شاهين وتورتشى.. معركة القضاء على كورونا - مدحت نافع - بوابة الشروق
الخميس 9 مايو 2024 9:44 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

شاهين وتورتشى.. معركة القضاء على كورونا

نشر فى : الإثنين 16 نوفمبر 2020 - 9:55 م | آخر تحديث : الإثنين 16 نوفمبر 2020 - 9:55 م

إلى هذا الحد يمكن أن تتحوّل تلك الوحدة الصغيرة المؤتلفة برباط الزواج المقدس إلى سفينة النجاة من طوفان الجائحة المخيف. إلى هذا الحد يمكن لآلام الهجرة وتحدياتها أن تشيّد معملا وبيتا قوامهما الطموح وحب العلم والمعرفة ليجتمع تحت سقفيهما الدكتور «أور شاهين» Dr. Ugur Sahin (55 عاما) والدكتورة أوزلم تورتشى Dr. Özlem Türeci (53 عاما) العالمان الألمانيان من أصول تركية.
حينما نزح والد الدكتور شاهين من مدينة الإسكندرونة إلى مقاطعة كولونيا، كان ابنه فى الرابعة من عمره، لكنه بالتأكيد تجرّع عبر تجربة والديه مرارة البحث عن وطن جديد، وطن لا يميز الناس إلا بالسعى، ولا يفتش فى العقائد والأعراق. ليس سهلا أن يكون هذا الوطن هو ألمانيا، التى عرفت عبر تاريخها الحديث تيارات يمينية عنصرية، تشكلت فى بواتقها نفسية نفر من المتطرفين الكارهين لكل ما هو ملوّن أو مهاجر.
فى ظروف مشابهة نشأت الدكتورة أوزلم وأحبت الطب، والتقى المهاجران فى محاريب العلم على أمر قد قدر، حتى إن «ديفيد جيليس» ذكر فى مقال فريد له بالنيويورك تايمز، نشر فى العاشر من نوفمبر الجارى، أنهما أمضيا ما بقى من ليلة عرسهما فى المعمل، كأنما أفرغا فيه شحنات المودة والنهم إلى المعرفة والإبداع، بما يكفى للتعبير المتبادل عن ألفة صادقة تسطر أولويات الزوجين من أول ليلة.
***
إذا لم تكن من الباحثين فى وسائل الإعلام عن كل تطور يطرأ على حرب البشرية ضد فيروس كورونا، وغلب عليك الانشغال بالروتين اليومى أو بالانتخابات الأمريكية أو المصرية أو حتى مسلسل ما وراء الطبيعة، فربما لم تلحظ أن أسواق المال والسلع والمعادن النفيسة قد اهتزت بقوة منذ أيام طربا لنبأ عظيم، عن تطوير شركة فايزر بالتعاون مع إحدى الشركات المختصة بالبحوث الطبية للقاح جديد ضد فيروس كوفيد ــ 19 المعروف بكورونا، وأن اللقاح المذكور قد أتى بنتائج إيجابية تزيد فاعليتها عن 90%!.
الشركة التى طوّرت اللقاح فى معاملها هى شركة «بايونتك» BioNTech المملوكة لهذين الزوجين المهاجرين، والتى يعمل بها نحو 1800 شخص، ولها أفرع فى عدة مدن بأوروبا، قد بلغت قيمتها السوقية منذ أشهر ما يزيد عن 21 مليار دولار، فى أعقاب طرح الزوجين لنسبة من أسهمهما بها فى السوق... وهى شركة جديدة نسبيا قاما بتأسيسها بعد نجاح شركتهما الأولى التى نشأت فى صورة مشروع صغير عام 2001 تحت اسم Ganymed والتى أمكنها تطوير أدوية لعلاج السرطان باستخدام الأجسام المضادة.. ثم وفقا إلى بيعها عام 2016 بنحو 1.4 مليار دولار ليدخلا بذلك نادى المليارات. للوهلة الأولى تظن أن الدكتور «أور» وزوجته قد احترفا مجال الاستثمار وجمع الأموال، لكن ما إن تعرف أنهما مازالا يقيمان مع ابنتهما الوحيدة الفتاة المراهقة فى شقة صغيرة بجوار مقر عملهما، فلربما راجعت استنتاجك المتسرّع، وأبصرت بعينى الحكمة أن الزوجين قد زهدا فى كل شىء خلا العلم وتحقيق النفع للبشرية.
منذ عامين عكف شاهين وزوجته على تطوير لقاح للأنفلونزا، وكانت مساهمتهما فى المؤتمرات تدور حول احتمال ظهور وباء جديد يصيب البشرية كما حدث مع الحمى الإسبانية مطلع القرن الماضى... تمكنا من بيع فكرة تطوير هذا اللقاح لشركة فايزر العالمية، وطورا من أجل ذلك شراكة تسمح باقتسام نجاح المشروع على نحو عادل. ظل العمل يدور على قدم وساق، وكعادة أعمال البحث العلمى فإن النجاح يكون قاصرا على نسبة ضئيلة، وفى الغالب ما يتأخر إثماره لسنوات، لكن من يعملون بهذا الحقل يدركون ذلك ويصبرون على زرعتهم، كغارس النخيل لا ينظر أن يأكل من ثمره.
