ورد النيل - محمد المخزنجي - بوابة الشروق
الجمعة 3 مايو 2024 4:21 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

ورد النيل

نشر فى : الخميس 18 أبريل 2013 - 8:00 ص | آخر تحديث : الخميس 18 أبريل 2013 - 8:00 ص

كأنه فى طفوه قد اقتلع جذوره من الأرض وصار لا منتميا إلَّا لطموح غامض وطمع كبير يرتحل إليه، يحشد له متناسلا بنهم وهو ينداح على سطح الماء، غير منتبه إلى أن مآل طموحه الغامض وطمعه الكبير لن يكون إلَّا ملوحة البحر التى تهلكه، والموج العاصف بهشاشته، والتيه الذى سينثره بدداً.

 

من أسماه ورد النيل؟! لعله متهكمٌ من مرارة حلوله بالنهر العظيم، أو مخدوعٌ بفتوة مظهر أوراقه ومخايلة الفتنة فى زهوره عند النظر إليهما من بعيد. وهو ليس بفتى الأوراق ولا فى أزهاره فتنة إن اقتربنا منه، وأمعنا، وتلمسنا، والأكثر مدعاة لليقين أن نخرجه من ستر مسبحه لنرى بؤس جذوره السوداء، وهشاشة أنسجة أوراقه وسيقانه إن شرَّحناها.

 

زهوره عناقيد سنبلية الشكل بكل واحدة ثمانية زهرات بنفسجية باهتة، تُرصِّع بنفسجيتها دوائر غامقة لعيون صفراء زائفة، وتحت جلد أوراقه قلبية الشكل الملتوية، الثخينة لامعة الخضرة، لانجد إلا أنسجة أسفنجية شاحبة، تستجلب الماء من السيقان ودرنات الطفو والجذور العائمة، لتبدده عبر ثغور الأوراق بمعدل يصل إلى ثمانية أضعاف بخر السطح المائى المكشوف المعتاد فى النيل، وهو بهذا البخر المسرف يرطب جسمه الواهن وجلده السميك. يرفع أوراقه فوق التيار، فتقوم بدور أشرعة ليمضى مع الهواء باتجاه وهمه الطامع، لايدرى أنه فى أندفاعه هالك هالك، ومُهلك لغيره!

 

من أحضر هذا السرطان النباتى المائى إلى مصر؟ يُروَى أنه الخديوى توفيق، العاق بأبيه، الغادر بالثورة العُرابية، بائع حصة مصر فى قناة السويس، المذعن لفصل السودان عن مصر، ومُستحضِر الاحتلال البريطانى للبلاد. أحمق القلب لابد أنه كان أحمق العقل وكليل البصيرة أيضا، ظن أن هذا النبات سيبهر بجماله عيون زائريه، فجلبه من مستنقعات بعيدة ليوطنه فى جنائن قصوره، ومِن هذه الجنائن تسلل النبات الخسيس إلى مجرى النيل، فصار بما يراكمه من غطاء نباتى كثيف خنَّاق المراكب والقناطر والجسور، ومخبأ التماسيح والجرذان والأفاعى والعقارب وقواقع البلهارسيا ومرفأ الهوام، يُظلِم قلب النهر، ويطمر رقرقة الماء، ويُكدِّر العذوبة بالأسن.

 

تماما مثل سرطان الأجسام البشرية، يتكاثر بشراهة وبلا غاية إلا أن يرى نفسه يتكاثر، النبتة الواحدة تعطى قرابة الألف فسيلة فى موسم واحد، وفى تكاثره لا يعبأ أسلافه بمصائر أخلافه ما دام التكاثر مستمرا، لا ينظر إلى ملاءمة الحيز المتاح لتكاثره ولا يعبأ بحقوق الجوار ولا عاطفة الأخوَّة، بل إن نسله يهرس بعضه بعضا فى التزاحم، يموت الكثير منه طافيا بلون بنى وسط خضرة أحراشه، وفوق هذه البلادة المرقشة تشرئب أعناق عناقد الزهور البنفسجية الهشة مرتعشة فى نسيم النهر، كذبة ملونة توافر بحصيرة تكاثفها فوق الماء معدِّية للأذى، الأذى القارض واللادغ واللاسع والعضاض، وتمنح كل هذا الأذى جواز مرور شيطانى من الضفة إلى الضفة، فتزدهر الجوائح والمخاوف!

