العلم يُكيَّل بالباذنجان..ابتكار مصرى! - محمد المخزنجي - بوابة الشروق
الخميس 2 مايو 2024 12:09 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

العلم يُكيَّل بالباذنجان..ابتكار مصرى!

نشر فى : الأربعاء 17 يونيو 2009 - 10:35 م | آخر تحديث : الأربعاء 17 يونيو 2009 - 10:36 م

 كنت ضمن فريق «الشروق» المحاور للعالم الكبير الدكتور مصطفى السيد، أحد رواد العالم فى الأبحاث الهادفة للكشف عن الخلايا السرطانية برشقها بدقائق الذهب النانوية (أى التى تُقاس ببضعة نانومترات، حيث النانومتر يساوى جزءا من بليون جزء من المتر) ثم توجيه أشعة الليزر منخفضة الطاقة إلى هذه الدقائق الملتصقة بالخلايا السرطانية، فتسخن، وتدمر الخلايا السرطانية دون المساس بالخلايا السليمة.

شاركت فى الحوار العلمى، لكننى كنت شاردا أكثر فيما وراء العلم، فى الظواهر الاجتماعية والنفسية والكونية، التى طالما نورتنى وأذهلتنى فى ثنايا الكشوف العلمية الباسقة، والتى تمثل أبحاث الدكتور مصطفى السيد أحد نماذجها المهمة جدا فى العالم الآن.

وصل بى شرودى المتأمل لرصد ظاهرة فى غاية الإبداع، تكمن فى متن أبحاث الدكتور مصطفى السيد، لكننى أُرجئ الحديث عنها الآن، فثمة ظاهرة ليست كذلك، تتعلق بالطريقة التى نحتفى بها نحن المصريين بالمصريين الذين يحققون مكانة عالمية ما، ومنها العِلم، وهى ظاهرة عجيبة، وتقترن عندى بلمحة أعجب تتعلق بالباذنجان!

نعم الباذنجان، ففى منتصف يونيو من كل عام، على وجه التقريب، تحدث قفزة فى أعداد المرضى العقليين المصابين بالهوس، والمدهش أن هذا الوقت يتناسب مع نمو ثمار الباذنجان وازدحام قلبها بالبذور فيما يقال عنه «البتنجان بذّر».

ويبدو أن البديهة الشعبية وخبرات مئات وربما آلاف السنين، ربطت بين انفجار الهوس وبلوغ الباذنجان أوج نضجه وتبذيره، لهذا يشير التعبير الشعبى إلى الجنون والمجانين بلفظة «بتنجان» أو«برنجان». والجنون المعنى بهذه الإشارة هو الهوس على الأغلب.

والهوس نوع من المرض العقلى يختل فيه الوجدان، فيوحى ببهجة جنونية، يتسم بتطاير الأفكار وتدفق الكلام عالى الصوت وإطلاق الأغانى والقفشات أحيانا والرقص والتنطيط وارتداء ملابس صارخة الألوان أو متنافرة المنظر. باختصار هى حالة «هيصه» عقلية، أو بالأحرى لاعقلية، تكاد تكون هى الحالة نفسها التى نحتفل فيها نحن المصريين الآن، بأبناء مصر عندما تدوى أخبار إنجازاتهم فى المحافل العالمية.
هيصة.. هيصه هوسية باذنجانية أرى فيها أن عبارة الفنان عادل إمام الاستنكارية المرحة «العلم لا يكيل بالباذنجان»، كانت إلهاما ساخرا سابقا لأوانه، يرصد ما سوف نفعله بفوز زويل بجائزة نوبل فى الكيمياء، ومصطفى السيد بأرفع أوسمة العلوم الأمريكية.

هيصه.. هيصه نقيم فيها الأفراح والليالى الملاح، وتجد فيها الجرائد والقنوات الفضائية فرصة لتسويد الصفحات وملء ساعات البث، دون مردود حقيقى فى تنوير الأمة بجوهر إنجازات هؤلاء العظام. الجوهر الذى يدعونا أولا لفهم إنجازهم وتقدير عظمة العلم، ومن ثم يطرح علينا أسئلة عميقة وجادة تتعلق بأحوالنا التى كانت ولا تزال طاردة لمثل هذه العقول، كيف نتجاوزها، وكيف نتجاوز «الطرزانات» الذين تم وضعهم على رأس وزارة البحث العلمى والمجالس العلمية، وبعضهم لا علاقة له أصلا بالعلم، وكيف يلفتنا هذا إلى وجود عالمات وعلماء أبطال داخل الوطن يجترحون المعجزات فعلا، ولا نقول لهم حتى «السلام عليكم». بل يُعاقَبون غالبا على طموحهم النبيل، واعتزازهم بكرامتهم العلمية والإنسانية والفكرية.

