نوبل في الاقتصاد للشعب المصري - مدحت نافع - بوابة الشروق
الخميس 9 مايو 2024 5:15 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

نوبل في الاقتصاد للشعب المصري

نشر فى : الإثنين 18 سبتمبر 2023 - 7:05 م | آخر تحديث : الإثنين 18 سبتمبر 2023 - 7:05 م

إذا كانت جائزة نوبل التذكارية فى العلوم الاقتصادية، واسمها الرسمى جائزة Sveriges Riksbank نسبة إلى البنك المركزى السويدى، تمنح سنويا للأفراد الذين يقدمون مساهمات استثنائية فى مجال الاقتصاد، فإن الشعب المصرى مستحق لهذه الجائزة لهذا العام عن جدارة واستحقاق. المساهمة العملية التى قدّمها المصريون فى هذا الباب تعد بصدق مساهمة استثنائية فى الجانب التطبيقى لعلم الندرة، والذى نعرفه جميعا بعلم الاقتصاد.
• • •
الشعب المصرى يعيش ما يقرب من 30% منه تحت خط الفقر، ويتراوح نصيب الفرد من الناتج الإجمالى للدولة بين 2800 دولار و3600 دولار (حسب تفاوت سعر صرف الدولار بين السوقين الرسمية والموازية) مقارنة بـ 12,600 دولار/فرد كمتوسط عالمى. هذا الشعب يعانى من معدلات تضخم فى الأسعار تبلغ 40% سنويا، وتبلغ حوالى 68% لأهم مجموعة سلعية (الأغذية والمشروبات) بتقدير متحفّظ. وعلى الرغم من الزيادة السكانية الكبيرة التى تلتهم معظم النمو فى الناتج المحلى الإجمالى، مع انخفاض واضح فى إنتاجية العامل المصرى وتأهيله، فإن مصر استضافت ما يقرب من عشرة ملايين وافد من الدول المجاورة على خلفية الأحداث المشتعلة إقليميا خلال الأعوام القليلة الماضية. ومع ندرة الدولار الأمريكى فى الأسواق، واعتماد الدولة عليه بشكل أساس لسداد فاتورة استيرادية تصل إلى 90 مليار دولار سنويا، وخدمة الدين الخارجى الذى بلغ رصيده ما يقرب من 165 مليار دولار، فإن الكثير من الصدمات السعرية تنتقل إلينا من خلال الدولار، سواء بسبب انخفاض المعروض السلعى نتيجة تراجع جبرى فى الاستيراد، أو نتيجة لارتفاع قيمة الدولار أمام الجنيه، مشفوعا بسياسات التشديد النقدى فى الولايات المتحدة، والتى ارتفعت بمستويات أسعار الفائدة من قرب الصفر خلال العام الماضى إلى 5,5% حاليا. كل ذلك يأتى مع صدمات عنيفة أصابت سلاسل الإمداد العالمية بسبب آثار ما بعد الجائحة، والحرب الروسية الأوكرانية.
فإذا كانت ماكينة الإنتاج المحلية لا تقوى على تعويض ما تفقده الأسواق من واردات سلعية نهائية أو وسيطة (مدخلات إنتاج)، فإن ذلك يعزز من ارتفاع الأسعار؛ إذ يرتفع الطلب الكلى بشدة، وينخفض فى ذات الوقت العرض من السلع والخدمات فى السوق المصرية. وبالتالى فقد أصبح المواطن البسيط الذى يحصل على الحد الأدنى للأجور (وقدره ثلاثة آلاف جنيه شهريا) مطالبا بسداد فاتورة السكن والمنافع من كهرباء ومياه وغاز أو بوتاجاز.. إلى جانب مصروفات الطعام والشراب والكساء والمدارس والعلاج والانتقالات... فى وقت يمكن لوجبة غداء واحدة بسيطة لأسرة متوسطة الحجم أن تلتهم وحدها ما يقرب من 10% من هذا الدخل، وفقا لتقديرات منسوبة إلى نائب وزير الزراعة العام الماضى (أى قبل القفزات الكبيرة فى الأسعار لهذا العام). مما يعنى أن هذه الأسرة يمكن أن تأكل عشر وجبات فقط طوال الشهر، دون أن تسدد أية فواتير أو التزامات أخرى. فإذا نزلنا بتقديراتنا إلى ثلث هذا المبلغ المقدر (أى أن تكلفة الوجبة تصل إلى مائة جنيه لأسرة من أربعة أفراد مثلا) فإنها تحصل على وجبة واحدة يوميا فى الشهر، بكامل مبلغ الراتب الذى يحصل عليه رب الأسرة. فإذا قامت الدولة بتوفير 300 جنيه لتلك الأسرة فى صورة دعم تموينى (بعد الزيادة إلى 75 جنيها للفرد)، فإنها تتمكن من سداد قيمة ثلاث وجبات إضافية طوال الشهر. بالتأكيد هذه الأسرة لا يمكن أن تعيش بهذا المبلغ، ولابد لكل أفرادها أن يعملوا (حتى الأطفال مع الأسف) إذا ما أرادوا أن يتموا الشهر. كما أن تلك الأسرة ستكون فى حاجة إلى تحويلات ومساعدات من المجتمع فى صورة زكوات وصدقات وسُلَف لسداد التزامات أساسية، لا يمكن أن يحيا الإنسان دونها. كل ذلك ناهيك عن رفاهية جودة التعليم أو الخدمات الصحية أو المواصلات أو أى شىء متصل بالترفيه مثلا رغم ضرورته للاتزان النفسى للبشر!
