دقة ستى - تمارا الرفاعي - بوابة الشروق
الجمعة 19 أبريل 2024 12:40 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

دقة ستى

نشر فى : الأربعاء 18 أكتوبر 2017 - 9:25 م | آخر تحديث : الأربعاء 18 أكتوبر 2017 - 9:25 م
كانت جدتى تستقبل صديقاتها فى أول خميس من كل شهر، فقد كانت كل سيدة فى المجموعة تحدد يوما فى الشهر تستقبل فيه الأخريات. هذا الطقس الممارس أصلا اسمه «استقبال» وهو قائم على فكرة ما أصبح يسمى اليوم بـ«البيت المفتوح»، أى أن يعلم الجميع أن بإمكانهم زيارة البيت فى اليوم المحدد، فلا يدعى أشخاص بعينهم إنما تحضر سيدة المنزل نفسها على استقبال عدد تقريبى من نساء العائلة والحارة والحى.
***
استقبال الست أم مروان يوم الخميس، تردد السيدات قبل أيام من يوم اللقاء. وجدتى فى تلك الأثناء تكون قد بدأت بتحضيرات الاستقبال، فتطلب من جدى أن يأتيها بالقهوة لتطحنها فى مطحنتها النحاسية اليدوية مع حبوب الهال، وتتأكد من أن فى مطبخها ما يكفى من مربى الكباد الذى سوف ترصه فى طبق إذ إن قطعه كبيرة وسكره قد جف، بعكس المربيات الأخرى. تتأكد جدتى أيضا من أن عصير التوت المحفوظ كجزء من «المونة» السنوية ما زال يحمل طعم ثمرات الشجرة كلها فى الزجاجة، فهى سوف تمده بالماء قبل دقائق من وصول ضيوفها.
***
فى يوم الاستقبال، تكون جدتى قد تأكدت من بريق كل أثاث البيت، والأهم من ذلك تكون قد سقت زرع حديقتها الخارجية والداخلية، أى ما يسمى بـ«أرض الديار» وهى فسحة مكشوفة على السماء فى داخل المنزل تحيط بها الغرف، ومع ارتواء الزرع تكون قد هومت على المكان رائحة كتلك التى تطلقها الأرض بعد المطر.
***
ما الذى ذكرنى اليوم باستقبال جدتى لصديقاتها وقد توقف فتح بيتها مرة فى الشهر منذ قرابة العشرين سنة؟ ذكرتنى به نغمات فاجأتنى وأنا أتابع صفحة صديقة على شبكة تواصل اجتماعى. أصابع تنتقل بخفة وثقة على أوتار عود قديم، موسيقى أظن أنها استوطنت رأسى مذ كنت طفلة وكأنها الموسيقى التصويرية خاصتى. هى «دقة ستى»، وستى باللهجة الشامية تعنى جدتى. هى معزوفة قديمة تعد من التراث الدمشقى ألفها عمر النقشبندى، الدمشقى الأصل، فى أوائل القرن الماضى، على خلفية موسيقى تراثية سورية أضاف إليها النقشبندى أسلوبه وعممها حتى أصبحت بالنسبة للدمشقيين كأنها نشيدهم الوطنى، وكأن «دقة ستى» هى الهوية السمعية لمدينة دمشق. 
***
كانت جدتى عازفة عود هاوية، لكنها كانت قد توقفت عن العزف حين أصبحت أنا فى سن أتذكرها فيه، إلا أننى وحتى رحيلها كنت أرى عودها القديم مغطى ببيت من القماش ينتظر أن تحن عليه صديقته دون أن تفعل. للذاكرة أسلوب بالتحايل على العقل، فرغم أننى شبه متأكدة أننى لم أر جدتى تعزف على العود قط، إلا أن باستطاعتى أن أتخيلها جالسة والعود بين يديها على الكنبة فى غرفة الاستقبال فى بيتها، بيتها الذى لم يعد موجودا أصلا إذ تم هدمه وزرعت مكانه عمارة سكنية بشعة المنظر. أتخيلها كما أتذكرها من طفولتى وكما حفظتها صور العائلة، ببشرتها البيضاء وشعرها الكستنائى، بعينيها العسليتين وجسمها الملفوف، كانت تحب المناسبات الاجتماعية ليس فقط لأنها تحب الناس، إنما أيضا لأنها تحب أن يقال عنها إنها مضيافة وأنيقة فى بيتها. 
***
فى يوم الاستقبال، كانت تترك باب الدار مفتوحا بعض الشىء، فتدخل الصديقات والقريبات دون أن تقرعن الجرس ثم ترفعن عنهن الحجاب، فلا رجال فى البيت يوم الاستقبال، هكذا كان العرف الاجتماعى فى الحى. تدخل النساء وتضعن معاطفهن وحجبهن على أحد كراسى المدخل، وتهرعن إلى المرآة لترتيب شعورهن ومسح خدودهن وشفاههن باللون الوردى الخفيف، قبل أن تتوجهن إلى غرفة الاستقبال حيث تكون جدتى قد أضاءت أنوارها ومدت «الضيافة» على طاولة تتوسط المكان. أذكر الاستقبال بوضوح، إذ كنت كثيرا ما أكون متواجدة يومه عند جدتى، سواء لأن والدتى كانت من ضمن الحاضرات أو لأنها كانت تتركنى عندها وتخرج مع صديقاتها فأبقى أنا، الحفيدة المدللة، فى حضور السيدات بعد أن تكون أمى قد ألبستنى وكأننا فى يوم العيد.
***
اليوم لا أعرف إن كانت نغمات «دقة ستى» هى التى تستحضر تيتة وصديقاتها، أم إن كانت صورة جدتى هى التى تحث عقلى على سماع أوتار العود، فالموضوعان ارتبطا فى قلبى ارتباطا يستحيل فكه. دقة ستى هى دمشق، هى بيت تقليدى تتوسطه حديقة فيها شجرة ليمون، وعلى أطرافها الكثير من أصص الزرع القصير الذى كان يعيش أيامها فى علب معدنية كانت يوما علب سمن على الأغلب. دقة ستى يعنى رائحة القهوة وضحكات سيدات جيل مضى، وجوههن مدورة ولا يلونها سوى حمرة خفيفة على الخدود والأفواه. دقة ستى هى أيضا طفلة عمرها ثلاث سنوات، تنتقل من حضن دافئ إلى آخر بعد ظهر يوم شتوى أشعلت فيه صاحبة المنزل صوبيا قديمة لتدفئة المكان، فاختلطت رائحة المازوت برائحة عطور خفيفة دخلت إلى الغرفة مع السيدات. دقة ستى هى دمشق كما لم يعد كثير منها موجودا اليوم، فمع رحيل جدتى ورحيل معظم صديقاتها، ومع هدم البيت القديم وتحول الحارة الحميمة إلى شارع تمر فيه السيارات، فقد أغلقت فى عقلى ألبوم الصور القديم على ضحكات جدتى وصديقاتها، ولففته بورق الحرير المطرز يدويا والذى لطالما تفنن بصنعه الدمشقيون. حشرت فى الألبوم أيضا أصابع جدتى وهى تعزف مقطوعة عمر النقشبندى، حتى أننى ما إن أسمعها فى أى مكان وأى وقت حتى تتحرك أمامى سيدات فى دلال، يتمايلن بوقار على الموسيقى، فلدقة ستى طريقة خاصة للرقص تعتمد على «الثقل» وليس على الدلع والخفة، وهو ما لطالما تميزت به سيدات دمشق فى أجيال أصبحت اليوم بعيدة.

 

تمارا الرفاعي كاتبة سورية
التعليقات