هيبا» الأسقف كيرلس شخصا متصلبا متشددا قاسيا رافضا لأى وجهة نظر مخالفة، يراه مؤرخو الكنيسة واحدا من الآباء الكبار الذى شيدوا مجد الكنيسة وحموها من الفتن والهزات، وحيت تتطرق إلى خلافه مع نسطور تؤكد أنه تحاور معه مرات. وأرسل له عشرات الرسائل كى يتوب عن ضلاله ويثوب إلى رشده إلا أنه أبى، فما كان من كيرلس إلا العودة إلى الإمبراطور لحسم الأمر، ومن ثم فلم يكن لكيرلس ذنب فى عزل نسطور ونفيه ووفاته فى منفاه، ولم يكن فى الأمر شبهة مؤامرة أو تحزب أو استعداء.
فى الوقت الذى يتهم فيه «نسطور» صراحة «كيرلس» بالفساد والرشوة، وبحسب ما أخبر «هيبا» فقد دفع «كيرلس» رشاوى كثيرة وقدم هدايا للجنة القضائية التى أرسلها الإمبراطور للتحقيق فيما جرى لهيباتيا.

ويعدد مؤرخو الكنسية أشكال الاضطهاد والعذابات التى لاقاها المسيحيون على أيدى الرمان دون أن تشير بالقدر نفسه من الإفاضة إلى اضطهاد المسيحيين للوثنيين واليهود وأصحاب المعتقدات الأخرى.
وفى كثير من المواضع بالرواية يصف «هيبا» أساقفة كنيسة الإسكندرية بالقسوة والغلاظة وضيق الأفق.
أما «هيبا» نفسه فقد عانى اضطرابا نفسيا وروحيا شديدا، وشهد من الأهوال فى حياته ما زاد نفسه حيرة وهز إيمانه وزعزع عقيدته، وهى حيرة لازمته حتى نهاية حياته.

جاء «هيبا» وهو الاسم الكنسى الذى اختاره صاحب الرقوق لنفسه عقب خروجه من الإسكندرية ــ وهو كما لاحظ نصف اسم الأستاذة الوثنية التى سحلها المسيحيون فى شوارع المدينة والتى هام بها هيبا ــ من بلدة فى جنوب مدينة أسوان فى صعيد مصر، وتلقى تعليمه الأولى والكنسى فى نجع حمادى أخميم، قبل أن يرتحل إلى الإسكندرية المقر البابوى للأرثوذكسية والتى كانت مقصدا لكل طالب علم وباحث فى شئون الديانة وكان هدفه أن يواصل دراسته للطب الذى نبغ فيه، فقرأ ما كتبه أبقراط وجالينوس وغيرهما فى فن العلاج والتداوى وحفظه عن ظهر قلب، وأنهى حياته فى صومعة بدير على أطراف مدينة حلب التى ارتحل إليها بعد سنوات قضاها فى «أورشليم» تنفيذا لنصيحة القس «نسطور» الذى التقاه لأول مرة فى هذه المدينة المقدسة حين جاءها حاجا بصحبة القس تيودور المفسر وهو من أجلاء آباء الكنسية الأنطاكية.

***
ولعله من المفيد هنا أن نشير إلى «نتف» من حياة هيبا قبل ارتحاله إلى الإسكندرية، فنشأته الأولى تفسر حالات الشك والقلق والتيه التى عاناها وعاينها فى حياته.
كان «هيبا» فى التاسعة من عمره حين رأى بعينيه هذا الحدث المروع، ذبح أبيه على أيدى جماعة من عوام المسيحيين.
كان الطفل بصحبة والده فى قارب الصيد الذى يملكه سعيا للرزق بالقرب من جزيرة «ألفنتين» بنيل أسوان، وقد اعتاد الأب أن يقتسم حصاد يومه من الأسماك مع الكهنة المحاصرين المتحصنين بمعبد الإله «خنوم» منذ سنين متحسرين على اندثار ديانتهم مع انتشار عقيدة المسيح، حين برز فجأة مجموعة من عوام المسيحيين الذين كانوا يختبئون بين الصخور وقد أخرجوا من بين طيات ملابسهم الرثة سكاكين صدئة انهالوا بها طعنا على الصياد الفقير، هرولوا نحوه كأشباح مخيفة وسحبوه من قاربه وجروه على الصخور ليقتلوه طعنا بالسكاكين، كان الأب يصرخ تحت طعناتهم وكانوا هم يصرخون متهللين وهو يرددون فى نشوة: المجد ليسوع المسيح والموت لأعداء الرب.