المائة جنيه إذن أكبر من أن تنفق على وجبة واحدة لمحدودى الدخل، إذا رفضت الأسرة عمالة أطفالها (لاحظ أنها أسرة ملتزمة بتحديد النسل). كما أن تلك الأسرة من المحتمل أن ترفض مد اليد بطلب المساعدة من الجمعيات الخيرية وأهل الخير. ناهيك عن احتمال أن يكون رب هذه الأسرة لا يعمل فى الحكومة أو القطاع العام، ومن ثم فإن عمله فى القطاع الخاص أو غير الرسمى، لا يلزم رب عمله أن يدفع له الحد الأدنى للأجور فورا!.. النتيجة المنطقية هى نقص حاد فى التغذية، وتهرّب من سداد فواتير المنافع المستحقة للدولة، والبحث عن أكثر من عمل فى اليوم والليلة، والاقتراض بغير غطاء.. مما ينعكس على الصحة والإنتاجية (التى هى منخفضة من الأساس). وهذا التدهور فى الصحة العامة للمواطنين، لا يقابله إنفاق مناسب على الخدمات المجانية للعلاج، أو على منظومة متكاملة للتأمين الصحى (وهى أزمة تعانى منها حتى أغنى دول العالم).. ومن ثم يعجز هذا المواطن المطحون عن سداد تكاليف علاجه وسداد ديونه، وتتحول أسرته فجأة إلى حمل إضافى على المجتمع المثقل بالأحمال.
• • •
إذن القدرة الاستثنائية للشعب المصرى على التدبير تستحق التوقّف عندها طويلا. تكيّف مختلف الطبقات مع الظروف الجديدة والصدمات العالمية والمحلية والارتفاع الجنونى فى أسعار كل شىء، هو أمر يمكن تدريسه فى كليات الاقتصاد، ولا أقول الاقتصاد المنزلى، لأن تلك القدرة على التكيّف تتحدّى الكثير من نظريات الاقتصاد السلوكى ورشادة المستهلك ونظرية الثمن، بل وتتحدّى المنطق أحيانا! وترقى إلى مستوى اليقين بأهمية مدلول لفظ «البركة» فى الرزق. لكن المؤكد أن تلك القدرة لا يمكن أن تستمر إلى الأبد. حتى المعجزات الإلهية أقامها الله حجة على الناس، لكنه تعالى قيّدها فى الزمان والمكان. الأمر إذن يتطلب دراسة جادة من وزارة التضامن الاجتماعى، لكيفية تدبير الأسر الفقيرة والمتوسطة لمعايشها خلال العامين الأخيرين، مع ضعف القدرة على الادخار، وبالتالى ضعف القدرة على السحب من أية مدخرات (معدل الادخار المحلى لمصر يتراوح بين 6% إلى 8% سنويا متضمنا الادخار الحكومى).. تلك الدراسة سوف نتعلّم منها الكثير من العبر والدروس، ونتعرّف على التحوّلات الكبيرة المتوقّعة فى تركيبة الطبقات فى مصر خلال السنوات القادمة، والتى من المحتمل أن تتضرر فيها الطبقات المتوسطة بشكل مخيف، نظرا لقلة مرونتها وقدرتها على التكيّف، بالمقارنة بالطبقات الأدنى التى اعتادت وتمرّنت عبر عقود على الاستغناء تباعا عن كثير من الضروريات.
ربة البيت المصرية التى تحرص على التكيّف مع ارتفاع الأسعار، دون أن يقابل هذه الارتفاع أى زيادة فى الدخل الحقيقى أو حتى الاسمى (قيمة الدخل دون استبعاد معدّل التضخم)، تستحق أعلى الجوائز والأوسمة. لابد من دراسة الأثر النفسى الذى تعانيه تلك الأم، وهى لا تكاد تشترى نفس السلعة بنفس السعر مرتين خلال الأسبوع الواحد! هذا تحديدا ما نسميه التضخم الجامح hyper inflation.
• • •
قبل أن أتم كتابة تلك السطور، علمت بصدور قرارات هامة من رئيس الجمهورية للتخفيف عن كاهل المواطن المصرى. ومن أبرز تلك القرارات زيادة جديدة فى الحد الأدنى للأجور لموظفى الدرجة السادسة إلى 4 آلاف جنيه، ورفع حد الإعفاء الضريبى بنسبة 25% فضلا عن قرارات أخرى هامة تمس المتعثّرين فى سداد بعض القروض والسلف الزراعية بما يخدم نحو 80 ألف مستفيد، وتوسيع قاعدة المستفيدين من تكافل وكرامة بنسبة 15%.. إلى آخر القرارات التى من شأنها تخفيف أثر الغلاء على المواطن بشكل عاجل. حتى إذا ساهمت تلك الحزمة من القرارات فى خلق بعض الضغوط التضخمية، كنتيجة طبيعية لزيادة الطلب الفعّال، التى لا يكافئها زيادة فى الناتج السلعى والخدمى، فإن الفئات المستهدفة بها، من شأن أنماط استهلاكها أن ترفع من أسعار عدد محدود من السلع الغذائية الضرورية، وكذلك ربما تساعد تلك الزيادات فى الدخول المتاحة لقطاع من المصريين على سداد مديونية الأسر الكادحة، التى بالتأكيد لا يمكن أن تتم الشهر دون اللجوء إلى الاقتراض بصوره المختلفة. ومن ثم فلا خوف من امتداد الآثار التضخمية إلى مختلف السلع والخدمات، لكن لابد من تمويل تلك الحزمة من احتياطى الموازنة، ثم من أية فوائض يمكن تحقيقها بضبط الإنفاق الحكومى فى أقرب وقت ممكن.

مدحت نافع خبير الاقتصاد وأستاذ التمويل
التعليقات