مروءة لا انقلاب - محمد المخزنجي - بوابة الشروق
الجمعة 19 أبريل 2024 8:31 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

مروءة لا انقلاب

نشر فى : الخميس 18 يوليه 2013 - 8:00 ص | آخر تحديث : الخميس 18 يوليه 2013 - 8:00 ص

من كراتشى أحضرت لولَدىَّ عندما كانا صغيرين كرتى قدم صغيرتين بالأبيض والأسود مصنوعتين من الجلد الطبيعى بأيادٍ شديدة المهارة، وكثيرا ما كنت ألتقط الكرتين وأديرهما بين يدَّى متأملا ليس فقط دقة صناعة كرة قدم كاملة الأوصاف بحجم برتقالة، بل أيضا ما يختفى وراء براعة الصنعة من شجون تثير قضية كبرى عن اختلاف المفاهيم باختلاف الشروط التى تحيط بها، وهى قضية تعاود ظهورها فى تفكيرى الآن، منصبة على الجدل المفتعل حول ما نحن فيه!

كنت فى مهمتى الصحفية لكراتشى قد زرت عدة ورش كبرى للمصنوعات الجلدية اليدوية، ولفتت نظرى كرات القدم التى تخرج من هذه الورش إلى العالم، وقد كانت معتمدة فى المباريات الدولية قبل أن تحل بمكانها الكرات المميكنة التى تنتجها شركات الأدوات الرياضية العالمية العملاقة، ولاحظت أن كثيرا من هذه الروائع اليدوية الباكستانية المبهرة تخرج من بين أيادى حرفيين صغار فى عمر الطفولة، ومن ثم تابعت الجدل المثار حول تجريم «عمالة الأطفال»، ونبهتنى الآراء الرافضة للتجريم إلى زاوية نظر بالغة الأهمية، فالتوقيع على وثيقة «دولية» تجرِّم عمالة الأطفال إنما يخفى وراءه شرين لا شرا واحدا، فمن ناحية سينشئ مقاطعة «دولية» لسلعة مثل كرات القدم الباكستانية ويدفع الورش التى تصنعها لإغلاق أبوابها وتشريد العاملين بها لصالح رواج منتجات الشركات العالمية المشابهة، ومن ناحية أخرى فعمالة الأطفال وإن كانت مريرة إلا أنها فى العالم الثالث الفقير تمنع ما هو أشد مرارة، فهؤلاء الصغار الذين تضطرهم ظروف أسرهم مدقعة الفقر للخروج إلى سوق العمل فى عمر الطفولة، إنما يحمون إخوتهم وآباءهم من الجوع والتسول، ويصونون أمهاتهم وأخواتهم من السقوط فى حضيض الدعارة، كما أنهم يصيرون أصحاب حرفة ولا يتحولون إلى متشردين وأطفال شوارع ومجرمين فى المستقبل.

هاتان الكرتان الصغيرتان صارتا فى وجدانى قاعدة راسخة لرفض التسليم الأعمى بكثير مما يسمى «مفاهيم دولية»، فالكثير منها خزعبلات صكها أناس بعيدون عن معاناة البشر فى العالم «الثالث»، أو متجاهلون لهذه المعاناة لأسباب غير إنسانية ولا شريفة وتصب فى صالح المخططات الأنانية للدول الكبرى، وليست محاولات دمغ ما حدث ويحدث من ثورة 30 يونيو وتشويهها بمفهوم «الانقلاب العسكرى»، إلا تخرّصات فاسدة تتشبث بها أطراف محلية ذات مصالح أنانية مباشرة، وتتلقفها أطراف خارجية متواطئة ومريبة، وتشبه ولو من بعيد تلك التى تختفى وراء بريق التجريم «الدولى» لعمل الأطفال. كيف؟

 عالم النفاق واللؤم، داخليا وخارجيا، يمسك ما حدث عندنا من نهايته، فيبدو ما حدث فى عين المفاهيم «الدولية» العمياء أو المتعامية انقلابا عسكريا. لكن لو أردنا النظر بعين الإنصاف إلى ما حدث، لتوجَّب علينا أن نعود بالمشهد الأخير إلى مقدماته، فنرى ما لا يريدون لأحدٍ رؤيته، وهو أن هناك حاكما جاء بالانتخابات نعم، ووعد أن يكون حاكما لكل المصريين، لكنه سرعان ما تنكَّب عن وعده كما وعود أخرى أسرف فيها ولم يف بها، وصار حاكما على المصريين لصالح جماعة نهمة للسلطة والتسلط، راح يمكنها بشراهة من مفاصل الدولة دون كفاءة ولا استحقاق، استباح القانون وأخذ يعبث بمؤسسات الدولة الوطنية لتحويلها إلى كيانات تابعة لجماعته الإقصائية، ولم يَخْل الأمر من ابتزاز لكل من يعارضه بقضايا مفتعلة يرفعها أتباع جماعته ويفعِّلها نائبه العام الخصوصى، ووصل الأمر إلى حد تهديد الأمة بتحشيد المتعصبين والإرهابيين القتلة من حوله فى فعاليات كذوب مدفوعة التكاليف من المال العام. كل ذلك فيما كانت الأمور الأمنية والاقتصادية فى البلاد تنحدر من سيئ إلى أسوأ، والمعالجات السياسية لحكمه تدخِل مصر والمصريين فى عداوات عربية وإفريقية شديدة الضرر على الحاضر والمستقبل.