هيصه.. هيصه نادرا ما نستفيد فيها استفادة حقيقية بما يمكن أن يقدمه هؤلاء المصريون لأوطانهم، ولعل الدكتور مصطفى السيد استثناء لأنه سعى بنفسه لتقديم هذه الاستفادة عبر تلاميذ وزملاء تصادف أنهم عملوا معه مباشرة فى أثناء وجودهم فى الولايات المتحدة. والاستفادة التى أعنيها هنا ليست استفادة رمزية، بل استفادة تخلق كيانات علمية حقيقية تضعنا على خريطة العِلم فى العالم، ويحضرنى هنا نموذجان.

فبعد انهيار الاتحاد السوفييتى، وشيوع حالة الفوضى فى مؤسساته المختلفة وفتح أبوابها على البحرى، أو البهلى، تسابق العالم للاستحواذ على بعض ما يمكن الاستحواذ عليه من خزائن العلوم والفنون الجبارة للبلد الذى كان جبارا، سواء عبر الأنفاق السرية، أو خلال الاتفاقات القانونية.

إيران لمحت الفرصة، واجتذبت حفنة من علماء الصواريخ الذين دفعوا بترسانة إيران الصاروخية حدا يرعب البعض ويجعلنا نخجل من أنفسنا، نحن الذين تسابق السفهاء والفاسدين منا لاستيراد الراقصات وبنات الهوى، ثم القمح المخصص لعلف الحيوانات هناك ليأكله البشر هنا. بل إن البرنامج النووى الإيرانى الذى سيقفز بإيران قفزة واسعة، سواء كان سلميا أو عسكريا، هو أحد استثمارات ما تم التقاطه من خزانة العلوم السوفيتية، الروسية الآن.

أما إسرائيل، والتى كانت تعد العدة مبكرا، بجهود عيونها وآذانها وقلوبها الصهيونية فى الاتحاد السوفييتى السابق، فلم تكتف بنهب الكثير من ثروات الامبراطورية المنهارة عبر بليونيرات الغفلة حاملى الجنسية المزدوجة، الروسية الإسرائيلية، ولم تنس حظها من اللحم الأبيض الوردى لسد شراهة مواخير تل أبيب، بل راحت تنتقى كل ما لذ وطاب من خزانة العلوم السوفييتية سائبة الأبواب، قبل أن يعيد بوتن تثبيتها.

أسرار تقنية متقدمة وعلماء رفيعو التأهيل، فى مجالات التسليح والفضاء والصناعة والطب انتقتهم إسرائيل، ومِن بين مَن انتقتهم أستاذ فى الطب من إحدى جمهوريات بحر البلطيق السوفيتية، تفرّد فى العالم بعمليات ترميم النخاع الشوكى والأعصاب، ولم يكتفوا بجعله يجرى عملية هنا وعملية هناك ويسلطوا عليه أضواء وضوضاء الهيصة مثلنا، بل بنوا عليه مركزا علميا عالميا ومدرسة طبية تخرج فيها اختصاصيون فى هذا المجال يقصدهم، سرا، كثيرون من الأثرياء العرب للعلاج من عطب أعصابهم، وهناك حالة ابن رئيس وزراء سابق معروف، ذهب لتلقى هذا العلاج فى إسرائيل بعد إصابة جسيمة فى الأعصاب إثر حادث تصادم.

إنها أمور توجع القلب برغم كل أضواء وضوضاء الهيصة المصرية، وما يوجع قلبى أكثر هو معرفتى بمآل الهوس كظاهرة عقلية مرضية، فالهوس ينتهى دائما باكتئاب عميق، فبعد ثلاثة أسابيع تقريبا يخمد المهووس ويصمت، وتسْودُّ فى عينيه الدنيا فينشغل بالموت ويحتويه الموات.

وإذا كان المريض العقلى معذورا فيما يتقلب فيه رغما عنه، فما عذرنا نحن الذين نستطيع محاكمة أفعالنا ونقد سلوكياتنا؟.. نحن الذين وهبنا الله البصر والبصيرة، لندرك تناقض كل هذا الهوس مع ما يخفيه تحته ووراءه من فساد وسفاهة وتقصير وشعور بالقهر والخيبة، لأسباب واضحة لا تزيدها مهيصة الهوس إلا تغلغلا.

شفى الله أمتنا من كل هوس، وعافاها من كل اكتئاب، وهداها إلى سوية النفس والعقل وذكاء الروح والإرادة، فهى والله العظيم أمة عظيمة فى جوهرها، وخسارة.. خسارة فى كل هذه البهدلة.. والهرتلة.

محمد المخزنجي كاتب مصري كبير ، وطبيب أمراض نفسية ، ولد في المنصورة ، وعمل في مجلة العربي الكويتية ثم تفرغ ككاتب حر ، يُعتبر من أبرز كتاب القصة في العالم العربي ، وله إسهامات متفردة في الكتابة العلمية وأدب الرحلات والمقال الصحفي .