تصــويت فى العتمة - محمد المخزنجي - بوابة الشروق
السبت 4 مايو 2024 1:04 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

تصــويت فى العتمة

نشر فى : الخميس 17 مايو 2012 - 8:40 ص | آخر تحديث : الخميس 17 مايو 2012 - 8:40 ص

منذ أسبوع، دعتنى اللجنة الثقافية بجمعية النور والأمل لإقامة ندوة أتحدث فيها إلى الفتيات الكفيفات نزيلات القسم الداخلى بالجمعية، ولم أتردد لحظة فى قبول الدعوة، ليس فقط لأن من وجهن لى الدعوة ممن يدرن الجمعية سيدات فضليات سليلات عز حضارى وإنسانى وثقافى رهيف، ولكن لأن القلب الذى تُبهظه مكابدات اللحظة السياسية المصرية المثقلة بالكذب والهوَج واللَّدد والغباوة، بات فى أمس الحاجة للاغتسال والتطهر، وليس مثل الإحساس بآلام الآخرين مَطهرا ومُستراحا من كل عناء. هكذا ذهبت لأننى كنت فى حاجة ماسة إليهن، بأكثر مما كن فى حاجة إلى مثلى. وبالفعل، أحسست بقلبى يستريح فى صدرى ويغسله الندى، بينما كنت أطالع وجوه سبعين فتاة يريننى بنور داخلى صافٍ عجيب، هيهات أن ندرك آماده نحن المبصرين.

 

وامتنانا منى لإصغائهن المؤثر لى، حاولت أن يكون حديثى رفيقا شقيقا ضاحكا حكاء، حكايات الواحد لأخواته وبناته فى ساعة صفو. وكنت أنأى بإصرار عن حديث السياسة لأبعد عن قلوبهم الكدر، لكن سرعان ما اتضح لى أن رؤيتنا بالبصر كثيرا ما تفتقد البصيرة التى تضىء عوالم من كفَّت أبصارهم. فقد كن مهمومات بما يجرى فى البلاد ربما أكثر من كل الآخرين، لم لا، وهن قابلات للانجراح أكثر من غيرهن، برغم بطولتهن فى خوض غمار الحياة، فهن كفيفات وفقيرات. يا ألله!!.. ما أشد ما نقسو عندما نسهو.

 

وسألننى السؤال الذى ما من مصرى يقابل مصريا الآن إلا سأله: «هاتنتخب مين رئيس؟».

 

 لم أكن وصلت صدقا إلى اختيار محدد، وبالصدق فى محيط إنسانى لا يجوز فيه إلا الصدق، قلت لهن إننى لم أصل بعد إلى قرار، فران الصمت للحظات بدت مديدة بينما وجوههن لاتنُمُّ عن شىء مما نقرأه فى تعابير العيون المبصرة، لكننى انتبهت إلى شىء جديد تعلمت منه قراءة مختلفة للصمت البليغ، فقد كانت صفحات وجوههن غير محددة النظرات، تبحث بحراك حثيث، بالغ الحساسية، عن عودة الصوت الذى انقطع، والذى لا يجوز أن يتوقف عند هذا الحد الذى لا يكفى ولا يشفى. فنطقت بما فى صدرى:

 

قلت إننى لن أختار متعصبا أو مدعيا للتعصب يستخدم الدين أداة لاختطاف الدنيا، لأن هذا خطر على الدين والدنيا جميعا، وسوف يسفر عن طغيان جديد يصعب رَدَّه، لأنه سيوظف الدين فى قمع معارضيه إن أرادوا مقاومة اعوجاج يبدر منه، وهو حتما سيبدر، ولو فى تفضيل جماعته أو عصبته أو حزبه على سائر الناس، فكونه مُعتبِرا ذاته وكيلا عن الله فى الأرض، وأنه صاحب التدين الصحيح وغيره ليسوا كذلك، فسيفتك بمعارضيه فتكا ربما يفوق فتك غلاة الدنيويين من الطغاة، لأنه سيعتبر من يعارضه معاديا لله وللدين، فهو مستباح. وتاريخنا وتاريخ غيرنا مليآن بسوابق دامية من ذلك.