البداية الحقيقية كانت مع بدء انتشار فيروس كورونا فى الصين يناير 2020، وعلى الرغم من تشويش المعلومات الذى أحاط بالموجة الأولى للوباء لدى انطلاقتها، والذى يظن الكثيرون أنه كان متعمّدا، فقد تحرّك الزوجان سريعا للبدء فورا فى تطوير اللقاح، الذى يمكنه أن يصمد أمام كورونا بالتعاون مع شركة فايزر للأدوية، التى يترأس مجلس إدارتها مهاجر أيضا لكن من أصول يونانية، ولا عجب إن كان بين الشعبين اليونانى والتركى ما بينهما من أسباب الفرقة والشقاق، فقد اصطلحوا فى محراب العلم والنفع، وكأنها فى ذاتها رسالة حب مخفية للبشرية. كان الشركاء على موعد مع المسئولية لا الفرصة، إذ أدرك العالمان أن معملهما هو الوحيد فى العالم الأكثر استعدادا لتطوير هذا اللقاح، وأنهما قد بدءا فى العمل على احتمال انتشار وباء بتلك المواصفات قبل أى مخلوق على وجه الأرض.
***
العالم كله يتسابق من أجل الوصول إلى لقاح. مصائر دول عظمى، نتائج انتخاباتها، تداول السلطة فيها، أنشطة الاقتصاد فى أنحاء الكرة الأرضية، عودة الحياة سيرتها الأولى، وقف نزيف الموتى الذى تجاوز المليون وثلاثمائة ألف ضحية، ونزيف الإصابات التى تجاوز رصيدها الخمسين مليون إصابة حول العالم!... كل ذلك رهن بظهور لقاح فعّال.
البعض أشاع أنه وجد الحل، والبعض روّج للقاحات لم تكن فعّالة، لكن أيا من هذا لم يضغط على العالمَين، ولم يدفعهما إلى العجلة فى حرق أى من مراحل تطوير اللقاح واختباره. بالطبع استفادا من الاستثناء الممنوح لاجتياز الأدوية المستحدثة فى ظروف الطوارئ، والكثير من مراحل التدقيق والفحص والاختبار التقليدية، لكنه استثناء أتاحته منظمة الصحة العالمية للجميع ولم تختص به شركة بعينها.
ولأن فى كل مشكلة فرصة، فإن العالم قد بدأ يتجاوز الصدمة الإيجابية لظهور اللقاح إلى ما وراءها من صعوبات توفيره بكميات كبيرة، وإتاحته لكل سكان العالم. لذا فقد تجد عزيزى القارئ أن برنامجا مهما على شبكة سى إن إن الإخبارية الأمريكية قد خصص وقت الهواء فيه كاملا لصالح شركة ناشئة توفّر حلولا عالية الكفاءة لنقل اللقاح فى حاويات طبية بدرجة حرارة مناسبة تحت الصفر بسبعين درجة مئوية.
الدروس المستفادة من عمل الزوجين لا تحصيها كلمات مقال واحد، لكن أبرزها يكمن فى قهر المستحيل، واغتنام فرصة التعليم الجيد مهما أحاط بها من صعوبات، وأن سر الفلاح يتجسّد فى التفانى والإخلاص إلى مشارف الإتقان، والاستعداد دائما لما يغفله الكثيرون حتى وإن كلّفك هذا الوقت والمال الكثير، والبحث عن فرصة للتميّز ولو عبر ثقب إبرة.
***
إن نجح هذا اللقاح فلا أستبعد أن يحصل العالمان الزوجان على نوبل فى الطب، وأى إنجاز أنفع للبشرية من وقف فنائها؟! ولا أستبعد أن يتوقف الجدل السخيف حول أى أصحاب الملل والنحل أنفع للناس! وأن يعى الجميع أن صلاح العقيدة مرهون بالمتلقى، فإن صح وعيه وإدراكه صحّت عقيدته وكفى الناس أذاه. وأنه ليس ثمة شر محض أو خير خالص فى أمة دون الأمم، وأن الله قد خلقنا شعوبا وقبائل لنتعارف ونتعايش. إن نجح هذا اللقاح فسوف تعود الحياة إلى طبيعتها، ويعود الإنسان أقوى من ذى قبل، فقد صهرته المحن على نحو غير مسبوق فى تاريخنا المعاصر، وأحاطت به الظنون المهلكة ومازالت، لكنه استطاع أن يخرج منها بأمانة الله التى أودعها إياه، بالعقل والعلم والمعرفة.

مدحت نافع خبير الاقتصاد وأستاذ التمويل
التعليقات