 سنة من الحكم كانت على المصريين سوداء بكل تفاصيلها الكثيرة والمريرة. وقرب انتهاء تلك السنة المنهِكة والمحبِطة تعالت أنات المصريين وصيحاتهم طلبا للخلاص بالاحتكام إلى انتخابات رئاسية مبكرة، وكانت هناك مطالبات منطقية عادلة كتشكيل وزارة محايدة وكفؤه لإيقاف الانحدار وضمان نزاهة الانتخابات البرلمانية المزمعة، وإلغاء ما ترتب على الإعلان الرئاسى اللادستورى من أباطيل لا يمكن أن يطهرها أى قانون، كالتعيين المتعسف لنائب عام متأخون، واختلاس مجلس الشورى الإخوانى لحق التشريع، وإصدار تشريعات شائهة تهدر استقلال القضاء وتطيح بنزاهة أية انتخابات مقبلة.

ظل مرسى لا يصغى إلا لصوت القطبيين المتكلسين من جماعته وصوت انتفاخه هو ذاته بالسلطة، فصار حاكما بالإكراه لا راد له بأية مطالبات سلمية مهما كانت أغلبيتها، ولم تكن لدى هذا الشعب فى محنته إلا قواته المسلحة الوطنية ومن ثم تعالت نداءات استدعائه لها مبكرا، وكلنا يذكر انتشار موجة توكيل الفريق أول عبدالفتاح السيسى للحكم فى أعقاب إصدار مرسى لقراره الأرعن بفرض الطوارئ وحظر التجول على بورسعيد المنتفضة، وكيف أن مدن القناة كلها لم تهدأ إلا تحت مظلة القوات المسلحة التى ارتضاها المواطنون هناك حَكما بل حاكما وقت الشِدة. فعن أى انقلاب يتحدثون؟

 لقد كانت وقفة الجيش مع الأغلبية الساحقة من الأمة المصرية ضد ما يمثله مرسى وقفة عز ومروءة حقيقيتين، خاصة بعدما أوضحت الصور الدامغة فى 30 يونيو ذلك الخروج الأسطورى السلمى والحضارى لعشرات الملايين فى الشوارع يلتمسون الخلاص، فأى انقلاب فى أن يكون جيشهم هو مخلصهم، وهو عبء ثقيل على الجيش كما نرى وسنرى، لكنه كان اختيارا نبيلا لفرسان المؤسسة العسكرية لتوقِّى ما هو أخطر على الأمة إذا ما استمر ذلك الحكم سادرا فى غيِّه الذاهب بالبلاد والعباد إلى جحيم الدولة الفاشلة.

«ليس من المروءة أن نصمت أمام ترويع أو تخويف أهلنا المصريين والموت أشرف لنا من أن يمس أحد من شعب مصر فى وجود جيشه»، قالها الفريق أول السيسى محذرا وصبورا قبل 30 يونيو، وقد كان صادقا تماما فيما يقول ممثلا لمؤسسة الجيش الوطنى الذى أضافت قيادته العامة الجماعية على ذلك قولها: «لقد عانى هذا الشعب الكريم، ولم يجد من يرفق به أو يحنو عليه، وهو ما يلقى بعبء أخلاقى ونفسى على القوات المسلحة».

نعم كان هذا الجيش أحنى على الأمة فى وقفته مع معاناتها، وكان ذا مروءة نبيلة صادقة، وكان أخلاقيا وهو يتقدم ليحمل العبء الكبير لإنصافها، فهو لم يقم بانقلاب كما يزعم مخاتلو المفاهيم «الدولية» المنافقة وبلاطجة وشبيحة الاتجار بالدين وذيولهم فى الإعلام والصحافة، هنا، وهناك.

 إنها مروءة ساطعة، وعلينا من باب الامتنان أن نصطف مع أصحاب المروءة، أما كيف نصطف مع هذا الجيش العظيم وهو يواجه التآمر من كل صوب، فهو أمر يحدده ما يخفف العبء الهائل عن هذا الجيش، سواء بأن نخلى الميادين عند الضرورة، أو أن نحتشد فيها لتأكيد الاستدعاء والإجماع. ويبقى أن نجتهد بأقصى ما وسعنا فى إنجاح خارطة المستقبل.. الواعد بإذن الله.

•••

• فى ظهيرة الثلاثاء تشرفت بلقاء السيد الرئيس عدلى منصور ضمن مجموعة صغيرة من أدباء مصر، سمع منا وسمعنا منه، وخلاصة اللقاء الذى استمر قرابة الساعتين، هو إحساس بالاطمئنان لوجود هذه القامة القانونية المتسمة بالقوة والتواضع وبعد النظر واتساع الثقافة فى هذا الموقع، فى فترة من أخطر فترات التاريخ المصرى، التى أعتقد أنها جاءت إنقاذا للدين والدنيا فى بلادنا مما أصابهما من تشويه كان ينذر بالمزيد، ولا بد أن تتواصل مهمة هذا الإنقاذ ليس من قِبل الرئاسة والحكومة والجيش فقط، بل منا جميعا دون إقصاء لأى مصرى لم يتجاوز القانون مهما كانت قناعاته. حمى الله مصر .

محمد المخزنجي كاتب مصري كبير ، وطبيب أمراض نفسية ، ولد في المنصورة ، وعمل في مجلة العربي الكويتية ثم تفرغ ككاتب حر ، يُعتبر من أبرز كتاب القصة في العالم العربي ، وله إسهامات متفردة في الكتابة العلمية وأدب الرحلات والمقال الصحفي .