 

 قلت إننى لن أختار فاسدا، ولا مشبوها، ولا مغرورا، ولا من يعميه امتلاؤه بنفسه عن واجب التنحى ليزيد فرص نجاح من يصلح ويمكن أن ينجح، لأنه بسلوكه الأنانى ذاك، إنما يسهم فى إنجاح الأسوأ ممن يجيد الإنفاق والحشد والاحتيال على فكر الفقراء وفقراء الفكر، فكأن الأنانى وهو يقدس ذاته المفردة، يدنس اليسير المتاح من الأفضل لكل الناس.

 

قلت إننى سأختار الأصدق، ولو نسبيا، فى احترامه للعدل والحرية، وحقوق الإنسان، وحقوق المواطنة، ودولة القانون، لأن هذه أمور بديهية فى احترام إنسانية الإنسان كإنسان، كمخلوق شرَّفه الله على سائر خلقه، ومن ثم هذه كلها فى متن الشريعة التى ترتضى ما ترتضيه سوية الفطرة التى فطر الله الناسَ عليها، وليست تلك التى يلوِّح بها البعض مُزايدة تدنيهم من سلطة التسلط على البلاد والعباد، فمثلهم لم يقيموا دولة ناهضة ولا صانوا حُرمات الدماء التى يحميها صحيح الشرع. ولن يفعلوا.

 

سألننى مَن مِن المرشحين يمكن أن تنطبق عليه الصفات الإيجابية مما ذكرت، فقلت لهم إننى لم أحدد بعد. وحسنا أننى لم أكن حددت، وحتى هذه اللحظة لاأرانى قاطع التحديد فى «من سأنتخب»، لكننى حددت قطعا «من لن أنتخب»، ولن أخرج عما سردت من معايير الاختيار فى ذلك اللقاء الذى غسل القلب وأزال عنه غشاوة الكدر مما تكاثف من وضاعات مبصرين بلا بصيرة، لم يكفوا ولن يكفوا عن التلاعب بأمة طيبة متعبة، آن لها أن تستريح وتنهض. لكنها الديمقراطية.

 

هى الديمقراطية، ودربها ليس هينا وبلوغها ليس بالمجان، وفى ذلك قرأت ثلاثة نصوص موجزة، أوردها الكاتب إدواردو غاليانو أحد أحب وأفضل كتاب المقال القصصى العالميين عندى، وقد ترجمها من الإسبانية الصديق الطيب، صالح علمانى، الذى نقل إلى العربية مكتبة كاملة من عيون أدب أمريكا اللاتينية دون أن تلمح فيه ذرة من زهو أو غرور ولنقرأ:

 

1 ـ ثمن الديمقراطية

 

 دوريس هادوك، عاملة متقاعدة، مشت من لوس أنجلوس حتى واشنطن: كسلحفاة اجتازت الولايات المتحدة من الشاطئ إلى الشاطئ. سارت الطريق لتندد ببيع الديمقراطية إلى المليونيريين الذين يدفعون تكاليف حملات السياسيين الانتخابية، وفى طريقها، مرحلة بعد أخرى، كان الناس ينضمون إليها.

 

 كانت قد أمضت أكثر من سنة وهى تمشى، مشوية بالشمس، مُجمَّدة من البرد، مُطيَّرة بالرياح، عندما حطت رحالها على جبال غرب فرجينيا. وفى قرية كومبيرلاند احتفلت دوريس بعيد ميلادها. تسعون شمعة. وواصلت الرحلة تزلجا على الجليد. ومتزلجة سافرت، عبر الثلوج، طوال الشهر الأخير.