 

سرطان أجسام البشر فى تكاثره الشره يُنشئ لذاته أوعية دموية خاصة تمتص مُعظم الدم من حولها فتموت خلايا سوية وتتحلل أنسجة وينتشر النتن حتى أسموه قديما «المرض النتن»، كذلك هو فى غباء تكاثره، يقتل غيره من اللوتس وزنابق الماء العطرة، ويقتل بعضه بعضا فتفوح من احتشاداته القاتلة روائح نتَنٍ لا يُطاق، وهو فى نتنه أشْرَه مايكون لامتصاص الماء وبعثرة بخاره فى الهواء، يبدد ثلاثة مليارات متر مكعب من مياه النيل فى مصر بهذا السَرَف، وفى أثرته عمياء القلب يمتص جل الأكسجين الذائب فى الماء فتنفق أفراخ الأسماك فى الظلمة تحت جثومه، وتعقُم الأمهات. لا حياة له إلا بموت من حوله، هكذا سرطان الجسوم البشرية والحيوانية، وهكذا هو، لكنه لايدرى كما الورم السرطانى أنه بإماته محيطه.. حتما يموت!

 

ليس صحيحا أنه كُلِّى القدرة، فهو برغم شراهته واندفاعه يظل ضئيلا فى حوض نيلنا الرائع الشاسع، لكنه بخسة الدنىء يلتف على الروعة والشساعة بمحاصرة المفاصل وقطع طريق العابرين، فلا الفلك المكبلة بحصاره تبحر فى المدى، ولا قواعد الجسور تنفتح للعبور تحتها، أما عيون القناطر فيسدها بركام تكالبة المثقل بالعفونة. أعمى، قبيح العمى، يسمِّل كل مايلقاه من عيون جميلة. تافه وفاجر، لكن للفُجر حدودا، وللحدود حدود!

 

يمكن أن تكافحه مبيدات كيماوية، لكن هذه تسمم ماء النهر، فتفتك بالأسماك وتقتل الحيوان والبشر وتُذبِل الشجر على الضفتين، فهل من مغيث؟ جُرِّبت خنافس تأكل مرابط تكاثره فيغدو عقيما، لكن هذه الخنافس لا تعمل إلا لحسابها، فهل يتخلص الناس من عشب النهر ليحظوا بابتلاء الخنافس؟! كذلك سوس «نيوتشيتا» المجلوب من أدغال أمريكا الجنوبية البعيدة، قادر على نخر عافية هذا السرطان وإغراقه فى مسابحه، نعم، لكن ما ذا عن انتشار السوس فى الماء؟! لا هذا يستقيم ولا ذاك إلا لو كان تجرُّعا للمر لتحاشى الأمَرّ. ولقد سئم المصريون من الخيار المتكرر بين الأمَرَّين.

 

مثله مثل سرطان الجسوم مثل الاحتلال الأجنبى والاحتلال المحلى والطغيان، جميعها لا تتمكن من الحلول بالأجسام والأنهار والبلاد إلَّا محمولة على متون التلوث، تلوث العقول والضمائر وخبل أجهزة المناعة وانطفاء صحوة الشعوب وإماتة الشعور بالأوطان والمواطنة. ومثله مثل كل الابتلاءات لاخلاص منها إلا بثمن. وثمن يُدفع فى النور صمودا ومجاهرة وتضحية باللحظة لإنقاذ القادم. يسمون أنجع أساليب مواجهته «مكافحة ميكانيكية»، وما هى إلا انتزاعه من استبداده بصفحة النهر، بداية بالأيادى، والتصدى له أولا بأول، وحتما حرق مراكب تسلله إلى النيل.. مراكب تلوث العقول والضمائر والمشاعر وفساد الإحساس بالمواطَنة والوطن.

 

 هو «ياسنت الماء» water hyacinth الذى اختطف فى بلادنا تسمية «ورد النيل». يسمونه فى السودان «أعشاب النيل»، وفى بنجلاديش «كاتشورييانا»، وفى البرازيل «أكوابى»، وفى الأرجنتين «كامالوت»، وفى ميانمار «بيدا بن»، وفى الهند «كولافالى»، وفى اليابان «هوتى أوى»، وفى فانزويلا «لاجونار»، وفى كولومبيا «بوشون» وأنا أصر على تسميته «سرطان النيل «أو على الأقل «خناق النيل»، فماذا تسمون أنتم كل ما يشابهه فى الشراهةً والسُعار وتبديد العذوبة وإظلام العقول، لينعم هو بالتكاثر الأعمى، ويواصل الارتحال الضرير على تيار النهر وأجنحة الهواء وحواف وقيعان الصنادل والزوارق والمراكب الشراعية باتجاه طموحه السادى للسيطرة على غيره، وطمعه الكوكبى الراجع فى الزمان، الهالك والمُهلك؟ ماذا تسمونه؟

 

للمعرفة البصرية عبر الانترنت :

 

www.youtube.com/watch?v=5j8tPcbrPlU

 

www.metacafe.com/watch/10238548/water_hyacinth_removing_from_the_ponds/

محمد المخزنجي كاتب مصري كبير ، وطبيب أمراض نفسية ، ولد في المنصورة ، وعمل في مجلة العربي الكويتية ثم تفرغ ككاتب حر ، يُعتبر من أبرز كتاب القصة في العالم العربي ، وله إسهامات متفردة في الكتابة العلمية وأدب الرحلات والمقال الصحفي .