رأى الطفل ذلك كله من مكمنه فبقى فى ذاكرته إلى الأبد، وما زاد إيلامه هو خيانة الأم، التى عرف بعدها أنها أوشت بالأب لدى قاتليه وتزوجت من أحدهم وهى مأساة تذكرنا بتلك التى عاناها بطل شكسبير الأسطورى هاملت.
عاش الصبى فى كنف عمه، وحين بلغ الثامنة عشرة، اختار له العم خدمة الكنيسة ومهنة التداوى، ربما ليخفف عن نفسه الشقية بعض ما لاقاه فى سنين حياته المبكرة.

فى الإسكندرية سيلتقى «هيبا» مع «أوكتافيا» وهى امرأة من الوثنيين كانت تقيم بمنزل أحد التجار الصقليين الأثرياء، تولاها برعايته واتخذها ابنة له بعدما عانته فى حياتها، وأما هى فقد هامت بـ«هيبا» عشقا، إذ كانت تنتظره وفقا لنبوءة عرافة عجوز عند البحر، وأما هو فقد استمتع معها بـ«الخطية» واكتشف رجولته للمرة الأولى، وفى لحظة المكاشفة حين قالت له إن رهبان الإسكندرية يتقلون الناس ببركات «كيرلس» الأشد هوسا، اعترف لها أنه راهب مسيحى فصرخت فى وجهه بعد أن تبدلت قسماته وانقلب عشقها إلى كراهية هادرة: اخرج من بيتى يا حقير، اخرج يا سافل.

يظهر «عزازيل» فى كثير من مواضع الرواية و«عزازيل» هو إبليس أو الشيطان الذى وعز إليه بارتكاب الخطايا ويجمل فى عينيه المعاصى، يتبدى فى مجادلات «هيبا» القلقة مع نفسه، ومجسدا فى هيئة أشخاص يصادفهم فى مسيرة حياته المليئة بالعذابات والمآسى، وسنلاحظ أن رحلة «هيبا» إلى اليقين لم تصل أبدا إلى منتهاها، فبقى دائما فى دوائر الشك والقلق والريبة حتى حط الجسد رحاله.

يتساءل «هيبا» الذى اختار حياة الرهبنة: هل أخرج غدا صباحا ــ يقصد من الدير ــ ولا أعود قط؟ لست على كل حال معتقلا بين هذه الجدران، ما معنى بقائى هنا، لقد بدأ المسيح يسوع بشارته العظمى بين الناس، لا وسط الجدران والرهبان والقسوس، كانت حوله حياة حقيقية، فلماذا نموت نحن قبل أن نموت.

وأرجو أن نلاحظ أن الرهبنة اختراع أصيل للكنيسة المصرية، وحين يقرر الشخص أن يترهبن فإنه يودع الدنيا بكل ما فيها ويختار لنفسه اسما غير الذى عرف به فيها، دلالة على نهاية كل ما يربطه بالحياة الفانية، فهل من يتحدث هنا هو الراوى «هيبا» صاحب الرقوق، أم المترجم، أم المؤلف نفسه؟.

من حيرة «هيبا» نقرا قوله: نظر إلى الثوب الممزق فى تمثال يسوع، ثم إلى الرداء الموشى للأسقف «كيرلس» صدوره ومعظم أعضائه، وملابس الأسقف محلاة بخيوط ذهبية تغطيه كله وبالكاد تظهر وجهه، يد يسوع فارغة من حطام دنيانا، وفى يد الأسقف صولجان أظنه من شدة بريقه مصنوعا من الذهب الخالص، فوق رأس يسوع أشواك تاج الآلام وعلى رأس الأسقف تاج الأسقفية الذهبى البراق، بدا لى يسوع مستسلما وهو يتقبل ضحيته بنفسه على صليب الفداء، وبدا لى «كيرلس» مقبلا على الإمساك بأطراف السموات والأرض.