 

وبينما كان القرن الواحد والعشرون يولد، وصلت إلى مدينة واشنطن. حشد من الناس رافقها حتى الكابيتول. هناك يعمل المشرعون، اليد العاملة للشركات الكبرى التى تجازى خدماتهم بسخاء. ومن فوق أدراج الكابيتول، ألقت دوريس خطبة مقتضبة. ومشيرة إلى أعمدة بوابة الكابيتول، قالت: «هذا المكان آخذ بالتحول إلى بيت رذيلة» وغادرت.

 

2 ـ  المرشح المثالى

 

 لم يكن يبكى أمام الكاميرات وهو يستذكر طفولته البائسة، ولم يكن يقبِّل الأطفال، ولا يوقع أوتوغرافات، ولا تلتقط له صور إلى جانب المقعدين. لم يكن يعد بشىء. ولم يفرض على الناخبين سماع خطب لا تنتهى. لم يكن ذا أفكار يسارية ولا يمينية ولا أفكار وسط كذلك. كان غير قابل للرشوة، يزدرى المال، وإن كان يتلمظ أمام باقات الزهور.

 

 فى انتخابات 1996، كان يتصدر استطلاعات الرأى. كان المرشح المفضل لمنصب عمدة بيلار، وكانت شهرته تتزايد فى منطقة شمال شرقى البرازيل بأسرها. فالناس الذين ملّوا السياسيين الذين يكذبون حتى عندما يقولون الحقيقة، يثقون بهذا الشاب ثنائى الأصابع، ذى اللون الأبيض واللحية البيضاء. وفى تجمعاته الانتخابية، كان فيدريكو يرقص، ويقوم بحركات وقفزات مقنعة على أنغام الجوقة التى ترافقه فى الأحياء.

 

 عشية انتصاره، طلع عليه الصباح ميتا. كانت لحيته حمراء بدم متيبس. لقد جرى تسميمه.

 

3 ـ  الصوت والفيتو

 

 كانت سنة 1916 تنقضى، وهى سنة انتخابات فى الأرجنتين. وفى قرية كمبانا، كان التصويت يجرى فى الحجرة الخلفية من متجر المواد العامة.

 

كان خوسيه خيلمان، ومهنته نجار، هو أول القادمين، فسوف يصوت لأول مرة فى حياته، وكان واجب المواطنة يملأ صدره بالاعتزاز. فى ذلك الصباح كان سينضم إلى الديمقراطية هذا المهاجر القادم من الجانب الآخر للعالم، والذى لم يعرف شيئا سوى الاستبداد فى أوكرانيا البعيدة.

 

عندما كان خوسيه يُدخِل صوته فى الصندوق، مصوتا للحزب الراديكالى، شل يده صوتٌ أجش يحذره :

 

 «لقد أخطأت فى الاختيار» ومن خلال قضبان النافذة، أطلت فوهة بندقية. الفوهة أشارت إلى الكومة الصحيحة، حيث قوائم الحزب المحافظ.

 

 ملحوظة: كنت قد قرأت هذه المقالات القصصية، أو القصص المقالات، منذ أربعة أعوام، وأحسست حينها أن تلك الشعوب عانت كثيرا قبل أن تبلغ طرف الديمقراطية، لكننى الآن بعد كل ما ظهر على السطح بعد الثورة من خَبَث، وفى فترة وجيزة جدا، صرت أعتقد أن ما نواجهه أصعب وأقسى من كل معاناة رصدتها تلك المقالات الأقاصيص، لأننا نواجه ما يجمع التسميم والبنادق واللعب بالأموال فى حزمة واحدة، ثلاثة فى واحد، واحد ظاهرُه التعصب، وباطنه المصالح. وليس أمامنا إلا أن نواصل المسير فى هذا النفق المظلم، لنخرج إلى النور.

محمد المخزنجي كاتب مصري كبير ، وطبيب أمراض نفسية ، ولد في المنصورة ، وعمل في مجلة العربي الكويتية ثم تفرغ ككاتب حر ، يُعتبر من أبرز كتاب القصة في العالم العربي ، وله إسهامات متفردة في الكتابة العلمية وأدب الرحلات والمقال الصحفي .