واقع افتراضى - عماد الغزالي - بوابة الشروق
السبت 18 مايو 2024 8:38 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

واقع افتراضى

نشر فى : الثلاثاء 17 مارس 2009 - 4:33 م | آخر تحديث : الثلاثاء 17 مارس 2009 - 4:33 م

 كانت البنت التى ترتدي حجابا على الموضة تتمايل على أنغام تسمعها وحدها على الووكمان ، حين احتضنتها من الخلف زميلتها ذات الهاف بود ى والاسترتش لتريها صورة التقطتها للتو على الموبايل . بقية المجموعة من الأولاد والبنات كانوا مستغرقين فى جدل محتدم حول الفروق الجوهرية بين وسامة " توم كروز" وطلّة " براد بيت " ، وفيما يبدو فقد كان الاثنان أو أحدهما هو بطل الفيلم الذى سيشاهدونه فى إحدى قاعات مجمع السينمات الإحدى عشر ، وحين بدا زميلهما الذى لاحظت أنه يرتدى بنطلون جينزساقط – لاحظت فيما بعد أنهم جميعا بمافيهم بعض البنات يرتدون نفس النوعية من البنطلونات - وقد " جلجل " شعره المنفوش بطريقة غريبة ، هلل له الجميع فى صيحة واحدة ودون اتفاق مسبق " واو " ، كان الولد يحمل كيسين بأحدهما ساندويتشات الماكدونالد وبالآخر علب البيبسى .

بدا لى المشهد السابق – تجاورا مع مشاهد أخرى مشابهة – تلخيصا لحياتنا المعاصرة فى المحروسة ، وربما لعالم جديد تكشفّت قسماته منذ العقد الأخير من القرن الماضى ، مع انهيار الإتحاد السوفييتى وتوابعه ، وبزوغ الحلم الإمبراطورى الأمريكى مدعوما بتنظيرات "فوكوياما" عن نهاية التاريخ و"هنتنجتون" عن صراع الحضارات .

عالم أمريكى بامتياز ، حلّت فيه "الفيديولوجيا" بديلا عن "الأيدولوجيا" ، وأصبح السوق فيه هو سيد الموقف .

فى هذا العالم الجديد ، يتحول المواطنون إلى مستهلكين ، وتعد الأسواق الناس بمزيد من الرفاهية وأطنان من السلع ، تتسع دوائرالخيارات الاستهلاكية ، لكن على حساب الخيارات الإجتماعية ، ويصبح الناس أسرى لعلاقات وقيم جديدة تفرضها قوانين العرض والطلب ، أو بالأحرى قوانين الغلبة .

البعض يعتقد أن الثقافة التى فرضتها العولمة ليست أمريكية فحسب ، بل دولية ، يتشارك العالم كله فى صناعتها : موسيقى البوب انجليزية ، الأزياء فرنسية ، الموضة إيطالية ، التكنولوجيا يابانية ... إلخ ، وهذا التصور صحيح لو استبعدنا تأثير الصورة فى عالم هو فى جانب كبير منه " افتراضى " ، وبما أن الصورة يتم صياغتها وتعبئتها هناك فى مصنع الأحلام " هوليوود " ، فإن كلمة عالمية فى الحقيقة تصبح مرادفة للفظة أمريكية .

وفى تجارة الصورة يتحول الواقع إلى خيال ، وتنقلب الأوهام حقائق ، وتتوه الفواصل الواجبة بين الواقع الفعلى والواقع الإفتراضى .

ولا أظن أن ثمة جديد فى الأعتراف بالتأثير الطاغى للفضائيات على العالم ، أى تأثير الصورة وكذلك المعلومة ، والأخيرة تمثل ذهب هذا العالم الجديد وجواهره ، والذين يسيطرون على أنابيب المعلومات والأسواق ، يملكون العالم ، وفيما كان الاقتصاد القديم يعتمد أساسا على القوة الصلبة ، فإن النسخة الحديثة منه تستند إلى القوة اللينة : السوفت ويروالرقائق والكمبيوترات الدقيقة ، وهذا النمط الجديد لايستهدف تصفية الجسد ، وإنما ينفذ مباشرة إلى العقل والروح .


أعود إلى أصحابى الذين انهمكوا الآن فى أكل ساندويتشات الهامبورجروشرب البيبسى استعدادا لمشاهدة فيلم نجم هوليوود الأشهر " توم كروز " ، لماذا اعتبرتهم حالة ثقافية دالة ؟
لأننا جميعا فى الحقيقة انغمسنا فى هذه الحالة من اللهاث نحو تلبية حاجات تفرضها الدعاية الكاسحة وشركات الإعلان الكبرى ، دون أن نتوقف لحظة لنسأل أنفسنا عما إذا كنا نحتاجها أم لا، وعما إذا كانت تستحق كل هذا العناء ، وعما نفقده – بالضرورة – فى سبيل الوصول إليها.
نحن فى الحقيقة لانستهلك الكاتشب والبرجروالبيبسى والجينز والسينما ، نحن نتشرب روح ثقافة أخرى ، ونمحى فى مقابلها مايخصّنا .
هم لايبيعون لنا ضرورات الحياة ، إنما أساليب الحياة .

عماد الغزالي كاتب صحفي
التعليقات