وبعدما شاهد «هيبا» نفسه ما جرى لـ«هيباتيا» انتزع الصليب الذى كان معلقا فى عنقه وألقاه على الأرض: «أحسست براحة مفاجئة حين انتزعت الصليب عن عنقى وتركته يسقط على الأرض.

وحين يسأل «نسطور» عن التناقضات بين ديانتهم القائمة على الفداء والمحبة والأفعال التى تجرى باسم المسيح فى شوارع الإسكندرية يقول له «نسطور»: يا هيبا ما يجرى فى الإسكندرية لا شأن للديانة به، إن أول دم أريق فى هذه المدينة بعد انتهاء زمن الاضطهاد الوثنى لأهل ديانتن كان دما مسيحيا أراقته أياد مسيحية، فقد قتل الإسكندرانيون قبل خمسين سنة أسقف مدينتهم «جورجيوس» لأنه كان يوافق على بعض آراء «آريوس» السكندرى. وقتل الناس باسم الدين لا يجعله دينا، إنها الدنيا التى ورثها «ثيوفيلوس» وأورثها من بعده ابن اخته «كيرلس» فهم أهل سلطان لا أصحاب إيمان، أهل دنيوية لا محبة دينية.

ومن حيرته هذه النوعية من الأسئلة التى تبرهن على غياب اليقين أو تشويشه، يتساءل «هيبا»: من الذى كان موجودا قبل وجود الإنسان على الأرض، الله، الملائكة، الشيطان، ماذا كانوا جميعا يفعلون قبل وجودنا وانشغالنا بهم؟.
ويسأل: ما الأرثوذكسية، أهى ما يقررونه فى الإسكندرية أم ما يعتقدونه فى أنطاكية، هل هى إيمان الآباء الأولين الأتقياء المقدسين، أم هى الاعتقادات الوثنية التى فتك أهلها بآباء أولين، صاروا مع الأيام أتقياء ومقدسين؟.
ولا يفوت «عزازيل» أن يشاكسه فى حالات مثل تلك، أنت قلق يا «هيبا» مما فيك، وتعرف أنك ستفقد «مرتا» مثلما فقدت من قبل ما كان لك حلم النبوغ فى الطب، الأمل فى إدراك سر الديانة، الغرام بأوكتافيا، الولع بهيباتيا، الاطمئنان بالغفلة، الإيمان بالخرافات.

وأما «مرتا» فهى فتاة فى العشرين من عمرها عشقها «هيبا» وقت أن كان راهبا فى أحد الأديرة بأطراف حلب، وكان وقتها جاوز الأربعين من عمره، واقترف معها الخطية وحين طالبته بأن يتزوجها رفض بحجة أن ذلك محظور فى ديانة المسيح: «ففى إنجيل متى الرسول مكتوب: من يتزوج مطلقة فهو يزنى».
فترد عليه «مرتا»: وما الذى كان بيننا فى الكوخ بالأمس، ألم نكن نزنى؟.
وقد أدرك «هيبا» فى أخريات أيامه ما تعانيه روحه ونفسه القلقة، يقول مخاطبا نفسه: لم أر شيئا أبدا من داخله، أنا أطوف دوما بظواهر الأشياء ولا أغوص فيها «..» كل ما فىّ ملتبس، عمادى رهبنتى، إيمانى، أشعارى، معارفى الطبية، محبتى لمرتا، أنا التباس فى التباس، والالتباس نقيض الإيمان، مثلما إبليس نقيض الله.

أما الذريعة التى يقدمها المؤلف لمناوئيه المحتملين من أبناء الكنيسة ــ وهى ذاتها درعه الواقية يدفع بها أذى من سيخلطون حتما بين الراوى وبينه ــ أن الراهب «هيبا» نفسه ليس نموذجا لصفاء الإيمان ونقاء العقيدة، فسيرته التى تحكيها رقائقه المفترضة، تكشف عن إنسان موغل فى الإثم مرصع بالخطايا، ومن ثم فإن أقواله وأفعاله وترهاته وظنونه وآراءه ومعتقداته وضلالاته، هى من طبائع شخص اختار الدنيا بما فيها وليس راهبا هجرها وودع زخارفها، وهى حجة ــ وحيلة ــ مقنعة كما نرى.

عماد الغزالي كاتب صحفي
التعليقات